يرى الدكتور عبد السلام المسدي أنه ليس من معنى ولا من وزن لموقف المثقف العربي الذي يقول بحتمية الحدث التاريخي فيعلن تسليمه بأن العولمة شيء حاصل بالفعل ما لم يكن له وعي بأن الحاصل بالفعل لا يلغي وجود الحاصل بالقوة ألا وهو العولمة المضادة هذه الفقرة القصيرة والمكثفة بدت لي وهي بالفعل كذلك كافية بل مستفيضة لتشخيص حالة اليباب التي تكتسح أرض المثقف... هي أرض يباب تنوس فيها أشباح وظلال تخينة وقصيرة وشاحبة :كتّاب، شعراء ، روائيّون ، قصاصون ، نقاد، مغنون، عازفون، رسامون، سينمائيون، مسرحيون... كلهم يحملون صفة مثقف وأغلبهم يقفون فوق ربوة نائية جدا عن الأزقة والمنعطفات ... ينأون عن المعامل والمصانع ومخازن الشركات العابرة للإنسانية... كلهم بعيدون عن تفاصيل الوجع اليومي وعنه ساهون... لا نراهم إلا مجازا فوق الأوراق البيضاء... فوق خشب المسارح الضيقة والمغلقة للترميم... في ظلمة قاعات السينما البالية... أو في الملتقيات الولائمية والمآدب الاحتفالية... نراهم متوارين خلف هذه الأطر يكتبون عن الظلم... عن الاستغلال... الاستبداد... يشخصون الماسي... يصورون آلام البشر... يسلطون الأضواء على عتمة الخراب المعمم في جغرافيا الأحزان التي تسمى وطنا ... وأيضا يبشرون بوجه أفضل وأجمل لوجود آخر بملامح أخرى ومقومات أخرى... هل تكفي الأوراق والريشات والصور والأقلام لإيقاف تسوناميات الاستبداد الثاوية داخل كل حاكم جائر؟ هل تكفي مثل هذه الأدوات لإيقاف تسوناميات الاستغلال الثاوية داخل كل رأسمالي يجوّع آلاف النساء ويشرد آلاف الأطفال والرضع ؟ هل تكفينا آلاف القصص والروايات والأفلام والمسرحيات والرسومات واللوحات والأغاني والقصائد للوقوف صدا منيعا أمام زحف الموت والخراب القادمين من صمتنا وتشتتنا ومن غطرستهم؟ هل تكفينا جميعها لنرسم بديلا حقيقيا وصيغة أخرى لحياة من سيأتي بعدنا؟ ربما تكفينا وتكفي أجيالا قد تتناسل من جراحنا... تكفينا بالقدر الذي يُتقن واضعو هذه الأعمال وخالقوها حسن توظيفها والتمسك بالمواقف المقدمة من خلال تلك الإبداعات... قد تكفينا بالقدر الذي يتحمل فيه الفنان والمبدع والمثقف مسؤوليته كاملة فيما يكتب ويصور ويعبر... إن الثقافة تكفينا بالقدر الكافي عندما تترجل وتسير مع العاملة والعامل. تسير جنبا إلى جنب مع المزارع والمزارعة ... مع المعطل والمعطلة عن الشغل ... مع المهمش والمقصي والمفرد ... تسير معهم جنبا إلى جنب فوق الأرصفة الإسفلتية للأزقة المظلمة في المدن المثخنة بآلامها... إن الثقافة تكفينا بالقدر الذي يقف فيه المثقف في الصف الأمامي لتظاهرة شعبية... عندما نراه في الصف الأمامي لمسيرة سلمية... لتجمع عمالي من أجل حق مدني أو نقابي أو سياسي... عندما نراه يشبك ذراعيه في الصف الأول مع عضو نقابي شاب أو مع شابة حقوقية أو طالب معطل عن العمل أو مع والدة سجين أو زوجة معتقل... تكفينا الثقافة عندما يقف المثقف في صف الشعب... تكفينا الثقافة عندما يتحرر مثقفينا من عصبية البُنّ وتجمعات المقاهي الرديئة والحانات الموبوءة ويترجلون داخل شرايين المدينة وفي ساحاتها العامة... تكفينا الثقافة عندما يتفق مثقفونا وفنانونا ومبدعونا على ضرورة السعي نحو تشكيل منتدىً ثقافيًا ترتفع فيه الرواية والمجموعة الشعرية والمجموعة القصصية والقيثارة والعود والريشة واللوحة وكتاب النقد والصورة الفوتوغرافية والمقالة الهادفة... وعين الكاميرا الثّاقبة... ويتشابك فيه كتاب المثقف وقلمه مع ريشة الرسام ولوحته بمنجل المزارع والمزارعة وبمطرقة العامل وبقبضة النقابي وهتاف الحقوقي... عندما تنتصب خيام عملاقة في المدن الصغيرة المتوارية خلف الجبال والهضاب أو الشاردة في الصحارى والفيافي وفي المناطق النائية التي تسمى بهتانا «مناطق ظل» ... ساعتها يمكننا أن نحلم بوطن ينعم كل مواطنيه بخيرات حقوله ومصانعه.