للعام الثاني، تمرّ مناسبة عيد الجمهورية باهتة «باسلة» بلا طعم غير المرارة والعلقم والريق الناشف عطشا... وخطب رنانة لا صلة لها بالواقع عن الثورة وعن اهدافها في إطار سوق تحاذبات خضعت إليها الجمهورية فكان يوم 25 جويلية 2012 ضربة البداية الفعلية للحملة الانتخابية التي كانت تدار في المدّة الفارطة خفية وعلى شاكلة الحرب الباردة أو الوخز من تحت «البردعة»... «احتفال» تمّ ساعات قليلة فقط بعد حرب تنصيب محافظ جديد رضي عنه الحكام الجدد رغم ثقل الموازين وبعد خلع المحافظ السابق الذي كيلت له كل التهم بما فيها التسبب في قطع الماء والكهرباء وحتى الطرقات إن شاؤوا!!!... احتفال يمر بصمت متواطئ يذكرنا بقصة «موت معلن»... ويبدو أنّ الجمهورية ستظلّ على الورق مثلما بدأت، مجرّد تسمية وقرار وتدبيح في الدستور والقوانين... جمهورية وُئدت يوم ولدت أرادها أصحابها منذ البدايات نسخة معدّلة جينيا حدّ التشوّه والتشبّه بكل الانظمة الكليانية والديكتاتورية... جمهورية عاشت انفصامًا عصابيا بين ما كتب في بيان الميلاد وبين المسخ الذي تعرّضت له في الواقع على امتداد عقود. جمهورية اغتُصبت ببدعة الرئاسة مدي الحياة ثم استُبيحت برئاسة مُمطّطة كانت تمهّد الى التمديد أو التوريث... بقيت منها القشور وضاع اللب، مساحيق من «برّة» وسواد فاحم من الداخل لسنوات من الاستبداد والحكم الفردي والانتفاع العائلي.. اذ غُيّبت إرادة الشعب فيها واستخدم القانون لتشريع الاستبداد وتحولت المؤسسات إلى أدوات للاخضاع والإكراه... بوادر الوأد النهائي للجمهورية أصبحت لا تخفى على أحد بعد 14 جانفي... عناصر كثيرة اذا اجتمعت، كما سبق ان تعرّضنا اليها في مناسبات سابقة، سوف تؤدّي إلي الإسراع بالدفن... قوى كثيرة، من الداخل والخارج، تسعي الى البحث عن المقتل في الجمهورية لتنتهي منها ومن وجعها... ملامح ذوبان أدوات الجمهورية بارزة: مساحة الديمقراطية تتقلّص من جديد لحساب تغوّل الحزب الحاكم وأغلبيته وهيمنة سلطة الفرد والتضييق على الفضاء العمومي ومحاصرة الاعلام وتكفير حرية التعبير والتفكير وتقييد الحريات العامة والفردية بحجة «La raison d'Etat» وتعلّة «المصلحة الوطنية» بمفهوم الحاكم لا بتصوّر الشعب وتتتالى فيها المحاكمات السياسية والنقابية وتستمرّ معها في المقابل محاولات لبسط اليد على القضاء كما تمّ بسطها على الادارة وإرادة الشعب غائبة ولا تحضر الا في الخطب الحماسية أو عند التهديد بالاستفتاء إيّاه... مرّة اخرى يتعمّد الساسة العبور فوق هذا اليوم وفيهم المكره أخاك لا بطل وفيهم «إيمين البكوش في صدره» وفيهم كالحاضر في جنازته لا يدري يبكي حظّه ام يرقب الناس تبكي غفلته... يوم مرّ ينذر بخريف قاتم... لمَ لا وقد استُبيحت قيم الجمهورية منذ ظهرت الميليشيات تصول وتجول وتفرض نظامها ونمطها المجتمعي وفق عقلية ارتدادية تعوّل على الجهل وترتكز على المغالطة.. لا يقنعنا احد بدفاعه عن الجمهورية وفي الآن نفسه يؤشر لأحزاب لا تؤمن بقيم الجمهورية وتعمل على هدمها وتقويض اسسها وتكفّر الداعين اليها وتدعو الى العودة الى الخلافة... لا يمكن تصديق من يدّعي الدفاع عن الجمهورية وهو في الآن نفسه يرى بصمت مئات الشباب يجنّدون الى محرقة الشام باسم الخلافة وغيرها من الأوهام... وقد يكون التخطيط للتمديد في حالة «المؤقت» وإبقاء المواعيد الانتخابية بلا تحديد والتأخير المتعمّد في اصدار قانون توافقي للهيئة العليا المستقلة للانتخابات هو المسمار الاخير في نعش الجمهورية.. ليس غريبا ان تتحوّل الجمهورية بقدرة ربّانية إلى أداة ترعى «الديكتاتورية النّاشئة» فتستنسخ الاستبداد من جديد إذا لم تجد لها قوى اجتماعية ومدنية وسياسية تكبح جماحها واذا لم تجد مؤسسات وقوانين تمنع انزلاقها.. لذلك لا مناص من الدّفاع عن الجمهورية بوصفه دفاعًا عن الثورة ولا مفرّ من محاربة الديكتاتورية بوصفها محاربةً لقوى الثورة المضادة... دول كثيرة تغذّي العودة الى الديكتاتورية، دفاعا عن أنظمتها الخاصة كما في امارات الخليج، أو دفاعًا عن مصالحها كما في الدول الامبريالية التي ساندت الديكتاتوريات طويلا... مهمّة الجميع الدفاع عن قيم الجمهورية قولا وفعلا... وبلا مواربة...