عرفته في بداية التسعينات وكان يتقد حماسا ونشاطا، كنت في تيهي أجوب الخضم وأنازل أعداءً لم تتشكل ملامحهم الى حدود تلك المرحلة: القمع والجوع والظلم والتعتيم. لم أكن أملك سوى بعض القصائد وبعض الاصدقاء وكان من بينهم الدكتور المنوبي الصولي الذي عرفته في فضاءات النضال هنا وهناك بعد ان فرقت نهاية الثمانينات سبل الرفاق فاختار جزء من النخبة المضيّ في ركاب السلطة واختار الجزء الآخر الممانعة.. جمعتنا أمسية شعرية قام القائد محجوب بنتظيمها في مدينة مجاز الباب في شتاء 1993 وكان من بين الشعراء الحاضرين آنذاك رضا الجلالي ومنير هلال وكمال بوعجيلة وأذكر ان المدينة الهادئة قد اضطربت حركتها منذ دخلها الشعراء ومرافقوهم من المناضلين وكان على القائد محجوب مثلما يحلو لأصدقائه ان يلقبوه ان يضمن نجاح الأمسية أولا وان لا يتم طردنا من المدينة من قِبل البوليس السياسي بتعلة الاخلال بالنظام العام ثانيا. لم أعد أذكر كيف انتهت الامسية ولا حتى كيف بدأت وانما ظلت الصورة الراسخة في مخيلتي الى الابد صورة للرفاق والاصدقاء وهم يأخذوننا الى مكان بعيد عن انظار البوليس ويؤمّنون حمايتنا ويسهرون على راحتنا. كان من بين هؤلاء شاب يتحرك في كل الاتجاهات يؤوّل بضحكاته الاضواء وينسق بفرحه ألوان الورود الشتائية. قد تطول الامسية او العشية او السهرة ويستيقظ المرء في زمن آخر ويلتفت حوله مندهشا.. لم يكن ذلك سبيلي في الاندهاش وانما كان نبض الحب للوطن وللحرية هو الذي جمعني مع ذاك الشاب اياه من جديد في مقاهي العاصمة وفي الساحات تلك التي تحولت في فترة منتصف التسعينات من الشوارع الطولى والساحات الكبرى والقاعات الشاسعة الى مقرات الاحزاب الصغيرة والصحف المخفية في شقق في عمارات في أنهج خلفية محاصرة بعيون الحراس. في تلك السنوات رأيت اشياء تشتاق ان تموت ولا تجد الطريق الى المقبرة الابدية لتصبح تراثا من الماضي البائس، تراثا نستذكره ونحدث به الابناء فيسمعون ولا يصدقون فستبدو لهم تلك الاحداث قادمة من عالم اسطوري. مع نهاية السنوات الاولى من تسعينات القرن العشرين اطبق النظام فكيه على المجتمع ليصبح الفعل الثقافي والابداعي من بين أعسر المهام في مجتمع يحيا حالة من الانضباط وقهر السلطة في خضمّ الولاءات التي تتكدس على قارعة حواسنا. كنت في تلك السنوات محتميا بالجامعة وبصفتي طالبا يحلم بالشعر وبالفن وكان ذلك الشاب المبتسم باستمرار والذي سأعرف فيما بعد انه شقيق صديقي المرحوم المنوبي الصولي يدعى رضا... كان رضا يحاول باجتهاداته الشخصية ان يؤلف بين مجموعة من الشعراء والاصدقاء وينظم لنا أمسيات ولقاءات شعرية وفكرية في مقر جريدة الموقف تارة وفي مقر اتحاد الشغل ببن عروس طورا وفي مقر دار الكاتب تارة اخرى وكلما اشتد الحصار اكثر كنا نلتقي حتى في مقهى صغير لنتبادل التحايا واخبار الحركة الديمقراطية التي ما ان وصلنا الى نهاية النصف الاول من التسعينات حتى تم تكميم فمها نهائيا. مرت السنوات كئيبة لنفقد في طريق الليل رفاقا رحلوا الى الابد ومن بينهم شقيق رضا الصولي ورفاقا انتحوا عزلتهم ويئسوا من الاحلام وآخرين واصلوا الصمود واختاروا النضال داخل احزاب الممانعة القليلة جدا ومن بينهم الصديق رضا الصولي الذي واصل دفاعه عن الحرية في الحزب الديمقراطي التقدمي الذي يعتبر من بين مؤسسيه وظل لسنوات يكتب في صحيفة «الموقف» التي كانت في زمن القمع بمثابة المنشور السياسي. كنت التقي رضا الصولي من حين الى آخر دون سابق موعد في مقهى كارنو عندما يكون في طريقه الى مقر الحزب صباحا، نشرب قهوتنا ونتبادل الاخبار ونلعن الوضع الذي تؤول اليه البلاد شيئا فشيئا تتكرر تلك اللقاءات من حين الى آخر وكنت خلال ذلك ألاحظ تراجع وضعه الصحي بسبب داء السكري. غاب عن أنظاري لسنوات حتى التقيته وقد بترت ساقاه ومع ذلك مازال يقاوم ويحلم ويكتب وكم شدّني اصراره على الحضور في يوم قائظ من صائفة 2010 عندما كنا نؤسس نقابة كتاب تونس في مقر اتحاد الشغل تحت حصار البوليس السياسي وكان رغم ألمه يجاهد في البقاء الى آخر اشغال المؤتمر. ومن المصادفات التاريخية أن ألتقيه يوم 14 جانفي 2011 بعد ان عجزت عن الوصول الى نهج مرسيليا بالعاصمة لأعثر على سيارتي وأعود الى البيت بعد اندلاع الاحداث في شارع بورقيبة، كانت الانهج المتفرعة عن الشارع الرئيسي مشتعلة بنيران احتجاجات الشباب ولم يخطر ببالي سوى الاحتماء بمقر الحزب الديمقراطي التقدمي الذي يقع بزقاق قريب من نهج سيف الدولة كانت رفيقتي وقرينتي سلمى معي لذلك خشيت عليها الاعتداء الهمجي الذي كان يقوم به اعوان الامن، عندما وصلت الى المقر وجدت المناضل رضا الصولي يجلس على كرسي ويتابع الاحداث التي تأتي من مكتب الأمينة العامة للحزب ومؤسسه أحمد نجيب الشابي مواصلا ابتسامته التي عهدتها وهو يحلم بغد تشرق فيه الحرية من وراء تلك اللحظات العصيبة التي عشناها قال لي يومها «لقد بترت ساقاي وأنا في هذا المقر أناضل من اجل الحرية». وها هو رضا الصولي اليوم بعد ما يقرب العامين على اندلاع أحداث 14 ديسمبر 2010 مازال يعاني المرض والتهميش والفقر والاقصاء وهو يحلم أن ينشر كتابا جديدا للأطفال ويحنُّ الى خبز الأم والى الارض بمدينته مجاز الباب، سيمشي في شوارعها بعد الآن ولكن هذه المرة ليس بقدميه فقد تركهما في مقرات النضال ووهبهما ثمنا لحرية الشعب. سيسير مُطَأطأَ الرأس احتراما لذاكرة المكان ولنبرة الشهداء الغيبية أولئك الذين لا يعرفهم احد ولا يحتفي بهم احد ولولا التناول الاداري البائس لمفهوم «جرحى الثورة» لعدّ المناضل رضا الصولي من كبار جرحى الثورة لعلنا في حاجة ملحة الى اعادة المفاهيم الى سياقاتها العميقة بعيدا عن سطحية البيروقراطيين وانتهازية السياسيين حتى يتم انصاف اجيال برمتها من المناضلين والشهداء والجرحى في سبيل عزة تونس وحرية بناتها وابنائها وكرامتهم ... سيظل المناضل والكاتب رضا الصولي ينتظرها بكرسيه المتحرك وبابتسامته الطفولية البريئة بصبر الجِمال وهي تشق صحراء شاسعة للانهيار سيستوي فوق الهموم وفوق ما اعتاد الطغاة، سيظل ينتظرها وهو يشيع بيننا أحلامه ويعلقها على حبال الشمس سيظل ينتظرها وان علا رأسَه بياضُ الثلوج اليتيم سيظل ينتظرها ويحرضنا لنحرّض ابناءنا وأحفادنا على الانتظار ولكنه بعد حين سيقول لنا مثلما يقول لروحه : لا تنتظر حرية قد تختفي في الانتظار وانما اهرع اليها طائرا، فهي التي من أجلها نحيا غدا وهي التي من أجلها نمضي سدى، لا تنتظر حرية من أجلها نمضي سدى ولتنتظر حرية من أجلها نحيا غدا.