أول صرخة أطلقها بلسان القلم عند ولادتي في كلمة جديدة! هذا هو الانطباع البديهي الذي يحدثه فيّ التفكير في الكنعاني المغدور... وكل محاولة لإعادة ترتيب الذاكرة والأحداث والزمن والصور والكلمات تجعل التاريخ في مرآة الذاكرة أشبه بجدارية تشكيلية كبرى محفوفة بالالوان والرموز والحركات. يمكن للشعر ان يكون ديانة ويمكن للكنعاني المغدور ان يكون نبيا، له طاقة هائلة من الحب تجعل من مريديه أطفالا أزليين ومن تعاليمه رباطا أبديا بين من فهموا الرسالة... لم يكن تشبثي بالدموع الزرقاء وبالنحيب الضاحك الذي يقتلع كل توازن فيّ في ذلك المساء الشتائي المالح سوى محاولة اخيرة لتتبع الاثر الضوئي عندما كان اصدقاء الشاعر ومريدوه يودّعونه في ركح دار الثقافة ابن رشيق وهو حاضر معهم... لقد كانت جذوة روحه المتقدة تسحرني عبر السنين الى ان قال احد أدعياء الفلسفة وهو لا يملك من الذكرى سوى ما يذهب الى الصدى «وهل تطيق وداعا أيها الرجل» عندها اشتدّ الحصار على دربي القديم وتفتحت الابواب على اعصار الذكريات وأدركت انني أقل شجاعة من ان أصافح شاعرا ذاهبا الى الموت. تلك البئر القديمة والحياة تنام تحت شرفتها لم يكن في الايام ما يكفي النوارس كي تهاجر و وحين لمحته يصعد الى ركح الوداع انتحبت بأكثر البكاء حرارة حتى انفرط عقد التعاليم فانبطحت ضاحكا حد البكاء وباكيا حد الضحك الموعود، منفيا عن كلمات التأبين للشاعر الحي، كلمات مقلوبة التكوين ومعكوسة المعنى أرادت أن تودع الجسد المؤقت فودعت بلاغتها. ومثلما خرج الكسيح من مداه خرجت من موكب يلفظ العبثي وكأن الحاضرين ضحاياه، ووجدتني ملقى امام جدار مبنى حكومي في شارع محمد الخامس. صديقي يا صديقي، كنت تغني الاسلاف وتقطف الاقمار من أنوارها وتسقي المزهرية كي ينبت الاصدقاء وتعزف لحن الثورة بقافية مرتجلة وتنتظر الفقراء. صديقي يا صديقي، سأرتل الليلة كلماتك في فضاء قصر العبدلية الذي نريده ان يكون فضاء لحرية الابداع ويريده الآخرون فضاء لقمع حرية الابداع، سأرتل كلماتك كي تعود في الاصوات الهادرة وفي أحلام الثوار، ستعود في مأدبة بواكير الحرية ستعود من أعالي الروح الشريدة ومن الصباحات الندية ومن عنف الانهار ومن عرق الجباه في حقول القمح ومن جراح عميقة في خيبة الحاضر ومن أمس بعيد متحللا من ماض بعيد تعود، فلأنتظرك تحت السنديانة خلف العشب المهمل اذ مازلت أثق بالاعصار، ولأنتظرك في ابتسامات رذاذ يبلله الشعر فمازلت أحلم بالامواج العاتية، ولأنتظرك في رقعة لا يجلس حولها الطغاة ولا فقهاء الظلام أولئك الذين يتربصون بالامل والقتل مفتاح غيومهم... صديقي يا صديقي عبد الحفيظ سأنتظرك في تنهيدة عاشقين وفي طاولات المقاهي والحانات وسأنتظرك في ما تناثر من الياسمين ومن جرس أو آذانا وسأنتظرك في ما تدحرج من حرية أولى وما تصاعد من حرية اخرى. صديقي يا صديقي يا آخر العاشقين. صديقي يا صديقي حفّة، سأنتظرك في خلجان الثورة ذات الزجاج المغطى بتناثر الرغبات الحرة... سأنتظرك هنا في القصيدة...