في تعارض واضح مع المرجعيات القانونيّة ومع الأعراف والتقاليد الجامعيّة، عمدت وزارة التعليم العالي والبحث العلمي خلال الفترة الأخيرة إلى إمطار المؤسسات الجامعيّة بوابل من المناشير غير المسبوقة من حيث الكثافة والمحتوى، تسعى من خلالها إلى تغيير أحادي الجانب لقواعد تنظيم قطاع التعليم العالي وتسييره وإلى النيل ممّا تبقى من مكاسب وتقاليد جامعية تهم الحريات الأكاديمية وهامش الإستقلاليّة النسبية في تسيير المؤسسات الجامعيّة. وتجاوبا مع البرنامج الدّراسي والتكويني الذي أقرّه المجلس القطاعي الأول للجامعة العامة للتعليم العالي والبحث العلمي، برمجت هذه الأخيرة حلقات تكوينيّة للنظر في تلك المناشير إلتأمت بالأقطاب الجامعيّة للوسط والجنوب وتونس الكبرى وأسهم فيها مختصون في القانون العام. ولقد تبيّن من خلال المداخلات ومن النقاش الذي تلاها أنّ الجانب الأوفر من تلك المناشير يفتقر إلى سند قانوني صحيح وأنّها تتعارض مع وظيفتها التقليديّة بل تخرق القانون في عدّة أوجه أهمّها : 1 خرق سلّم تراتب القواعد القانونيّة إذ من المسلّم من قبل رجال القانون أنّ القواعد القانونيّة خاضعة لسلّم تفاضلي (دستور، قانون، أوامر، قرارات وزاريّة)، وبالإطلاع على بعض المناشير الصّادرة عن وزير التعليم العالي يتبيّن بجلاء خرقها لذلك السّلم في مستويين: أ بخصوص إصلاح منظومة «إمد» الذي يمثّل تحويلا جذريا للتعليم العالي بأكمله والذي يكون بداهة من مشمولات السّلطة التشريعيّة ، دون سواها، عملا بالفصل 34 للدستورالذي إقتضى أن المبادئ الأساسيّة للتعليم راجعة للسلطة التشريعيّة. وما أقدمت عليه الوزارة من خلال المنشور ع48دد لسنة 2005 يحمل خطأ جسيما يتمثّل في تجاوز سلطة تنفيذيّة لاختصاص تشريعي مسند بالدّستور وهو ما يؤدّي إلى عدم دستوريّة القرارات الإداريّة المتضمّنة للنظام الجديد، فضلا عن أنّه لم يقع التشاور حول هذه المبادئ والأهداف مع الهياكل الممثلة وذلك في تناقض صارخ مع مقومات الإدارة الرشيدة. ب- إنّ تحديد العودة الجامعيّة محدّد بأمر من أعلى السّلطة الرتيبيّة (الفصل من الأمر ع1174دد لسنة 1987 الصادر عن الوزارة الأولى والمتعلق برزنامة السنة الجامعيّة والمدرسيّة يضبط إفتتاح السنة الجامعيّة بداية من 15 سبتمبر لكلّ سنة)، الذي وإن خوّل للوزير تعديل إنتهاء السّنة فإنّ موعد إنطلاقها لا يمكن المساس به إلا من قبل نفس السّلطة أي رئيس الجمهوريّة عملا بمبدأي توازي الإختصاص وتوازي الشكليات، وما إقدام الوزارة على إبدال إنطلاق السّنة الجامعيّة إلا نيل من إختصاص سلطة أعلى وخرق للسلم التفاضلي للقواعد القانونيّة. 2 المساس بالحق النقابي من خلال المنشور 40 لسنة 2005 الصّادر إبّان الإضراب الإداري والذي يتعارض صراحة مع ما تضمّنه الفصل 8 من الدّستور والفصل 4 من النظام الأساسي العام لأعوان الوظيفة العمومية الذي يقر الحق النقابي للأعوان العموميين. 3 التعدّي على الحرّيات الأكاديميّة وعلى إستقلاليّة القرار الجامعي من خلال أسلوب التهديد بالعقوبات التأديبيّة كما ورد بالمنشور ع40دد 2005 المشار إليه أعلاه وبالمنشور ع31دد لسنة 2005 الصّادر عن الوزارة الأولى والذي يفرض على كلّ أستاذ يروم المشاركة أو الحضور في الندوات والملتقيات العلميّة، داخل البلاد أو خارجها، الحصول على ترخيص إداري مسبق. ويتجلى ذلك أيضا من خلال المنشور ع31دد 2004 الذي يفرد الإدارة بضبط معايير الإنتداب والترقية دون الرجوع إلى ممثّلي الأساتذة. 4 المساس بمبدإ المساواة الذي يتجسّم في تنفيل فئة من الموظفين كالمهندسين في الجمع بين مهنة التدريس ومهن أخرى من خلال المنشور ع29دد 2005 وذلك بإخضاعهم إلى شروط مخفّفة مقارنة بالجامعيين (أنظر المنشور ع56دد لسنة 2006 المتعلّق بالجمع بين التّدريس ومهن أخرى). 5 صدور مناشير ترتيبيّة في حين إستقرّ الفقه والقضاء والقانون المقارن على عدم جواز تضمّن المناشير الوزاريّة لقواعد ترتيبيّة جديدة، وعليه فإنّها تقتصر على تفسير القواعد التشريعيّة والترتيبيّة الخاصة بالعمل الإداري وتيسير تطبيقها من طرف الأعوان والهياكل التي تعمل تحت إمرة الوزير المكلّف بالقطاع ضمانا لحسن سير المرفق العام ودون أن يكون لها أيّ مفعول وضعي من شأنه أن يرسي وضعا قانونيا جديدا أو يحوّر ، بالزيادة أو بالنقصان، نصوصا قانونيّة قائمة. ومن هذه المناشير: - المنشور ع33دد 2004 المتعلّق بالمعايير المعتمدة من قبل لجان الإنتداب والترقية حيث أضاف عنصرا تقييميا جديدا يتمثل في ''البحوث الأساسية والتطبيقية والتجريبية'' لم يرد في الفصل 44 من الأمر ع1825دد لسنة 1993 المتعلّق بضبط النظام الأساسي الخاص بسلك المدرّسين الباحثين التابعين للجامعات. - المنشور ع65دد 2004 المتعلّق بإنتداب المساعدين للتعليم العالي الذي أضاف شرطا جديدا إلى الفصل 34 من الأمر المشار إليه آنفا يتمثل في وجوب تقديم ترسيمين إثنين على الأقل في شهادة الدكتوراه. - المنشور ع38دد2006 المتعلّق بالتأهيل الجامعي والذي حذف أهمّ شرط من شروط الترشّح وهو «إثبات الأعمال المقدّمة إتقانا لتقنيات البحث والإضافة في الميدان العلمي»، وتدخل في تركيبة اللجنة بشكل مخالف لما نصّ عليه الأمر ع1824دد لسنة 1993 المتعلّق بالتأهيل الجامعي. - فرض نظام التفقد تحت غطاء تقييم التربص البيداغوجي في مخالفة صريحة للقوانين الأساسيّة وللتقاليد المكرّسة (الفصل 39 من الأمر ع1885دد لسنة 1993)، وتجدر الإشارة إلى شروع الوزارة في تطبيق هذا التربص دون إصدار أيّ نص قانوني وإلى حدوث عدّة تجاوزات تختلف طبيعتها من جامعة إلى أخرى. 6 تغيير طبيعة ووظيفة الجامعة وذلك بتحويلها من فضاء لتكوين العقول وإنتاج العلم والمعرفة إلى ورشة إعداديّة وذلك عبر التركيز على إحداث عديد المعاهد والشعب ذات الصبغة المهنيّة وإلى تنظيرالجامعة بمؤسسة إقتصادية تواجه منافسة داخلية وخارجية المنشور ع26دد لسنة 2004 المتعلّق بالتقييم الدّاخلي لمؤسسات التعليم العالي والمنشور ع41دد لسنة 2006 المتعلّق بطلب عروض لدعم جودة التعليم العالي. إنّ خلفيات هذه الممارسات لا تخفى على الجامعيين، فالغرض من هذه المناشير هو خلق «إستثناء تونسي»، أي جامعة عموميّة ينتفي فيها ذلك الهامش المحدود من إستقلاليّة التسيير ومن الحرّيات الأكاديميّة وتخضع للمنطق الإداري في التسيير وتغليبه على الجانب الأكاديمي، بما يطمس الخصوصيات التي تميّز المؤسسة الجامعيّة وتمكنّها من القيام بدورها كاملا في تنوير الفكر وتهيئة أسباب الإبداع. وكي لا تحيد الجامعة العموميّة عن وظيفتها في إنتاج العلم والمعرفة وفي الإعداد للمواطنة والإسهام في تنمية البلاد، ويتحوّل المرفق العام إلى مؤسّسة إقتصاديّة تخضع إلى منطق الرّبح والمنافسة، وحتّى لا تؤول هياكل التسيير الجامعي من مجالس أقسام ومجالس علميّة ومجالس جامعات وهيئات ولجان علميّة إلى أداة توظّف لخرق القانون وتهميش الجامعة العمومية، وعملا بما إستقرّ عليه فقه القضاء من إعتبار أنّ إمتثال العون العمومي لواجب الطّاعة لا يمتدّ إلى القرارات التي تتصف باللاشرعيّة الواضحة، وهو ما ينطبق على بعض المناشير الوزاريّة، فإنّ الجامعة العامة للتعليم العالي والبحث العلمي ترى أنّه لزام على جميع الهياكل المذكورة سلفا اليقظة والتحرّي في التعامل مع هذه المناشير وعدم الإنسياق في تطبيقها دون التأكّد من تطابقها مع النصوص القانونيّة الأعلى منها. كما أن الجامعة العامة ستعمل على متابعة الأمر بالتنسيق مع قسم النزاعات والتشريع بالإتحاد العام للدّفاع على ما تبقى من مكاسب الجامعيين وتجنيب المؤسسات الجامعيّة المنزلقات الخطيرة التي قد يؤدي إليها تطبيق المناشير المذكورة.