متابعة اجتماعات البنك وصندوق النقد الدوليين    عريضة شعبية    عاجل/ هجوم للحوثيين يستهدف سفينة تجارية أمريكية في خليج عدن..    مع الشروق ..أيّ دور للعرب في اجتياح رفح ؟    وفد من مجلس نواب الشعب يزور معرض تونس الدولي للكتاب    بداية من اليوم: النفاذ إلى فضاء الولي بموقع مدرستي باعتماد الهوية الرقمية    العمران الأعلى: القبض على شخص يعمد إلى نزع أدباشه والتجاهر بالفاحشة أمام مبيت جامعي    هذه كلفة إنجاز الربط الكهربائي مع إيطاليا    المرسى: القبض على مروج مخدرات بمحيط إحدى المدارس الإعدادية    منوبة: الاحتفاظ بأحد الأطراف الرئيسية الضالعة في أحداث الشغب بالمنيهلة والتضامن    دوري أبطال إفريقيا: الترجي في مواجهة لصنداونز الجنوب إفريقي ...التفاصيل    صعود ركاب المترو عبر باب مهشّم: شركة نقل تونس توضّح    QNB تونس يحسّن مؤشرات آداءه خلال سنة 2023    الليلة: طقس بارد مع تواصل الرياح القوية    انتخابات الجامعة: قبول قائمتي بن تقيّة والتلمساني ورفض قائمة جليّل    اكتشاف آثار لأنفلونزا الطيور في حليب كامل الدسم بأمريكا    تسليم عقود تمويل المشاريع لفائدة 17 من الباعثين الشبان بالقيروان والمهدية    هذه الولاية الأمريكيّة تسمح للمعلمين بحمل الأسلحة!    الاغتصاب وتحويل وجهة فتاة من بين القضايا.. إيقاف شخص صادرة ضده أحكام بالسجن تفوق 21 سنة    مركز النهوض بالصادرات ينظم بعثة أعمال إلى روسيا يومي 13 و14 جوان 2024    21 قتيلا في حوادث مختلفة خلال ال24 ساعة الاخيرة!!    تراوحت بين 31 و26 ميلمتر : كميات هامة من الامطار خلال 24 ساعة الماضية    عاجل/ جيش الاحتلال يتأهّب لمهاجمة رفح قريبا    تونس: نحو إدراج تلاقيح جديدة    سيدي حسين: الاطاحة بمنحرف افتك دراجة نارية تحت التهديد    عاجل/ تعطل الدروس بالمدرسة الإعدادية ابن شرف حامة الجريد بعد وفاة تلميذ..    تحول جذري في حياة أثقل رجل في العالم    البطولة الإفريقية للأندية البطلة للكرة الطائرة: ثنائي مولودية بوسالم يتوج بجائزة الأفضل    نابل: الكشف عن المتورطين في سرقة مؤسسة سياحية    بنزرت : تفكيك شبكة مختصة في تنظيم عمليات الإبحار خلسة    باجة: وفاة كهل في حادث مرور    الاتحاد الأوروبي يمنح هؤلاء ''فيزا شنغن'' عند أول طلب    هوليوود للفيلم العربي : ظافر العابدين يتحصل على جائزتيْن عن فيلمه '' إلى ابني''    ممثل تركي ينتقم : يشتري مدرسته و يهدمها لأنه تعرض للضرب داخل فصولها    توقيع اتفاقية تعاون بين وزارة التشغيل وبرامج ابتكار الأعمال النرويجي    إعلام وديع الجريء بتمديد إيقافه مدة 4 أشهر إضافية    اسناد امتياز استغلال المحروقات "سيدي الكيلاني" لفائدة المؤسسة التونسية للأنشطة البترولية    لطفي الرياحي: "الحل الغاء شراء أضاحي العيد.."    أنس جابر تواجه السلوفاكية أنا كارولينا...متى و أين ؟    بطولة كرة السلة: برنامج مواجهات اليوم من الجولة الأخيرة لمرحلة البلاي أوف    المنستير: افتتاح الدورة السادسة لمهرجان تونس التراث بالمبيت الجامعي الإمام المازري    كأس إيطاليا: يوفنتوس يتأهل إلى النهائي رغم خسارته امام لاتسيو    نحو المزيد تفعيل المنظومة الذكية للتصرف الآلي في ميناء رادس    تحذير صارم من واشنطن إلى 'تيك توك': طلاق مع بكين أو الحظر!    في أول مقابلة لها بعد تشخيص إصابتها به: سيلين ديون تتحدث عن مرضها    الناشرون يدعون إلى التمديد في فترة معرض الكتاب ويطالبون بتكثيف الحملات الدعائية لاستقطاب الزوار    وزارة المرأة تنظم ندوة علميّة حول دور الكتاب في فك العزلة عن المسن    الاتحاد الجزائري يصدر بيانا رسميا بشأن مباراة نهضة بركان    دراسة تكشف عن خطر يسمم مدينة بيروت    ألفة يوسف : إن غدا لناظره قريب...والعدل أساس العمران...وقد خاب من حمل ظلما    الألعاب الأولمبية في باريس: برنامج ترويجي للسياحة بمناسبة المشاركة التونسية    أولا وأخيرا .. الله الله الله الله    فيروسات ، جوع وتصحّر .. كيف سنواجه بيئتنا «المريضة»؟    جندوبة: السيطرة على إصابات بمرض الجرب في صفوف تلاميذ    مصر: غرق حفيد داعية إسلامي مشهور في نهر النيل    وزارة الخارجية تنظم رحلة ترويجية لمنطقة الشمال الغربي لفائدة رؤساء بعثات دبلوماسية بتونس..    بعد الجرائم المتكررة في حقه ...إذا سقطت هيبة المعلم، سقطت هيبة التعليم !    خالد الرجبي مؤسس tunisie booking في ذمة الله    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



هتك أسرار التلفزات العربية وأسباب إنحطاطها
«تسريب الرمل» لخميّس الخياطي: حسن بن عثمان
نشر في الشعب يوم 10 - 03 - 2007

كم تشبه لغة خميّس الخياطي مشيته في كتابه «تسريب الرمل: «الخطاب السلفي في الفضائيات العربية» الصادر في أواخر سنة 2006 عن دار سحر للنشر بتونس. يكتب الخياطي مثلما يمشي في الطريق العام. مندفعا بجسمه النحيل الحاد، منتصب القامة ممشوق القوام. في أناقة وحيوية تتابع خطواته المتدفقة رشيقة ومسرعة تجعله يمرق كالسهم وقد اشتعل رأسه بياضا ولحيته شيبا. صفات مشيته هي ذاتها خصائص كتابته. الاندفاع، السرعة، الأناقة والرشاقة، واختراق الهدف دون تلعثم ولا حذلقة ولا مساومات ولا تسويات ولا لف أو دوران وقد اشتعلت، هذه المرّة، كلماته بحكمة الشيوخ وبهاء الشباب.
متسلحا بمعرفة واسعة واطلاع مذهل، عبر مراجع ومصادر وهوامش مكتوبة ومرئية ومسموعة شديدة التنوع وفائقة الثراء والكثرة، زاخرة بالمعلومات والمعطيات والإحصائيات والمعلومات والإضاءات والإشارات، كتبا وجرائد محلية وعربية وأجنبية، خصوصا تونسية ومصرية وفرنسية، وقنوات تلفزية فضائية عديدة وعلاقات شخصية مترامية الأطراف في الداخل والخارج، وفوق ذلك، أو قبل ذلك، متسلحا بخبرة طويلة في ميدان السينما والصورة عموما، وكذلك بوعي ذهني، ثقافي واجتماعي وسياسي، وبحس المواطن المهموم بمصير وطنه وقومه، ولغة قومه ومنزلة قومه وبؤس قومه وانحطاط قومه وآمالهم شبه المستحيلة، يقوده فضول الصحفي المحترف الذي خبر الميدان وتمرس على الظفر بالمعلومة واقتناصها مهما عزّت أو نأت أو حُجبت. متسلحا بكامل عدته وعتاده يباشر في كتابه الذي نحن بصدده تصفية بعض الحساب مع ما يسميه مقدم الكتاب المسرحي الكبير الفاضل الجعايبي: «أكبر كارثة عرفها الإنسان بعد القنبلة الذرية» ص13، وهو تشبيه رائع، يثير القشعريرة في البدن من فرط ترويعه، أطلقه الجعايبي من شدّة وعيه بخطورة التلفزيون على المصير الإنساني الراهن.
هذا عن الإنسان مطلقا و»كارثة» التلفزيون مهما كانت جنسيته ولغته. لكن ماذا إذا كان ذلك الإنسان عربيا، والعرب على اختلاف بلدانهم وحّدهم التلفزيون الفضائي ويحق لنا في هذا المقام الكلام عن العرب، وفي كل مقام له نسبة بالرداءة والحمق! وماذا إذا كان ذلك التلفزيون ناطقا بلغة الضاد أو بلهجة من لهجاتها؟؟
هنا تصبح الكارثة ساحقة ماحقة وبلا أمل لتصور أو تحديد أضرار وبائها وتخريباتها، هذا على الأقل، أقول على الأقل، ما لا ينفك خميّس الخياطي في كتابه «تسريب الرمل» عن الإلحاح عليه كهاجس لا يمكن نسيانه أو التهرّب منه أو التحايل عليه.
عربي وأعطي تلفزة
ماذا سيفعل بها؟
سيهلك بها نفسه أولا وكل محيطه تبعا، بل كل ما يمكن أن يصل إليه بالصوت والصورة. وتبقى المسألة مسألة وقت يكثّفه بطريقة باهرة عنوان الكتاب الموحي «تسريب الرمل»، ومتى ما أزف الوقت في ساعة الرمل، وهو في سبيله للأزوف، ما في ذلك شك، ما استمرت الأمور على حالها، ستقود تلفزاتنا العربية مجتمعاتنا العربية، ببرامجها الحمقاء الجهولة، إلى ظلام دامس في كهوف أبناء لادن والظواهري ومن لفّ لفهما. هذا ما تكاد تنطق به كل جملة من جمل هذا الكتاب، بعد العرض والبحث والتحليل والتمحيص وفحص خطابات الدعاة التلفزيون الدينيون الجدد والقدماء الذين يبيعون الوهم والخرافة ويتلاعبون بالعقول والأرواح ويشيعون التفاهة والحمق المعممين.
إنه كتاب يتمتع بالراهنية بكل ما فيها من دواعي الذعر والفزع والإحباط، وهو يعمل خلال كل مقالاته وفصوله على قرع ناقوس الخطر بعنف وتوتر ووعي شقي بالفاجعة... من يسمع؟ وهل على القلوب أقفالها وعلى الأسماع أختامها بالشمع الأحمر؟
إلى أين يصير السمعي بصري في تونس؟
لا جدوى من محاولة حوصلة هذا الكتاب وتقديم ما ضمت فصوله من معلومات وبيانات وأرقام وتحاليل واستنتاجات، فهو متاح في المكتبات التونسية لمن يرغب في الاطلاع على ما فيه من مسائل على غاية من الخطورة والأهمية والمصيرية، مع أنه جدير بالمكتبات العربية وبالقراء العرب خصوصا، لأن نوعية نصوصه ومجال اشتغاله ليس محليين. هنا سنحاول فقط الإشارة إلى بعض المحاور الأساسية التي تضمنها.
في مدخله يحاول الخياطي أن يفصح عن نواياه من نشر هذا الكتاب وهي نوايا لا تخفي رغبتها في التنوير والمساهمة في تحصين ما تبقى من مناعة في العقل العربي، ذلك هو شاغله الرئيس من الكتاب وذلك يتجلى، حقيقة، في متن الكتاب وحواشيه.
يتعرض الخياطي في البداية بكثير من الكفاءة وسعة الإطلاع والإلمام بمختلف رهانات العمل التلفزي وشروطه وإمكانياته وخفاياه إلى حالة الإعلام المرئي التونسي في سياقه الاتصالي المحلي العام وفي سياقه الحضاري والدولي. يفعل ذلك بكيفية لم يسبقه إليها أحد من قبل. سواء من جهة ابتعاده عن الانطباعيات والارتجال والأحكام والمجاملات أو التقبيحات والأحقاد. أو من جهة تخصصه وتمكّنه من علم المرئي وفنونه، ومهارته المعرفية في التقاط اللقطات والمشاهد والبرامج الفضائية التي تفيض بالدلالة وتسمح بأن تكون منتخبات لها قوة تمثيل لمن سواها، يفعل ذلك بنزاهة ثقافية وعمق التحليل ومصداقية المعلومة وحذر الاستنتاج، مع أنه بين الفينة والأخرى يحاول أن يحيّد عمله بالتنويه بالقيادة السياسية العليا، وما ينسبه لها، موثقا، من حرص على تطوير القطاع سمعي بصري بالتشريعات والقرارات والخطب، فهو يدرك بحنكته المهنية أنه يخوض في حقل مليء بالفخاخ والمكائد والمنزلقات. وفي ذلك ينجح كثيرا في تقديم معلومات من مصادر مختلفة في سياق تحليلي حصيف ودقيق يعمل على دفع تلك المعلومات من مصادرها المختلفة ومشاربها المتباعدة لكي تحتشد كلّها حول خلاصة فيها الخلاص، بحسبه وبحسبنا، لأنها تضع الأمور في نصابها فيما يخص شأن المجال السمعي البصري في تونس ومنها هذه الفقرة في الصفحة 50 لا أحد في تونس اليوم يعلم إلى أين يسير فتح المجال السمعي البصري للخواص إذا لم تحدد المعايير ويوضع كراس الشروط وتقام سلطة إدارية مخول لها دراسة المشاريع والبت فيها قانونيا وبكل شفافية... خلاف ذلك، من المؤكد أن المشاهد التونسي الباحث عن معلومة صحيحة تخص بلاده سيجري وراء الفضائيات الأجنبية التي تعمل لمصالحها الأيديولوجية ما دام الإعلام المحلي لا يؤدي عمله. لحين حصول ذلك، يعيش القطاع السمعي بصري التونسي فترة قد تمتص فيه أهم قواه. وهو أمر تخشاه عديد الأحزاب ومنها أطراف في الحزب الحاكم، ناهيك عن المجتمع المدني والصحافيين ومهنيي الإعلام السمعي بصري».
الإسلام والبزنس السينمائي
كأن كتاب خميس الخياطي مقسّم ضمنيا إلى قسمين أساسيين. الأول يتناول فيه قضايا تهم مسألة الصورة في الإعلام المرئي بصورة عامة وهو من صفحة 23 إلى صفحة 78، والقسم الثاني من صفحة 101 إلى صفحة 153 ، ويتمحور حول الإسلام السياسي أو الخطاب السلفي الديني المرئي في العديد من القنوات التلفزية العربية. علما أن «تسريب الرمل» يقع في 212 صفحة من الحجم المتوسط تستهله مقدمة الفاضل الجعايبي وتختتمه قراءة الباحث والصحفي عادل الحاج سالم، ومذيّل في نهايته بمجموعة من الملاحق ذات الشأن بالمواضيع التي تعرضت لها محاور الكتاب.
إن هذا الحقل المسمى الإعلام السمعي بصري مازال بكرا في البحوث العربية، والدراسات التي تناولته قليلة جدّا خصوصا منها تلك التي لها همّ ثقافي وليست مجرد بحوث تقنية أو رسمية أو رسائل جامعية، وفي تونس ليس لنا خلاف هذا الكتاب لخميس الخياطي الذي هو في الأصل مقالات صحفية صدر أغلبها في جريدة القدس العربي اليومية التي تصدر من لندن أعاد الخياطي، مثلما يقول «مراجعتها وتوليفها ومزجها بعد تحيينها بعديد الهوامش»، ليس لنا سوى كتاب يتيم سبق أن نشره الباحث الهادي خليل بعنوان «العين الشغوف» وهو الآخر مقالات صحفية سبق أن نشرت في الجرائد التونسية. عدا هذين الكتابين ذوي الخلفية الصحفية فمنشوراتنا قاحلة في هذا النوع من الكتب، رغم الثقل الهائل لقطاع السمعي البصري في الحياة اليومية في المجتمع التونسي مثله في ذلك مثل غيره من المجتمعات العربية كلّها. لذلك فإن جلّ ما جاء في «تسريب الرمل» جديد ويتمتع بالجرأة والطرافة وروح المغامرة، ومن ذلك تعرضه لتجربة الأفلام والمسلسلات العربية، المصرية في أغلبها الأعم، التي تدعي صلتها بالدين وكيف بيّن خميس الخياطي تهافتها وفقرها وتسترها بالدين لتخفي عجزا إبداعيا كاسحا وخواء فنيا لدى أصحاب هذه الأعمال، وفي هذا السياق يتناول المؤلف أعمال مصطفى العقاد ليكشف لنا عن هشاشتها وتهافتها وتواكلها الفني على أعمال المبدعين السينمائيين الغربيين. يسجّل الخياطي أن فيلم الرسالة، مثلا، ما هو إلاّ «استنساخا للأسلوب الهوليوودي في الحركة والزمن والدراما ولا يمتلك من الإسلام إلا الحدوثة التي لو استبدلنا شخوصها بشخوص من حضارات أخرى، لحصلنا على نفس النتيجة. في حين عندما طلعت الموجة الإيرانية (مخمالباف وكيارستامي وغيرهما) كانت تجر خطابا مغايرا في الفكر والتصور ورؤية العالم وتأثيره على أصحاب القرار والإعلاميين كان أكبر بكثير من تأثير «الرسالة»... لماذا إذا كل هذه المصاريف التي كان بإمكانها أن تصنع عشرات الأفلام العربية (وخاصة الليبية) الموجهة للغرب والأفلام الأمريكية ذات البعد العربي الموجهة لأمريكا» ص75. وهذا الضرب من الأفلام والمسلسلات التي تدعي وصلا بالدين والتي تكلف أموالا طائلة تبتزها من جهات لها حسابات غير فنية ولا ثقافية ولا حتى دينية، ما هي في النهاية، حسبما يصرّح به الكتاب، سوى بزنس يمارسه أشخاص من أمثال السوري الأمريكي مصطفى العقاد الذي قتل في الأردن جراء هجمات إرهابية والذين همهم الأول هو جني الأموال قبل أي شيء آخر، دون اكتراث بالانشغال الإبداعي كأسمى مرتبة من مراتب عبادة الخالق وأعمار الكون، بالإضافة إليه لا بتجميد نماذجه الحاصلة واستنساخها وتكرارها، بصورة تُفقر العقل والروح وتنشر الجدب وتعمّم البلادة. وتلك ما هي إلاّ عبادة أوثان وأصنام، ولا يمكن أن تكون بأي حال من الأحوال عبادة الخالق، الذي فطر خلقه على الكدح للتعلم منه، ومضاهاته في الخلق المتاح لهم في مختلف ضروب الفن والإبداع. فخلق الخالق تام، نهائي ومطلق، وخلق مخلوقاته ناقص ومؤقت ونسبي.
محتكرو الدّين في الفقه والسياسة
ثمة فكرة ذكية مبثوثة خلال تضاعيف هذا الكتاب وخاصة في قسمه الذي احتوى التسريبات الخمسة حيث عنوان تسريب : من الديناصورات إلى هيمنة الوهابية. وتسريب : وجمّدوا عقولنا. وتسريب : ولماذا تتكلم ال»بنلادنية» وتسريب : من قناة عمياء إلى جهل بالجاهلية، وتسريب 5: الإعلام الهادف والغالبية الأخلاقية. يتوّج هذه التسريبات مقال متفائل، أخيرا بعض التفاؤل! يضع له عنوانا رشيقا: «عن الفيلة الناطقة بالعربية» وفيه يتعرض لبعض الأسماء الثقافية العربية التي ظهرت هنا وهناك في قنوات فضائية عربية واعتبر المؤلف خطابها فيه بصيص من نور الأمل الذي لعلّه يتوسع أكثر ويحوز على مزيد من المساحة في العقل والروح العربيين لكي يحوّل وجهة الزمن العربي من حالة تدهوره ونكوصه وتزمته إلى زمن ينبض بالحياة والتفاعل ونماء الإنسان... أما عن الفكرة التي وصفناها بالذكية والمبثوثة خلال الكتاب وخصوصا في «تسريباته الخمسة» فهي حسب استنتاجنا مفادها أن التزمت الديني والخطاب الأصولي السلفي لهما مقتل لا تخطئه عين البصر والبصيرة، وهذا المقتل هو الفن والإبداع. هنا تحديدا يتخبط الخطاب الديني الأصولي السلفي ويفقد صوابه فيسهل الإجهاز عليه. إن ساحة النزال مع الخطاب الديني السلفي لا يمكن أن تكون في السياسة ولا في الأيديولوجية ولا في الفقه ولا حتّى في المعرفة ولا في التاريخ، ففي كل هذه الميادين يتمتع الخطاب الديني السلفي بالكثير من القدرة على الجدل والنزاع، وفُسح المناورة والمغالطة والتلوّن والتنكّر وإخفاء وجهه القبيح، والتستر على حجم الموت الذي يدخره للبلاد والعباد. أما إذا ضاهينا بين الفن والحياة في مقابل السلفية والموت، وألقينا بسؤال الإبداع على أصحاب الخطاب الديني السياسي وقتها لا مهرب لهم إلاّ الكشف عن قناعاتهم العميقة التي تعادي الإنسان والحياة.
سؤال الموسيقى. سؤال السينما. سوال المسرح. سؤال الرقص. سؤال الرواية. سؤال الشعر. سؤال الرسم. سؤال الغناء»....
تلك أسئلة كلّما أشهرنا منها سؤالا في وجه الإسلام السياسي وصنوه الفقهي الرسمي وغير الرسمي إلاّ وتطيّر وتضعضع وفقد السيطرة على وعيه وعلى كلامه، وسرعان ما يلوذ بفتوى التحريم ليسفر عن روحه وفكره المعاديين لكل فن وإبداع، أي لكل إنسان ولكل حياة، لأسمى ما في الإنسان وما في الحياة، على غرار ما جاء في كتاب الخياطي بالصفحة171 عن مشاركة مفتي الديار المصرية الأسبق في برنامج حواري بإحدى الفضائيات العربية ورأيه في منع الإبداع الروائي وقوله حرفيا: «الإبداع دنيوي بحت ولكن حينما يتعارض الإبداع مع ثوابت الدّين ويؤثر على العامة فهو الضرر بعينه»...
طبعا لا بد في الإسلام كما يراه المفتي أن يكون ثمة خاصة وعامة. وسيادته يمثل الخاصة ويتكلم نيابة عن العامة، ويحق له أن يحدد لنا ما الذي هو من ثوابت الدين وما الذي هو من أعراضه ومن متحولاته، ومن يؤثر في العامة ومن لا يؤثر؟ ما هذا الحمق المتمادي؟ الإسلام الذي كرّم ابن آدم وخصّه بالتشريف والتكليف وألهمه الفجور والتقوى وجعله متحملا لمصيره ولأوزاره بصفته الإنسانية الخاصة. الإسلام الذي هدم الكهنوت والوساطة بينه وبين عباده المتساويين بين يديه بلا أدنى تمييز بين عامة وخاصة. يأتي المفتي ويأتي الاحتكاري الإسلامي، دينيا وسياسيا، لينفرد بالنطق باسم الإسلام والتسلط على خلق الله وفرز الإبداع الذي يتعارض مع ثوابت الدّين وذلك الذي لا يتعارض، أي أن هذا الرهط من الناس يمنح نفسه صلاحية أن يفهم في الدين أولا بكل تشعيبات حقوله وحقبه وعلومه، ويفهم في الرقص ويفهم في الرواية ويفهم في السينما وفنون الصورة وفي كل ضروب الفن والإبداع، وهو، الفقيه، المفتي، رجل الدين، الناطق باسم الجماعة، العامل في السياسة باسم الدين، إنه هو بلباسه التقليدي، وعقله التقليدي، وكلامه التقليدي، وزمنه التقليدي، ولسانه التقليدي، وهدفه التقليدي، وربّه التقليدي، يسبح في فضاء رقمي غير تقليدي هو من إبداع الروم والكفار، إنه هو يجرّ ذيل هركته (جلبابه) ويترنّح ويرتعش وقد أضمر في نفسه أنه الممثل الشرعي الأوحد للعناية الإلهية والناطق الرسمي الوحيد باسم دينها. لكن هيهات. لابد من الإطاحة بمحتكري الدين، فقهيا وسياسيا، بالدرجة ذاتها، وفي اللحظة ذاتها. عدا ذلك لن يكون للمسلمين أي وجود فعّال ومبدع في هذه الدنيا ولا حظّ لهم في الآخرة.
على كل حال، يعود الفضل في هذه الكلمة إلى كتاب خميس الخياطي الذي ينقل لقارئه الرغبة في التفاعل معه، لأنه من الكتب التي لا يمكن أن تكون محايدا أبدا في قراءتها. فضلا على أنه يشكل وثيقة وذاكرة لأحداث وبرامج ووقائع أُنتجت بنيّة أن لا تكون وثيقة وأن تظل خارج الذاكرة، ولكن الخياطي أفسد عليها بداهيتها وغفلتها، والتقطها متلبسة بأفعالها الدنيئة، وتلك من الميزات الأكيدة لهذا الكتاب الذي قدمه المسرحي فاضل الجعايبي بنص رائع فيه بورتريه معنوي لمسيرة خميّس الخياطي وفرادة تجربته، وفيه عتاب وتباين ونقد وموافقة وإعجاب بلغة لا تعرف للنفاق ولا للمهادنة سبيلا. وكذا شأن القراءة الثاقبة للباحث عادل الحاج سالم. هذا دون أن ندعي أن كتاب «تسريب الرمل» خال من العيوب والهنات، فبما أن صاحبه كتبه على إيقاع مشيته، فمن المؤكد أن المشي، كما زاوله الفلاسفة المشاؤون، يسنح لأفكار جوهرية أن تنبثق وأن ترى النور ولكن لا وقت لديه، المشي، لصياغتها الصياغة المثلى. من ذلك أن الخياطي يتحدث أحيانا عن حصص تلفزية في هذه القناة أو تلك دون أن يثبت المرجع كاملا مثل اليوم والتوقيت، مع أنه مهووس بالتدقيق في الهوامش التي حفل بها كتابه. كذلك في مواضع من كتابه يتحدث كثيرا عن مصادر شفوية ولا يذكر هويتها كاملة لكي يتمكن القارئ من التثبت فيما يكتب له على أنه ليس من باب الاختلاق. ثم لا ندري لماذا يؤكد المؤلف صداقته للكثير من الأسماء التي ذكرها، كما أنه في بعض المرات تلتبس عليه الأرقام المالية في ميزانية مؤسسة الإذاعة والتلفزة التونسية فيذكر الألف دينار على أنه مليون دينار والعكس بالعكس. وفي الحقيقة فقد اكتظ الكتاب بالأرقام والبيانات والمعطيات والمعلومات إلى درجة مثيرة للإعجاب وقد وظّف المؤلف أغلبها الأعم ببراعة، براعة تجلت أيضا في لعبه اللغوي وسخريته اللمّاحة التي جعلته يشتق صفة جديدة هزلية لأولئك المغرمين بألقابهم العلمية الطنانة دون أن يقابلها علم في الواقع. صفة دكتورائية لدكاترة الفضائيات الذين يتكلمون بدكتورائية لا غبار عليها.
ولا بأس أن نعيد، ختاما، نشر الفقرة الأخيرة من كتاب خميس الخياطي وذلك بغاية رفع المعنويات: «بعد هذين البرنامجين من صنفين مختلفين في فضائيتين عربيتين من جميع الفضائيات التي يغلب عليها رأس المال الخليجي بأكثر من ستين في المائة نستشف بصيص أمل في أن مملكة الدانمارك ليس بها هذا العفن كله الذي يحاصرنا في حياتنا اليومية كما في حرية مسالك تفكيرنا. من جهة حكام صغار لا هم لهم إلاّ كراسيهم والعلاقات الزبونية التي تعززهم، ومن جهة أخرى ما يسمى بالإسلام السياسي الذي هو سلفية سياسية قبل أن يكون إسلاما. فنؤمن مجددا أن عالمنا العربي له من طاقة تجديد دمائه بما لا تقوى عليه كل الاتجاهات الأصولية السلفية مجتمعة ما دام هناك من أبنائه من يؤمن بأن حصانة الفرد المواطن وحرية النقد وحق الاختلاف هم أمثل الوسائل للوجود في هذا العالم وعليهم وبهم تقام وتتمتّن الحضارات».


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.