كانت تلك الأيام خارجة عن السيطرة لكن الذي أعطاها دفعا كانت الإضرابات الجهوية التي دعت إليها النقابات و مع ذلك تبقى القوة المنتفضة الرئيسية التي كانت في الواجهة هي الفئة المهمشة التي كانت خارج علاقات الإنتاج و التي يصعب تصنيفها اجتماعيا : هل هي بروليتارية أم بورجوازية صغيرة ؟ على كل كانت هذه القوة ترفض التصنيف والتنظم و هذا ما يفسر أيضا فشل سلطة القمع في ضبطها أو التحكم فيها و هذا ما يفسر أيضا العقلية المعادية لكل الأحزاب و للتحزب التي انتشرت بعد 14 جانفي وخاصة في القصبة 1 و 2 ، فقبل ذلك خانت أغلب الأحزاب الثورة و الشباب الثائر و تخلت عنه ما عدا حزب العمال و بعض الأطراف و الحساسيات السياسية التي لم تنتظم بعد و لعل الأمريكان أسهل على السلطة في عملية القمع و إخماد الانتفاضة لو كانت لها قيادة سياسية لأن الأمر كان يتوقف على تصفية تلك القيادة سواء بالسجن أو بالاغتيالات لتعود الجماهير المنتفضة إلى منازلها لكن اعتقال أغلب القادة الثوريين و الشباب الحزبي الثوري لحزب العمال و بعض الشباب المستقل لم يوقف زحف الجماهير و لم يؤد الغرض إلى درجة اعتقاد الجنرال المخلوع «بن علي» أن عقد صفقة مع حمة الهمامي القابع في زنزانة في قبو الداخلية سيوقف كل ذلك و هذا ما ذكره آخر وزير للداخلية في عهد المخلوع . حيث طلب منه بن علي عقد اتفاق مع حمة الهمامي صبيحة 14 جانفي مقابل اطلاق سراحه و كان رد وزير الداخلية لرئيسه :« إنه سيرفض ذلك، الأفضل إطلاق سراحه دون شروط حتى يخفّ الضغط علينا » . لكن ما حدث بعد ذلك بساعات قليلة لم يكن مفهوما و ظل لغزا صعب الحل هل فرّ بن علي نتيجة لضغط الشارع وخوفا من زحف الجماهير المنتفضة ، أم في إطار مؤامرة حيكت في كواليس قصر قرطاج والحكومة ؟» على كل أسرار تلك الأيام مازالت محفوظة و تحت أيدي الماسكين بدواليب النظام إلى يومنا هذا، فكل الحكومات المتعاقبة بعد 14 جانفي تميزت سياستها بالتحفظ على ملفات الفساد الكبرى والتمويه بالمحاسبة في ملفات جزئية وبعض الأوراق المحروقة من مافيوزات العائلة الحاكمة لكن رؤوس النظام الفاسد تمتعوا بحصانة نتيجة لصفقات في الكواليس بطبيعة الحال . إن الحكومة الأولى لما بعد 14 جانفي و التي حاولت المسك بزمام الأمور بأغلبية من وزراء بن علي و إيهام الشعب بأنها حكومة من الأيدي النظيفة بعد أن زينت تشكيلتها بحزبين من المعارضة الراديكالية نوعا ما ، حاولت الصمود أمام المد الثوري لشباب الثورة و بعض الوجوه اليسارية المناضلة وحزب العمال الشيوعي الذي رفع شعار« المجلس التأسيسي ». هذه الحكومة وجدت مساندة من الأحزاب الليبيرالية ودعما من بقايا التجمع و صمتا متواطئا من الإسلاميين و خاصة حركة النهضة التي أعلنت في مجلسها الوطني الأول أنها تساند حكومة محمد الغنوشي وتراقبها ولكنها تراجعت مرة أخرى عن هذا الموقف مع ارتفاع وتيرة الاحتجاجات وخاصة اعتصام القصبة 2 ، الذي أدى إلى إسقاط هذه الحكومة و تعويضها بحكومة السبسي، ولعل ما يميز فترة هاتين الحكومتين هي سياسة الفوضى الخلاّقة وأحداث العنف و الصراعات الدموية التي يتم افتعالها كلما تحرك الشارع مطالبا بالتسريع في محاكمة رموز القمع و تحقيق أهداف الثورة ، لكن سياسات تلك الحكومتين كانت تصب في خانة تجريم الشعب أو تكريس عقدة الذنب بخلق حالة من الانفلات الأمني تجعل الشعب يندم على ثورته وانتفاضه ، وتجعل مطلبه الأساسي عودة الأمن ، وبذلك يحسّن النظام من شروط بقائه و هيمنته وإن كان ذلك بوجوه أخرى ، وكانت هذه الاستراتيجية المعتمدة على إلهاء الجماهير في معارك وهمية فعالة يتم تدعيمها بفزّاعات مثل عجلة الاقتصاد وانهيار البلاد والحرب الأهلية والتطرف وتهديد الهوية العربية الإسلامية و تغذية الصراع بين الليبيراليّين والمنتسبين إلى اليسار ضد اليمين و المحافظين ، وهكذا نجح النظام في تمرير مخططه و الالتفاف حتى على مطالب الثورة في حد ذاتها وجعل المجلس التأسيسي والانتخابات أداة لشرعنة النظام القائم وسياسته الليبيرالية المتوحشة عوضا عن القطع مع النظام السابق بعبارة أخرى نجح النظام في إفراغ الثورة من محتواها الاجتماعي والاقتصادي والوطني وصبغها بطابعه التفقيري الوحشي القائم على حماية مصالح الأغنياء والقوى المالية الكبرى وضمان استمرارية الدولة بنفس الطابع القديم كجهاز للقمع الطبقي ، وعبر توظيف الصراعات الهامشية بدأ الابتعاد عن جوهر الثورة والمسار الثوري شيئا فشيئا بهدف نسيان الأهداف الحقيقية للثورة و التي تطلبها الواقع الاجتماعي ورغم من نجاح العملي السياسية لمحطة 23 أكتوبر فإن الواقع الاجتماعي طل نقيضا للواقع الاجتماعي و هذا التهليل لنجاح عملية الانتقال الديمقراطي نجد أنه لا يختلف في شيء عن تهليل النظام البائد لديمقراطيته و التعددية السياسية نعم لا شيء تغير غير أن الشعب كسر حاجز الخوف و هذا يعتبر مادة خاما لإمكانية استمرار الواقع و المخاض الثوري لعدة سنوات قادمة ، فالثورة هي مسار قد يمتد لعشرات السنين ، لكن يجب أن يجد هذا المسار طريقه الصحيح و قيادته الفعلية ، فقبالة هذه الفوضى العارمة على الثوريين تعديل بوصلتهم ومراجعة آليات ممارستهم و تنظّمهم وفق متطلبات التطور التاريخي لقوى المجتمع و هذا لا ينطبق على المجتمع التونسي فقط بل على كل المجتمعات التي تشهد حراكا ثوريا شعبيا و تدخّلا خارجيا لتوجيه هذا الحراك بعيدا عن آفاقه الفعلية ومطالب الفئات الشعبية إلى حد الآن تجد استراتيجيا الالتفاف نجاحا باهرا ويجد الصراع الليبيرالي يمين - يمين مكانة لدى الجمهور الانتخابي الذي يحث الخطى نحو صناديق الاختراع ، بعد إيقاظه من سباته العميق من قبل مؤسسات الضبط الاجتماعي التي عولت على جمهور الأغلبية الصامتة وهو الجمهور الذي لم يشارك في حراك الشارع ومن المؤكد أن الجمهور الانتخابي سواء في تونس أو في مصر وخاصة ذلك الذي اتجه إلى القوى اليمينية الرجعية ليس هو نفسه الجمهور الذي شارك في الثورة و أسقط الطغاة . نعرف جيدا أن تونس بلد الإثني عشر مليون ساكنا لم يخرج منها إلى الشارع بين 17 ديسمبر و 14 جانفي إلا عدد لا يصل إلى المليون في كل الحالات ، كذلك نفس النسبة المئوية سنجدها لدى الجمهور الثوري في مصر . إذن يمكن القول إنّ القوى القديمة جددت نفسها عبر تغيير وجوهها وعبر تجنيد جمهور انتخابي باستغلال المال السياسي والعزف على وتر هويته الدينية و مقدساته عبر إيهامه بتعرضها للتهديد من قبل اليسار والعلمانيين الكفار لكن هذه اللعبة لن تطول فهذا الجمهور متحرك وغير ثابت وسرعان ما سيدرك أن الديمقراطية التي يقدمونها له تحت ما يسمى بالربيع العربي ما هي إلا ديمقراطية زائفة وأن الحرية التي يمنحونه إياها ما هي إلا«حريّة العبيد في اختيار أسيادهم » على حدّ تعبير هربرت ماركوز !