منذ انتخابات 24 أكتوبر انتظر التونسيون بصيصا من نور حركة قد تبعث في نفوسهم الامل وتدفعهم إلى التفاؤل لكن اضناهم الترقب المقيت والانتظار الممل، فكادوا يستسلمون لليأس لكن في لحظة من لحظات التاريخ وفي زحمة الاحداث والمتغيرات المتلاحقة سجل حدث وطني نوعي اعطى للبلاد جراة أمل في ظرف دقيق وعصيب بل لنقل مخاض عسير. انها مبادرة الاتحاد العام التونسي للشغل الذي اثبت مرة اخرى وفاءه واخلاصه لدوره الوطني واثر بشجاعة الابطال ان يرمي بكل ثقله في مسعى إلى إنقاذ البلاد من الانزلاق الخطير الذي تشهده منذ تولت هذه الحكومة الاخوانية زمام الحكم ووعيا من الاتحاد بتأزم الوضع العام الذي اتّسم بالتوتر والتشنّج والتجاذبات واحتكار الحياة السياسية وتغلغل الحكم الفردي الاستبدادي وكبت الحريات وخاصة حق التظاهر السلمي المناهض للسلطة وتطويع المؤسسة القضائية وعودة المحاكمات السياسية والانتهاكات الجسدية في السجون ومخافر الشرطة السياسية فضلا عن انخرام الوضع الامني والاجتماعي واستشراء الفقر وتدهور القدرة الشرائية للمواطن وتضخم التفاوت بين الجهات والافراد وتفشي آفة البطالة لتبلغ مستويات قياسية وارتفاع معدلات الجريمة والطرد التعسفي للعمال وضرب الحق النقابي وانتفاخ الدين الخارجي وانكماش الاستثمار نتيجة التخبط والارتباك الذي طبع الأداء الحكومي والسياسات العرجاء التي ينتهجها وايمانا من الاتحاد بأن اهداف ومبادئ الثورة اصبحت مهددة من الزمرة الحاكمة وان الوضع يتطلب تضافر وتكاتف كل الجهود لانقاذ الثورة والبلاد عامة ومواجهة التحديات الجسام التي تفرضها المرحلة... اطلق مبادرته التي كانت بمثابة البلسم لجراح وآلام التونسيين ومتنفسا لهم بعد ان خيمت ظلال القنوات والاحباط فكانت محلّ مباركة من كل الخبيرين والمحبين لهذا الوطن والتفاف جلّ القوى السياسية وفعاليات المجتمع المدني.. الاتحاد دق ناقوس الخطر وقال بأننا سائرون الى المجهول ونبّه الى حاجة البلاد إلى حوار حقيقي يكفل وحدة البلاد وعزّتها ومناعتها، حوار جدّي وليس شكلي نكتفي فيه بالجلوس الى طاولة ونتبادل الابتسامات امام الكاميراهوات. تحدث الاتحاد بالضمير الجمعي وبلسان الشعب التونسي وتبنّت المبادرة مطالبه ونداءاته في الحرية والعدالة وتصحيح مسار الثورة وهو ما زاد من مشاعر التأييد والتعاطف معها كيف لا وهي تنادي بمدنية الدولة والنظام الجمهوري ونبذ العنف وتحييد الادارة وتكفل الدولة بملف جرحى الثورة وعائلات الشهداء؟ كيف لاتحظى بالاجماع الوطني وهي تطالب بتكريس الشفافية في التشغيل وتحديد تاريخ محدد لصياغة الدستور وتنظيم الانتخابات وغيرها من المبادئ؟ وهي اقتراحات مفاتيح لاحداث انفراج سياسي وحلحلة للأوضاع العامة لانه لا برنامج الحكومة ولا السياسات الحالية يعكسان وعي الحكومة بهذه التحديات ومخاطر الانغلاق والاقصاء، فالبلاد في حاجة إلى مناخ جديد الى اجواء نفسية جديدة تزيل الخوف والقلق، وتحفّز العزائم وترفع العقبات وهذا المناخ لا يأتي بتنازع الصلاحيات وباجراءات تكنوقراطية لحفز الاستثمار وتحسين الاداء الاقتصادي بل بالتغيير الجذري في نمط الحكم والقطع مع الحالة السائدة وبناء جسور الثقة والتواصل بين الحكومة وخصومها من جهة وبينها وبين الشعب ومصارحته بخطورة الظرف كما انه لا مناص من عملية مصالحة وطنية حقيقية بين كل مكونات المشهد السياسي والحقوقي والمدني تكون بمثابة الاشارة القوية والواضحة وتشكل العامل الحاسم في مصداقية اي خطاب من قبل الحكومة فتونس اليوم في حاجة الى توافق لا فرقة وحدة لا اقصاء، مصالحة لا انتقام، مصارحة لا تعتيم... وذلك من اجل تعميق الروابط الوطنية وحماية الانتقال الديمقراطي ومما لا شك فيه أنّ كل عمل جبّار يقتضي تضحيات كبيرة ولكل عمل ومبادرة ناجحة رافضون ومناهضون لذلك واجهت هذه المبادرة رغم تأكيدها على أن أطر الحوار والتوافق لا تمثل الا قوة اقتراح ولا تعوض في شيء السلط الدستورية والشرعية القائمة التي تبقى وحدها صاحبة اتخاذ القرار استهجان حزب النهضة على خلاف شركائها في الائتلاف الحكومي وخاصة مؤسسة الرئاسة اما لماذا هذا التوجس والريبة؟ فلأنها ترى فيها خطرا على وجودها بعد ان أوهمت نفسها بأن الحكم استتب لها وبعد ان تحالفت مع رموز العهد البائد وبارونات وآباطرة الفساد ولوبيات النهب واللصوصية لتثبت سلطتها الديكتاتورية وتحلّ محلّ المخلوع في السيطرة والبطش والتغول، بل تفوقت أحيانا كثيرة على بن علي نفسه في هيستيريا الإكراه وتفكيك الوحدة الوطنية والحقرة والإذلال... فهذا وزير التربية الذي تطارده فضائح تسريب اختبارات المناظرة الوطنية «الباكالوريا»وخدمة العائلة الحاكمة الجديدة وحماية الفاسدين في وزارته يرفض الاستقالة وحتى الاعتذار، وذلك وزير العدل يواصل سياسة تدجين القضاء وعزل القضاة في تعنّت وتنطّع رهيب متحديا هياكل المهنة وذلك ليس لغاية تطهير القطاع كما يزعم بل لرعاية مصالح العائلة الجديدة وتنفيذ اجندتها ومخططاتها وهذه البلاد تغرق في موجة من الظلام والعطش في عزّ الصيف وهي سابقة في تاريخ تونس وجيش عرمرم من الوزراء وكتاب الدولة لا يبرحون مكاتبهم الفاخرة والمكيفة والتنقل الى المناطق المنكوبة، بل اكتفوا بارسال جحافل البوليس والرصاص الحي والهراوات وقنابل الغاز لقمع مواطنين عطشى، في المقابل يهرولون الى قصر المؤتمرات لحضور مؤتمر الحزب الحاكم!! فأي عمر سياسي هذا؟ وذلك تقرير توفيق بودربالة يؤكد على ان قناة حنبعل تسبّبت في مقتل عدد من التونسيين بعد 14 جانفي لنشرها نداءات استغاثة وهمية وبدل إحالة الملف إلى القضاء، يهرول باعث القناة لتقبيل أيدي الكاهن الاكبر ويحتمي بعمامته ثم يرفع شعار «خير الطحين عاجله» حيث تحوّلت القناة من «صوت الشعب» كما يدّعي زورا الى «بوق النهضة» ولم يفوت فرصة مؤتمرها ليؤدي فروض الولاء والطاعة ويحتفل على طريقته ويسخّر قناته لبث فعالياته في المقابل تعود محاكمات الرأي بقوة في تونس الثورة فيساق عميد كلية بتهم واهية الى القضاء، ويحاكم مدير فضائية من أجل مسألة تخص حرية الرأي والتعبير ويسجن مدير صحيفة لنفس الغرض ويحاول المرء ان يكبت دموعه وهو يرى عددًا من الاساتذة يدانون قضائيا لانهم نددوا بالفساد في وزارتهم واولئك تونسيون ينتحرون ويحرقونالى الضفة الاخرى بعد ان شعروا بانهم ملفوظون من وطن يحملون جنسيته وان الثورة ماهي الا سراب ولا أمل في تغيّر الاوضاع... وهذه مكتسبات الحداثة التي راكمتها تونس على مدى نصف قرن وضحت من اجلها اجيال تنسف وفي مقدّمتها مجلة الاحوال الشخصية بعودة الزواج العرفي وتعدد الزوجات وامتهان المرأة وهذا مجتمعنا التونسي ينقسم الى كفار ومؤمنين حتى ان المناضل صالح الزغيدي نادى بدولة نعيش فيها بوصفنا مواطنين متساوين في الحقوق والواجبات لا رعايا مؤمنين بالله ورسوله فنظم خفافيش الظلام مسيرة تحمل صور الرجل مشنوقا والشابي وبالعيد زارا قصر العبدلية فأهدرا دمهما وإمام جامع الزيتونة المعمور ينادي بقتل المبدعين كل هذا والنيابة العمومية لا تحرك ساكنا.. بالتوازي مع هذا فإن اهم نقطة ركزت عليها مبادرة الاتحاد هي الحوار والتوافق بين جميع الاطراف، لكن كهنة معبد آمون الذين عابوا على بن علي الاقصاء وعانوا منه لعقدين من الزمن رغم تزلفهم وتملقهم له للحوار والمصالحة فانه رفض بل نكّل بهم وبعائلاتهم وزج به في السجون والمعتقلات وحين اخرجتهم الثورة التي لم يشاركوا فيها اطلاقا حدّ فرار بن علي من جحورهم وكهوف عصور ما قبل التاريخ وعاد بعضهم وعلى رأسهم الكاهن الاكبر من العواصمالغربية على ظهور الطائرات كما عاد سابقا أعداء صدام حسين على ظهور الدبابات (ولا فرق عندي) وبعد ان تسلطوا على الحكم مستغلين سذاجة الناخب واللعب على عواطفه وأحاسيسه الدينية ظهروا أكثر تطرفا وغلوا واستئصالية فاستعدوْا غالبية المنظمات والجمعيات المستقلة، وضربوا حتى شركاء الديكور في الحكم والآن يسعون الى تمرير قانون العزل السياسي للتجمعيين والعمل على شيطنتهم وتقديمهم في ثوب اعداء الثورة والشعب رغم ان العشرات من انصار النهضة وقياداتها الجهوية تربوا في أحضان التجمع لكن بعد الثورة خلعوا اللون البنفسجي واستبدلوه باللون الأزرق والهدف من الاقصاء ضرب وتفكيك الأحزاب التجمعية الجديدة التي تشكلت علی أنقاض الحزب الأم وخاصة حزب «نداء تونس» للباجي قايد السبسي الذي يطرح نفسه بديلاً قويّا وجديّا للنهضة والغريب ان الاقصاء شمل ثالث قوّة في المجلس التأسيس وهي الفصيل العريضة الشعبية بقيادة الهاشمي الحامدي الذي مازال منفيا خارج البلاد مما دفع نواب الحركة وأنصارها الى الاحتجاج أمام المجلس التأسيسي تنديدا بالتهميش والحقرة والتعتيم الاعلامي... هذا الاسلوب في التعامل مع الخصوم والاصدقاء لهو فضيحة لنفاق وتعامل عنصري بغيض يطالب كهنة معبد آمون بالحوار ويوهمون الرأي العام بانهم دعاة حوار لكنها لست سوى دعوة كاذبة ومغشوشة يريدون حوارا قائما على الاستعلاء والابتزاز والتنازلات؟ يطالبون بالديمقراطية، ولكن ليست ديمقراطية القيم، وإنّما ديمقراطية التبعية والامتثال والطاعة تماما كما كان يفعل المخلوع، يريدون ديمقراطية على مقاس سلاح الشريعة الذي قال حوله الكاهن الأكبر ان الامة تأثر إذا لم تبذل الغالي والنفيس في سبيل اقامتها وتطبيقها يريدون ديمقراطية تتماشى مع مصالحهم ومخططاتهم الرجعية، ديمقراطية فساد ولصوصية بمباركة امريكية غربية لانها ببساطة تمنحهم اليد العليا في تحويل عائدات النهب الى بنوكهم بالذات فضلا عن انها تمنحهم القدرة على تحريك حكومة الفساد هذه في الاتجاه الذي يوائم مصالحهم. إن الخطر الجاثم على تونس أكبر من ان يختزل في كلمات وما شعار مؤتمر «تجار الدين» مستقبلنا بين ايدينا الا تأكيد على ذلك فهذا الشعار حمّال أوجه والمقصود منه مستقبل السلطة بين ايدينا وتلك رسالة المؤتمر وما تصريح احد قيادات النهضة بانها ستكون شريكا رئيسيا في الحكومة القادمة والحاح هذه الحركة على النظام البرلماني عكس كل التوجهات الاخرى الداعية الى نظام مختلط ولو ادى الامر الى استفتاء الشعب الا دليل على ان مخاطر حقيقية وجدية تتهدد الموعد الانتخابي القادم فالنهضة لن تفرط في الحكم وانظروا فقط تجارب الاحزاب الاسلامية في الحكم وما المؤتمر وحالة التجييش الاعلامي والسياسي والامكانيات التي ضخّت لعقده وكأننا امام مؤتمر «التحدي» أو الطموح او الامتياز للتجمع المنحل والفرق الوحيد تغيير اللون الاحمر بالكشكول الازرق الا مؤشرات على ابتلاع السلطة والدولة وبرهان على ان تونس نزعت رداء الحداثة وارتدت غصبا العمامة وحتى المعارضة فانها تعاني حالة متقدمة ومزمنة من التشرذم والانشطار وعجزت عن مواجهة النهضة والحد من نفوذها وتغولها، فحولت اهتمامها إلى جني الغنائم المادية وآكتفت بالتهريج والصياح امام كاميراوات التلفزة أملا في ايهام الناخب ولكن تناست ان الشعب بلغ درجة من الوعي كما قال بن علي ذات يوم... في ظلّ هذه الاجواء المشحونة، لم يبق إلا التمسك بمبادرة الاتحاد والاصطفاف وراءها للتصدّي للفكر الظلامي الاصولي الذي استبدّ بتونس والسعي الى أسلمتها واخضاعها إلى إيديولوجيته الدينية مستهدفين الانقضاض على ما تبقى من مبادئ الجمهورية وإقامة الدولة الدينية التي لا تحكمها المبادئ الديمقراطية بل اراء وفتاوي الكاهن الاكبر والخليفة السادس وغيرهم من الدّراويش وتأويلاتهم للتشاريع السماوية، وصفقات للحساب الخاص باسم الدولة التونسية مثل صفقة تنظيم مؤتمر أصدقاء سوريا وصفقة رفع التأشيرة عن الخليجيين وصفقة