قبل الثورتين (التونسية والمصرية) كانت العلاقة بين البلدين من طرف واحد نحن هنا في تونس نعرف كل شيء تقريبا عن مصر، حتى أننا نكاد نشم رائحة الملوخية بالأرانب من نوافد الافلام والمسلسلات، كل شعب مصر التقيناه في روايات نجيب محفوظ وعبد الرحمان الشرقاوي وتوفيق الحكيم ويوسف السباعي وطه حسين... كل آهة ترددها مصر تصلنا مع أغاني أم كلثوم وعبد الوهاب وفريد وشيخ إمام وإسمهان وعبد الحليم... ومع قصائد عبد الصبور وعبد المعطي حجازي وأمل دنقل وأحمد فؤاد نجم والأبنودي... أما الاشقاء (حتى لا أقول كلمة أخرى) هناك في مصر لا يعرفون عن تونس سوى «أبي القاسم الشابي» وفرق كرة القدم وبعض المغنين المهاجرين الذين لا يتجاوز مشروعهم الفني نشر كلمة «برشة»! لكن بعد الثورتين انتبهنا الى ان هذه العلاقة متوقفة منذ السبعينات فنحن لا نعرف شيئا عن ابداع الاجيال الجديدة شعرا ورواية ومسرحا وسينما وفنونا تشكيلية وكل ما اصبح يصلنا من مصر تقريبا هو بعض المسلسلات والافلام التي لا تخرج مواضيعها عن الفيلات الفخمة في «شرم الشيخ» واليخوت المترنحة على النيل وسيارة «البي« وكانيش «الست» والفتى الصعيدي المرح... الى آخر نكتة معجونة بالجهل والعنصرية تخرج من فم «عادل إمام». بل والأبعد من ذلك ان الثورتين كشفتا أمامنا حقيقة مرّة وهي ان مصر لا تعرف نفسها أصلا وتونس كذلك، وامام هذا الجهل بهويتنا وحضارتنا فتحت المجالات امام الساسة الجدد ليضعوا تعريفات جاهزة لنا، وهي في الاصل تعريفات لا تتجاوز حدود ذقونهم (في الليل الطويل الحالك يمكن للشمعة ان تقترح نفسها شمسا!) إن ما نحتاجه الآن أبعد من تمجيد الثورة وتقديس أيقوناتها، ان ما نحتاجه الآن هو أن تنصت بعمق الى أصواتنا وان نصدق أحلامنا، نحتاج الى أعمال منفلتة تحرّض على ثورة فكرية ثقافية وأظن ان العددين الأخيرين من مجلة «الكتابة الأخرى» والمخصصين لثورتي مصر وتونس، ينتصران لهذا المفهوم، والحقيقة ومنذ انبعاثها أوائل التسعينات كانت (المجلة) تحرّض على الثورة. مجلة بصفحات مسمومة يرتجف منها كل قارئ له عادة التصفح بلعق أصابعه، مجلة لها ما لصاحبها الشاعر «هشام قشطة» من صعلكة وتمرد وعناد تنشر متى شاءت وتتوقف متى شاءت! في عددها الاخير. أوت 2012 . احتفت المجلة بالثورة التونسية، أو هي اقتربت من تونس كما يقول صاحبها في افتتاحيته: تقترب من بلد حين شهدنا أهله في شارع الحبيب بورقيبة، وهم يهدرون بالثورة، أيقنا أننا أمام تعريف جديد للانسان العربي قوامه: القدرة، امام تعريف حقيقي للعدالة الاجتماعية والكرامة والحرية الانسانية، فأصبح الحلم واقعا لا مراء فيه. في توثيقها للثورة التونسية كانت المجلة تفعل ما تفعله الفراشة تذهب الى جهة الضوء. لم تحاول الطواف بأيقونات الثورة: البوعزيزي، سيدي بوزيد، «هرمنا»، «بن علي هرب»... الخ، وإنما كانت تحاول اكتشاف الوعي الغامض الذي كان يحرّك الثورة، الاحلام المهرّبة، الاصوات المكبوتة، الريشات المسمومة... كانت المجلة تتسكع في شارع الحبيب بورقيبة، تقترب من مثقفي تونس الأحرار، تقتفي أثر «أهل الكهف» هؤلاء الفتية الذين جعلوا الجدران تصرخ انها يمكن ان تكون سماوات صغيرة، تلك الجدران التي سئمت أكتاف العاطلين وبول السكارى وملصقات البلدية ومربعات الانتخابات... كما لم تنس المجلة ان تمر بعصابة الشعراء الشبان (الجيل الشعري الجديد) ذلك الذي يعد بالحرائق والتخريب. عادت المجلة الى الصحف ابان الثورة وتصفحتها لتجمع مقالاتها المعجونة بالدم والدموع والغاز والصرخات التي أطلقها الاحرار... كل هذا فعلته مجلة «الكتابة الأخرى» بجهد لا يتحمله سوى المحب في عدد ضخم يقارب 600 صفحة ما فعلته المجلة حقيقة هو محاولة صادقة في حب تونس. في هذا العدد الضخم نقرأ كذلك حوارات مع فنانين تونسيين التزموا بقضايا الشعب، نقرأ مقاربات وبيانات لمثقفين ومبدعين ونتابع ملفات مصورة عن الثورة والثوار. في هذا العدد (المخصص للثورة التونسية) وفي الاعداد السابقة تستحق مجلة «الكتابة الأخرى» ان تفتكها من أول قارئ على القارعة، وان لم تستطع يمكنك ان تسرقها منه دون ان تترك له رسالة اعتذار.