كلنا يتذكر كيف كانت أبواق الدعاية تصدع آذاننا زمن المخلوع بمقولة «دولة القانون والمؤسسات»... لكن كلنا يعلم أنها كانت اسطوانة مشروخة وأن القصد منها كان تسويقا خارجيا لا غير وأن الواقع كان غير ذلك: حكم فردي خاضع إلى الأهواء والنزوات، سيطرة عائلية وجهوية وحزبية على مفاصل الدولة ودواليب الاقتصاد، مظالم تبتكر يوميا لإشباع المصالح... وأجهزة وأدوات مسخرة جميعها لهذه الأهداف من إعلام وقضاء وبوليس وإدارة وبنوك... ثم جاءت الثورة ضد هذا الفساد والاستبداد ... وكان من المفروض أن يتم الاسراع، ونحن في مرحلة انتقالية، ببناء دولة القانون والمؤسسات كضامن حقيقي لعدم العودة إلى بشاعة الحكم الفردي... وكان من المفروض الاستفادة من الترسانة القانونية المتوفرة، وهي لا تعوزنا في السابق، وتفعيلها وتطوير آليات تطبيقها ومتابعتها ومراقبة تنفيذها، وكان من المفروض، تحرير أجهزة الدولة ودفعها الى مزيد المأسسة لتكون الحاجز الفعلي ضد كل ارتداد... وكان من المفروض أن نخلّص الادارة من الانصهار في الأجهزة الحزبية لتمارس مهامها في تسيير المرفق العام بكل حيادية وحرفية... وكان من المفروض اعادة هيكلة كلّ من الأجهزة القضائية والأمنية لتثبيت دورهما في إشاعة العدالة والمساواة امام القانون في إطار من الاستقلالية والحيادية تقضي على ما كان يخضع إليه هذان الجهازان الحساسان من توظيف وإفساد وابتزاز... وكان من المفروض ترك الإعلام يعيش تجربة الحرية بعد الثورة ويفرز مساره المستقل بعيدا عن الارتباط العضوي بالسلطة وذلك في إطار قانوني يحمي الحرية ويرعى الاستقلالية... لكن كلّ هذا المفروض ظلّ فرضيات وشعارات تُستخدم للتسّويق الحزبي ولكنّها تتبخّر على أرض الواقع ويمارس عكسها: نهمٌ كبير في السلطة، وجشع غريب للمصالح، ونزعة مفرطة الى الهيمنة والسيطرة على كلّ شيء. لقد تحولت هذه الملفات الى أداة للاخضاع والاكراه... فسُوِّقت مقولة «تطهير اعلام العار» وكان الغرض منها ولايزال بسط النفوذ من جديد على الاعلام وتحويله من جديد، بوقا للسلطة وبوقاحة تفوق أحيانا ما كان يمارس في السابق... ورُوِّجَ كثيرا لقرار عزل عدد من القضاة بدعوى التطهير، ولم يكن ذلك غير تسويات بسيطة لملف هيكلي هدفها اعادة جهاز القضاء الى بيت الطاعة بلا مواربة أو تخفّ... كما ظل جهاز الأمن كلعبة «البوكر» خاضعا إلى لمفاجآت تطير فيه رؤوس وتعلو أخرى دون المساس بالمنظومة الأمنية نفسها... أما الادارة فبسط النفوذ عليها واضح بيّنٌ لا يحتاج الى قفازات للقيام به بوصفه «استحقاق الأغلبية» و «مجازاة» على سنوات الحرمان!!! إذن كل المؤشرات تنمّ عن غياب المقاييس والمعايير أي غياب القانون... وكل الدلائل تثبت بداية ذوبان المؤسسات في الفرد والحزب والجهة والعشيرة وبالصفاقة إياها... بلا حرج و «بعين صحيحة»، بل ضمن اطار مشهدي شبيه ب «سكوت حنصوّر»... ولا تعوزكم الأمثلة على ذلك ولن أذكرها لكثرتها وحتى لا أنسى بعضها... يعني سرقة موصوفة، سرقة المؤسسات تحت الأضواء والكاميرات تحت غطاء الشرعية... مرة أخرى تستخدم الشرعية تبريرا للاستبداد ومرة أخرى يكون غياب القانون مقدمة للديكتاتورية ومرة أخرى يحل الفرد محل المؤسسة... لهذه الاسباب وغيرها ضمّن الاتحاد العام التونسي مبادرته جملة من التوافقات حول عدد من هذه المؤسسات التي ذكرنا ليكون الإسراع بها تجاوزا للانزلاقات التي مورست إلى حدّ الآن سواء تعلّق الأمر بالهيئة العليا المستقلّة للانتخابات أو بالهيئة العليا المستقلّة للإعلام أو بالهيئة العليا المستقلة للقضاء أو كان متصلا بتحييد الإدارة وإصلاح المنظومة الأمنية.