وزير السياحة: 80 رحلة بحرية أي قرابة 220 ألف سائح اختاروا الوجهة التونسية    كاتب فلسطيني أسير يفوز بجائزة 'بوكر'    الرابطة 2.. النتائج الكاملة لمباريات الجولة 20 والترتيب    إيران تحظر بث مسلسل 'الحشاشين' المصري.. السبب    بعد انفصال لعامين.. معتصم النهار يكشف سبب عودته لزوجته    إنتخابات جامعة كرة القدم: إعادة النظر في قائمتي التلمساني وتقيّة    بطولة المانيا: ليفركوزن يحافظ على سجله خاليا من الهزائم    بين قصر هلال وبنّان: براكاج ورشق سيارات بالحجارة والحرس يُحدّد هوية المنحرفين    البنك التونسي للتضامن يحدث خط تمويل بقيمة 10 مليون دينار لفائدة مربي الماشية [فيديو]    بسبب القمصان.. اتحاد الجزائر يرفض مواجهة نهضة بركان    نابل: إقبال هام على خدمات قافلة صحية متعددة الاختصاصات بمركز الصحة الأساسية بالشريفات[فيديو]    مشروع المسلخ البلدي العصري بسليانة معطّل ...التفاصيل    المعهد التونسي للقدرة التنافسية: تخصيص الدين لتمويل النمو هو وحده القادر على ضمان استدامة الدين العمومي    تونس تترأس الجمعية الأفريقية للأمراض الجلدية والتناسلية    2024 اريانة: الدورة الرابعة لمهرجان المناهل التراثية بالمنيهلة من 1 إلى 4 ماي    الكشف عن مقترح إسرائيلي جديد لصفقة مع "حماس"    بودربالة يجدد التأكيد على موقف تونس الثابث من القضية الفلسطينية    القلعة الكبرى: اختتام "ملتقى أحباء الكاريكاتور"    انطلاق فعاليات الدورة السادسة لمهرجان قابس سينما فن    عميد المحامين يدعو وزارة العدل إلى تفعيل إجراءات التقاضي الإلكتروني    الكاف: قاعة الكوفيد ملقاة على الطريق    بطولة مدريد للتنس : الكشف عن موعد مباراة أنس جابر و أوستابينكو    جمعية "ياسين" تنظم برنامجا ترفيهيا خلال العطلة الصيفية لفائدة 20 شابا من المصابين بطيف التوحد    سوسة: وفاة طالبتين اختناقا بالغاز    الدورة الثانية من "معرض بنزرت للفلاحة" تستقطب اكثر من 5 الاف زائر    استغلال منظومة المواعيد عن بعد بين مستشفى قبلي ومستشفى الهادي شاكر بصفاقس    تونس تحتل المرتبة الثانية عالميا في إنتاج زيت الزيتون    جدل حول شراء أضحية العيد..منظمة إرشاد المستهلك توضح    الأهلي يتقدم بطلب إلى السلطات المصرية بخصوص مباراة الترجي    عاجل/ الرصد الجوي يحذر في نشرة خاصة..    كلاسيكو النجم والإفريقي: التشكيلتان المحتملتان    وزير السياحة: عودة للسياحة البحرية وبرمجة 80 رحلة نحو تونس    اليوم.. انقطاع الكهرباء بهذه المناطق من البلاد    فضيحة/ تحقيق يهز صناعة المياه.. قوارير شركة شهيرة ملوثة "بالبراز"..!!    عاجل/ مذكرات توقيف دولية تطال نتنياهو وقيادات إسرائيلية..نقاش وقلق كبير..    ليبيا ضمن أخطر دول العالم لسنة 2024    بمشاركة ليبية.. افتتاح مهرجان الشعر والفروسية بتطاوين    بن عروس: انتفاع قرابة 200 شخص بالمحمدية بخدمات قافلة طبيّة متعددة الاختصاصات    سوسة: القبض على 5 أشخاص يشتبه في ارتكابهم جريمة قتل    برنامج الدورة 28 لأيام الابداع الادبي بزغوان    في اليوم العالمي للفلسفة..مدينة الثقافة تحتضن ندوة بعنوان "نحو تفكرٍ فلسفي عربي جديد"    الإتحاد العام لطلبة تونس يدعو مناضليه إلى تنظيم تظاهرات تضامنا مع الشعب الفلسطيني    8 شهداء وعشرات الجرحى في قصف لقوات الاحتلال على النصيرات    مدنين: وزير الصحة يؤكد دعم الوزارة لبرامج التّكوين والعلاج والوقاية من الاعتلالات القلبية    طقس السبت: ضباب محلي ودواوير رملية بهذه المناطق    القواعد الخمس التي اعتمدُها …فتحي الجموسي    وزير الخارجية يعلن عن فتح خط جوي مباشر بين تونس و دوالا الكاميرونية    طقس اللّيلة: الحرارة تصل 20 درجة مع ظهور ضباب محلي بهذه المناطق    السيناتورة الإيطالية ستيفانيا كراكسي تزور تونس الأسبوع القادم    بنسبة خيالية.. السودان تتصدر الدول العربية من حيث ارتفاع نسبة التصخم !    تألق تونسي جديد في مجال البحث العلمي في اختصاص أمراض وجراحة الأذن والحنجرة والرّقبة    منوبة: تفكيك شبكة دعارة والإحتفاظ ب5 فتيات    مقتل 13 شخصا وإصابة 354 آخرين في حوادث مختلفة خلال ال 24 ساعة الأخيرة    كاردوزو يكشف عن حظوظ الترجي أمام ماميلودي صانداونز    خطبة الجمعة .. أخطار التحرش والاغتصاب على الفرد والمجتمع    منبر الجمعة .. التراحم أمر رباني... من أجل التضامن الإنساني    أولا وأخيرا...هم أزرق غامق    ألفة يوسف : إن غدا لناظره قريب...والعدل أساس العمران...وقد خاب من حمل ظلما    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



ثورة لم تكتمل ....
هوامش الثورة التونسية
نشر في الشعب يوم 14 - 07 - 2012

من الصعب تحديد ما يحدث الآن في البلدان العربية تحت ما يسمى بالربيع العربي والأصعب هو تقديم إجابة دقيقة عما إذا كان ما يحدث هو ثورات شعبية ، أم مؤامرات خارجية ، لتغيير الأنظمة الديكتاتورية في العالم ؟ ففي كلا الإجابتين نجد حججا تثبت هذه و تدحض الأخرى ليستمر الجدل وتستمر الأحداث في كل من سوريا و البحرين و اليمن أيضا لا يمكن الجزم بما ستؤدي إليه مراحل الانتقال الديمقراطي في كل من تونس وليبيا ومصر واليمن أين شهدنا سقوط رؤوس الأنظمة واستمرارية النظام و تجدده بتغييرات ووجوه سياسية أخرى .
وتتناول هذه الهوامش التجربة التونسية باعتبارها متقدمة في تاريخها على بقية التجارب ولأنها نزعت نحو القطع مع الدستور القديم والتأسيس لحياة سياسية جديدة عبر انتخاب المجلس التأسيسي وهو ما تم منذ ما يقارب السنة ونيف، وتشكيل حكومة مؤقتة في انتظار صياغة الدستور الجديد و انتخابات برلمانية و رئاسية إثر ذلك . شكليا يمكن الحديث عن نجاح عملية الانتقال الديمقراطي في تونس إلى حد الآن مع بعض الاحترازات و الإشارات التي تبعث على التخوف من عودة الديكتاتورية بغطاء جديد ( دينيّ بالأساس)، لكن هذا النجاح الشكلي لا يعني تماهي الثورة مع أهدافها ومضمونها الاجتماعي بل بالعكس فكل الدلائل تشير إلى أن الأسباب التي أدت بالشعب التونسي إلى الانتفاض قد تفاقمت من ارتفاع نسبة البطالة إلى ارتفاع الأسعار وغلاء المعيشة ، بعبارة أخرى يزداد التأزم الاجتماعي تفاقما وهو ما يفسّر كثرة الاعتصامات و الإضرابات و التوترات الاجتماعية بكل أشكالها ، لهذا يجد اللاعبون السياسيون الجدد و خاصة أحزاب الترويكا الحاكمة صعوبات جمة في تسيير البلاد و إقناع أغلبية الشعب بالتغيير الثوري و هذا ما لا يجدي نفعا أمام استمرارية نفس السياسة الاقتصادية والاجتماعية ذات الطابع النيوليبرالي المتوحش.
قد تكمن حقيقة الصراع في الهامش ولا يمكن الحكم على الثورة التونسية بالنجاح والفشل إلا بالعودة إلى المهمش من الصراع الذي ظل محل تهميش من قبل الحكم البورقيبي ثم النوفمبري إلى اليوم مع الترويكا المؤقتة فالخطاب السياسي الحاكم وحتى المعارض تهيمن عليه السمة الليبيرالية ويدور حول مسائل الحريات والحقوق والديمقراطية وفرض منطق الصراع الموهوم بين ليبيراليين ومتشددين، علمانيين ودينيين وتقدميين ومحافظين، ونجد لدى هؤلاء إجماعا واتفاقا ضمنيا على تناسي البعد الاقتصادي والاجتماعي لمضمون الممارسة السياسية، بل قد نجد خطابا تبريريا للوضع الاجتماعي و الاقتصادي المتردي للشعب ، إجمالا يهلل هذا الخطاب لنجاح عملية الانتقال الديمقراطي وحتى النقد المعارض يتمحور حول بعض السلبيات مثل الاعتداء على الحريات العامة والفردية وعدم احترام حقوق الإنسان ولا يتطرق إلى ضرورة الانتقال الاقتصادي والاجتماعي وتغيير السياسة الاقتصادية تغييرا ثوريا، فهذا هو المقياس الفعلي الذي يمكن من خلاله الحكم على الثورة التونسية بالنجاح أو الفشل . فالعودة إلى ما قبل الثورة وتحديد ظروف اندلاعها وأسبابها الرئيسية وشعاراتها المركزية والبحث اليوم عن كل ما يتوافق مع تلك الشعارات والأهداف هو ما يجعلنا نعرف إلى أي مدى وصلت الثورة التونسية و هل تحققت أهدافها ، أم هي في طريق اكتمالها و تحقيق أهداف الشعب أم إنها اتخدت مسارا التفافيّا ، نحاول في هذه المقالة رصد هوامش ما قبل 14 جانفي و ما بعده بحثا عن المسكوت عنه و ما تحاول القوى الاحتكارية العالمية إخفاءه وذلك عبر أبواقها وعملائها سواء من الحكام القدامى أو الجدد وسواء عبر عملائها الحاكمين أو المعارضين الليبيراليين .
للحديث عن الهامش و المهمّش في المشهد التونسي ، يجب التعريج على الواجهة الرسمية والتي كانت الرماد الذي يخفي تحته اللهيب ، ظاهريا كانت تونس تعتبر أنموذجا يحتذى به للاستقرار والأمن والسلم الاجتماعي وحتى على المستوى السياسي تظهر الصورة على أن هناك تعددية وديمقراطية رغم هيمنة الحزب الحاكم فالمعارضة الرسمية و المعترف بها تبدو وراضية تمام الرضى ولا تخلو جرائدها من صور المخلوع وذكر انجازاته عدا حزب قانوني واحد اتخذ مواقف احتجاجية وهو حزب ذو توجه ليبرالي يدعو إلى إصلاحات سياسية ويشارك في العملية الديمقراطية والانتخابات بغض النظر عن أنها انتخابات ديكتاتورية هدفها إعطاء شرعية للنظام و تسمح له بالتبجّح بديمقراطيته وإن تعللوا بأنها مشاركات احتجاجية، وفي السنوات الأخيرة تشكلت تجربة 18 أكتوبر التي جمعت الرافضين لسياسة بن علي المطالبين بالحريات و العفو التشريعي العام وحرية التنظم والتعبير و تكونت هذه التجربة من رموز سياسيّة ومجتمع مدني بما فيها الأحزاب المحظورة ( حزب العمال الشيوعي، حركة النهضة، المؤتمر..) و تم تحديد سقف هذه الهيئة في مجال الحريات والحقوق ، نظرا إلى الهجمة الشرسة على الناشطين السياسيين والحقوقيين، انطلقت هذه التجربة بإضراب جوع في 18 أكتوبر 2005، لكنها لم تدم طويلا نظرا إلى الحصار الأمني المضروب على كل نشاطاتها أولا و نظرا إلى التجاذبات السياسية داخلها ثانيا وعدم دعم جزء مهم من اليسار لها باعتبارها تضم إسلاميين معادين للديمقراطية ، أتت نهاية هذا التجربة أواخر 2008 في وقت بدأت فيه النهضة تغازل النظام وتتقرب منه و يدل على ذلك تهنئة شيخ الحركة من منفاه لصهر المخلوع «صخر الماطري » على بعث إذاعة الزيتونة، وفي الداخل بدأ أعضاء الحركة في التملص و عدم المشاركة في كل نشاطات الهيئة، من جهة أخرى كان الخلاف بين حزب العمال الشيوعي والحزب الديمقراطي التقدمي، فالتقدمي أردا تحويل 18 أكتوبر إلى جبهة سياسية يدخل بها معركة انتخابات الرئاسة 2009، في حين كان حزب العمال بموقفه الراديكالي المقاطع لكل المناسبات الانتخابية التي يجريها النظام باعتبارها مناسبات ديكورية و من جهة أخرى يعتبر حزب العمال أن هيئة 18 أكتوبر هي الدفاع عن الحقوق و الحريات لحماية الناشطين و الضغط من أجل إطلاق سراح المساجين السياسيين ليس إلا ... لأن الحد الأدنى السياسي لا يتوفر مع شركائه في الهيئة ، فهو يعتبر أن الحريات لن تتحقق إلا بإسقاط الديكتاتورية النوفمبرية وأيّ عمل سياسي لا يصبّ في هذا الاتجاه الثوري لا يمكن لهذا الحزب المشاركة فيه، هكذا انتهت تجربة 18 أكتوبر فعليا في 2009 ، لنلاحظ خلال تلك الفترة ركودا للمعارضة غير القانونية وللمشهد السياسي بصفة عامة .
على مستوى المشهد الإعلامي :
نجد ظاهريا عدة وسائل إعلامية مما يوحي بحرية الصحافة والتعبير، والمتأمل في تلك الوسائل المتعددة سواء المكتوبة منها والمسموعة والمرئية يجد أن لها نفس الرضى على النظام وتعداد لإنجازات المخلوع حتى جريدة « الشعب » لاتحاد الشغل لا نجدها تخلو من صور المخلوع و ذكر وتثمين عنايته الموصولة !
ونستثني من هذا المشهد جريدتين مرخص لهما وهما جريدتا الموقف والطريق الجديد اللتين يمكن أن تقرأ على صفحاتهما نقدا لهذا النظام لكن وفق احترامهما للخطوط الحمراء وإلا تعرضتا للسحب من الأكشاك وهو ما حصل لبضع أعداد من جريدة «الموقف».
عموما المشهد الإعلامي في تونس لم يعكّر صفو المشهد الإعلامي واستقراره وما يوحي به من تعددية سوى تجربة نقابة الصحافيين التي خرجت عن السرب و نددت بالقوانين القمعية التي تهدف إلى تدجين الصحافة والصحافيين وتجربة «صوت الشعب» الجريدة السرية التي ظل يصدرها حزب العمال طيلة ثلاث وعشرين سنة من حكم بن علي، رغم الملاحقات والمحاكمات التي تعرض لها مناضلو هذا الحزب إلا أن الجريدة حافظت على دورية صدورها كل شهر وحافظت على نفس الخط المنادي بإسقاط الديكتاتورية النوفمبرية، وهي الجريدة الوحيدة التي نجد على صفحاتها هذه الدعوة الصريحة مع أخبار وفضائح العائلة المافيوزية الحاكمة .
على مستوى المشهد الثقافي :
لا يختلف في شيء عن المشهد العربي عموما ، فهناك مثقفون متأنقون ذوو ربطات عنق يثرثرون حول ثقافة السابع من نوفمبر وأفكار الزعيم، صانع التغيير وثقافته العميقة ومن جانب آخر يعتبر المنتوج الثقافي إسخافا و تفاهة وسطحية فالذين يقدمون أنفسهم على أنهم مثقفون هم إما يعتبرون كذلك نتيجة لتملقهم و نفاقهم وإما لقدرتهم على تبرير سياسة النظام وإعطائه بعدا ثقافيا . أما الخطاب الثقافي الموجه إلى عموم فهو خطاب استهلاكي ممنهج تطغى عليه سمتا الميوعة والابتذال .
أما الثقافة البديلة أو الملتزمة والوطنية فهي مهمشة أو مقصية محرومة من الدعم العمومي والمثقفون الوطنيون تجدهم مبعدون تماما عن المشهد الثقافي ، وقد سعى النظام إلى منع كل عمل ثقافي مستقل عن السلطة ، فهناك أشرطة سينمائية منعت من العرض وكذلك مسرحيات وحجبت بعض الكتب سواء الروائية أو القصصية أو الشعرية مما حدا ببعض المثقفين إلى التنظم في جمعيات محظورة أو ممنوعة من النشاط مثل رابطة الكتّاب الأحرار أو نقابة كتّاب تونس وذلك لمحاولة ترويج الخطاب الثقافي البديل والملتزم بقضايا الشعب والمجتمع ضد الخطاب التبريري السائد .
المجتمع المدني بين الديكور و الحصار:
عمل النظام على تدجين المجتمع المدني و تحويله إلى ديكور وذلك عبر إغراقه بمنظمات أغلب ناشطيها من الحزب الحاكم كما عمل على شق صفوف المنظمات المستقلة واختراقها من الداخل عبر الانقلاب عليها مثل جمعية القضاة والرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان و نقابة الصحافيين ومحاصرة بعض الجمعيات التي ظلت منيعة عن الاختراق مثل الهيئة الوطنية للمحامين أو منظمة العفو الدولية أو بسجن مناضليها ومنعها بقوة البوليس من عقد مؤتمرها مثل الاتحاد العام لطلبة تونس، والجمعية التونسية لمناهضة التعذيب .
خلاصة المشهد قبل 17 ديسمبر هو أن النظام الديكتاتوري عمل على تأطير المجتمع أمنيا فكان الحصار الأمني الرهيب على كل مفاصل الدولة ولم يكتف بقوات البوليس بل عمل على تجنيد ميليشات ومخبرين ينتمون إلى الحزب الحاكم وزرعهم في كل الشوارع والزوايا. هذا الحصار والقمع طال كل الأصوات التي حاولت التحليق خارج السرب، حصار ممنهج إلى درجة أن ما يظهر على السطح هو كل ما يريد النظام إظهاره و يختفي كل ما يريد النظام إخفاءه .
لذا كانت أسباب الانتفاض الاجتماعي تنمو في الظل و لا تشير إلى ما سيحدث إلا للمتمعنين و لمن يحلل الواقع الاجتماعي وفق رؤية علمية مسترشدا ببعض الإشارات منها تنامي ظاهرة البطالة في السنوات الأخيرة والتي طالت حملة الشهائد و صعوبة الحصول على شغل لكل الوافدين على سوق الشغل من الشباب، مما أدّى إلى ارتفاع «منسوب الغضب الشبابي» في تونس .
حيث شهدت سنة 2004 أول تنظم للمعطلين عن العمل من حملة الشهائد الجامعية وسنة 2006 تحركات احتجاجية قادها اتحاد أصحاب الشهائد المعطلين عن العمل ، وكانت هذه التحركات تحرج النظام خاصة أنه لا يستطيع محاكمة هؤلاء الشباب بتهمة البطالة، فحاول الالتفاف على هذه القضية بشعارات مثل قول المخلوع « البطالة أولويتي » مثلما قال قبل ذلك « فلسطين قضيتي الشخصية» فهذه الشعارات لم تنطل على أحد خاصة أن سياسة النظام استمرت في إنتاج آلاف المعطلين و تفاقم الغضب الاجتماعي، إلى أن كانت الشرارة الأولى سنة 2008 في الحوض المنجمي الانتفاضة العارمة لشباب قفصة المعطل عن العمل والتي استمرت لمدة ستة أشهر انتهت بقمع وحشي و إطلاق الرصاص على المحتجين مما أدى إلى سقوط شهداء وتمت محاكمة رموز الحركة الاحتجاجية وإصدار أحكام قاسية ومتشددة بحقهم أمام تواطؤ الإعلام الرسمي و المعارضة الكرتونية ، لم تساند هؤلاء سوى الصحيفة المحظورة «صوت الشعب» وقناة الحوار التي تبث من الخارج حينها ، و قد تمت محاكمة الصحافيين و المراسلين الذين غطوا تلك الأحداث و إصدار أحكام قاسية بحقهم نذكر منهم الفاهم بوكدوس وحسن بن عثمان ، و قد أدت حدة القمع والهمجية البوليسية إلى إخماد الحراك الاحتجاجي لكنه أدى في المقابل إلى تفاقم الحقد والغضب الشعبي على هذا النظام القمعي .
فقد عرفت سنة 2009 تحركات و مواجهات مع قوات القمع في كل من الصخيرة (ولاية قابس) وجبنيانة (ولاية صفاقس) وفريانة (ولاية القصرين) والقاسم المشترك لهذه التحركات هو المطالبة بالتشغيل و كان الشعار المركزي المردد هو « التشغيل استحقاق يا عصابة السراق » و هو شعار صاغه أصحاب الشهائد المعطلين عن العمل في الجامعة منذ سنة 2004 ، كذلك شهدت سنة 2009 احتجاجات المدن الحدودية وخاصة بن قردان بعد أن امتدت مافيوزا العائلة المالكة إلى السوق الموازية لاحتكارها و احتكار تجارة التهريب والتحكم في المعابر الحدودية .وهذا المؤشر كان من الخطورة بمكان ، فمن حيث المغزى الاقتصادي نجد أن المافيوزا الطرابلسية و عائلة المخلوع بعد أن سيطرت على الاقتصاد الرسمي و السوق الرسمي و احتكرته ، عمدت إلى السيطرة على الاقتصاد الموازي و التجارة الهامشية و بالتالي السوق الموازية أي على الأرصفة و تجار الأرصفة ، فوظفوا الشرطة الاقتصادية والبلدية لإخضاع هؤلاء التجار وتنظيم الانتصاب الفوضوي لفائدتهم ومنع كل من ينافسهم و لو بمجرد عربة صغيرة على الرصيف ، فقبل محمد البوعزيزي الذي أحرق نفسه و اشعل الانتفاضة كانت هناك حادثة أخرى مماثلة حدثت بالمنستير سنة 2009 ، حيث أقدم المواطن «عبد السلام تريمش»على حرق نفسه أمام مقر الولاية بعد مصادرة عربته وتوفي متأثرا بحروقه وقد أثارت هذه الحادثة احتجاجات لكنها لم تكن بحجم احتجاجات سيدي بوزيد و يعود ذلك لن ولاية سيدي بوزيد الولاية الداخلية المهمشة أكثر من المنستير الولاية الساحلية والتي يعاني شبابها من انعدام الأفق في التشغيل والحرمان من التنمية الجهوية ، لهذا كان يوم 17 ديسمبر ، حين أحرق البوعزيزي نفسه ، يوم انفجار الغضب وهبة الشباب المهمش الذي استوت أمامه الحياة بالموت ، فواجه قوات القمع والرصاص الحي بصدور عارية في الوقت الذي اعتبرها أغلب الملاحظين أنها حادثة معزولة و حاولت الصحافة تقديم البوعزيزي على أنه شاب منحرف سكير وعاق لوالديه وتهميش التحركات التي اندلعت إثر ذلك ، بل تحولت إلى انتفاضة سرعان ما تسربت إلى مدن أخرى من نفس الولاية كالرقاب و المزّونة ثم بقية الولايات خاصة تالة وكل ولاية القصرين .
في البداية تعاملت السلطة مع الأحداث كالعادة بالقمع البوليسي الوحشي باعتبارها قلاقل عادية يمكن إخمادها عبر القمع والاعتقالات ، لكنها سرعان ما اصطدمت بصمود الشباب المنتفض والمعتمد على وسائل الإعلام البديلة و المواقع الاجتماعية كالفايس بوك و التويتر لفضح جرائم النظام، فجندت السلطة كل وسائلها ومؤسساتها الايديولوجية وكلاب حراستها من مثقفي البلاط ومعارضتها الكرتونية بغرض تشويه الاحتجاجات وإخراجها في شكل أعمال تخريبية تحرّض عليها بعض الأطراف المناوئة والعميلة للقوى الأجنبية عناصر إرهابية متطرفة و غيرها من التشويهات و الأكاذيب التي تهدف إلى عزل هذه التحركات داخليا و تبرير قمعها خارجيا. لكن كل ذلك لم يوقف الحراك الاحتجاجي بقدر ما زاد في تأجيج غضب الشباب المنتفض مما أدى بالسلطة إلى إعتماد سياسة الترهيب والترغيب فمن جهة تعد بإصلاحات وحلول لمشكلة البطالة ومن جهة أخرى تهدد كل رموز و قيادات الحركة الاحتجاجية وتعتقلهم وتحاصر الناشطين السياسيين والحقوقيين والنقابيين المساندين للحراك الاحتجاجي، والجدير بالذكر أن الحركة الاحتجاجية الممتدة بين 17 ديسمبر و14 جانفي والتي فاجأت أغلب اللاعبين السياسيين نظرا إلى سرعة انتشارها خلفت حالة من الفرز السياسي في المشهد بين مساند لها ومشارك في أحداثها وبين متصدّ لها وفريق ثالث فضل الصمت لإخفاء ارتباكه .
وإن كنا أكثر دقة سنجد أن الأطراف التي كانت مساندة بإطلاق لهذه الحركة وداعية إلى استمرارها وتأطيرها في اتجاه إسقاط بن علي نجد حزبا سياسيا واحدا دعا إلى ذلك علنا و ببيان على لسان أمينه العام حمّة الهمامي الذي اعتقل مباشرة إثر البيان ، هو حزب العمال الشيوعي أما الحزب الديمقراطي التقدمي فقد تخلى عن موقفه الراديكالي يوما واحدا قبل رحيل بن علي مع العلم أنه ساند التحركات مما أدى إلى إيقاف بعض مناضليه و نشطائه ، فكان أن ليّن من مواقفه داعيا إلى التفاوض مع بن علي و تشكيل حكومة إنقاذ برئاسته وهو ما أدى إلى إطلاق سراح مناضليه ، و كان إلى جانب تحركات البعض من الناشطين السياسيين المستقلين و أغلبهم من اليسار والنقابيين وخاصة في الهياكل الوسطى والقاعدية لاتحاد الشغل في حين ظلت قيادته المركزية مرتبكة و لم تعط موقفا واضحا من الأحداث أما الإسلاميون فقد خيروا الصمت إلى حدود اللحظات الأخيرة ، خاصة أنهم كانوا يمرون بفترة تقارب مع السلطة وقد شهدت الفترة الأخيرة إطلاق سراح للعديد من مساجينها وقيادتها فكان هاجسهم هو الخوف من أن تلقي السلطة عليهم تبعات الأحداث و تلاحقهم مرة أخرى خاصة أن نبرة الاتهام بالإرهاب و التطرف كانت حاضرة لترمي بها الحركة الاحتجاجية . كما نجد حوارا ، لشيخ حركة النهضة راشد الغنوشي مع قناة الحوار اللندنية في بداية الانتفاضة يذكر فيها أن المظاهرات والخروج عن الحاكم حرام ولا يجوز شرعا .
يبدو أن هذا الموقف تغير يوم 14 جانفي عندما هللت الحركة لثورة الحرية والكرامة.
إن الهامش الذي نما وترعرع طيلة فترة حكم بن علي في الظل وخارج المشهد ، كان في قلب المشهد ومحط أنظار الجميع بل أكثر من ذلك كانت تلك الأيام القليلة الممتدة بين 17 ديسمبر و 14جانفي هي ديكتاتورية الهامش والمهمشين بامتياز ، فكانت سلطة الهامش التي أحرقت مراكز السادة و أمّمت ممتلكات الحاكمين ، أحرقت مراكز الأمن مقرات الحزب الحاكم والمعتمديات والولايات، أممت كبرى المراكز التجارية التي كانت على ملك هؤلاء المافيوزات كما نهبت ضيعاتهم وقصورهم وبثت الرعب في قلوبهم وجعلتهم يهرولون إلى المطارات فارين بجلودهم إلى أن جاءت لحظة هروب المخلوع لتمثل المنعرج الارتكاسي لانتفاضة المهمشين فمنذ اليوم الأول لهروب المخلوع عملت كل القوى بما فيها تلك التي تدعي الشرعية الثورية على إعادة الهامش إلى موقعه في الظل وعلى هامش المشهد إلى الرصيف وهو مكانه الطبيعي وقد عملت على ذلك جاهدة موظفة كل مؤسسات السلطة و النظام البائد ، عملت على إلقاء المهمشين طيّ النسيان وذلك بتقديم «الثورة المباركة» برموزها الجدد متأنقي الوجوه التي كانت وراء الستار لكنها تجيد اللعبة جيدا والتي حملت شعار «لا للفوضى» ودعت الشعب الثائر إلى العودة إلى العمل والانضباط .


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.