شكّل الذي أقرّه اتّحاد الشّغل الحدث الوطنيّ بامتياز وفرض نفسه على الجميع المساندين كما المناوئين. وكشف عديد الحقائق التي على تمثّلها بوعي وفهمها بمسؤوليّة يتوقّف التّفاعل مع ما يعتمل في السّاحة من مخاض سيطبع حتما مستقبل تونس. رفضا للتّبسيط ذهبت بعض المتابعات وحتّى التّحاليل إلى أنّ الاضراب العام لم يكن ورادًا في جدول أعمال الهيئة الاداريّة لولا تدخّل عامل خارجيّ تمثّل في تصريح راشد الغنّوشي زعيم حركة النّهضة في ندوة صحفيّة عاصفة وُظّفت للتّهجّم على اتحاد الشغل. وهو رأي قاسر من أيّ مدخل نظرنا إليه. فمنظمة بحجم اتحاد الشغل لا يمكنها بأيّة حال أن تبلور مواقفها على ردود أفعال أيّا كانت وجاهتها ومشروعيّتها. لقد امتُحن اتحاد الشغل في أهمّ ركيزة بُنيَ عليها = الاستقلاليّة ورفض التّهميش والنّيْل من رمزيته وحترام فعاليّاته النّضالية والاحتفاليّة. لقد فُهمت الهجمة علىمقرّه المركزيّ والاعتداء على إطاراته وموظّفيه وتحريف احتفالياته على أنّها نيْل من مكانته كفاعل أساسيّ في السّاحة فكان الموقف النّقابي ردّا اعتباريّا وإعلانا لحقيقة تاريخيّة = الشّأن السّياسيّ ضلع أساسيّ في فعل المنظمّة. الاضراب سياسيّ بالتّعريف فجهة سياسيّة هي التّي استهدفت الاتحاد وجهة سياسيّة هي التي كالت التّهم للمنظمة وجهة جهات سياسيّة هي التي احتضنت فعل رابطات حماية الثّورة وشرّعت اعتداءها على أنّه تعبير عن رأي ومجرّد تدافع {على رأي السيد راشد الغنّوشي رضي اللّه عنه وعلى صحبه من الفتيان حماة الثّورة}. لم يكن الاضراب إذن خيارًا من خيارات دعنا من تلك التّحاليل التي رأت في موقف ما بعديّ أنّه كان بالإمكان اتّخاذ مواقف نضاليّة أقلّ خطورة ومخاطرة. لقد أعاد الاضراب الاتّحاد إلى دائرة الفعل السيّاسي بامتياز وهو أمر وثيق الارتباط بتاريخ الحراك النقابيّ ذي الإرث الثّقيل والخطير. جوهر الخلاف إذن يتمثّل في تصارع رؤيتين = رؤية تؤسّس عمدا وبتخطيط إلى حصر الاتّحاذ في مربع مطلبيّ مهنيّ حِرَفيّ وشريطة أن لا يتنافى مع السّقف الذي تحدّده السّلطة وأن لا يتضارب مع مخطّطاتها. إرث الاتحاد ماضٍ والحال أنّ التاريخ يبدأ مع بداية اعتلاء التّرويكا دفّة السلطة.. لا تاريخ قبلُ وكلّ التّاريخ بعد 23 أكتوبر 2011. بعد التأسيس كلّ شيء للتأسيس ورؤية تصرّ على أنّ الاتحاد بحكم عوامل تاريخيّة وانطلاقا من معطيات تتعلّق بخصوصيّات الحركة النقابية لا يمكن إلاّ أن يكون في قلب الشّأن السياسي وليس الحزبيّ {التّوضيح ضروريّ}. وإذا كان الأمر قبل 14 جانفي 2011 وفاء لإرث فإنّه اليوم التزام باستحقاقات مرحلة تأمينها وتحقيقها واجب نقابيّ سياسيّ ووطنيّ. الدّفاع المغلوط التّباهي بهيبة الاتّحاد ومكانته والاتّكاء على إرثه بات لازمة يتّكئ عليها الموقف النّقابيّ كلّما اضُطرّ إلى خوض موقف نضاليّ أو سنّ مطلب ما. الشّأن السّياسيّ سمة لازمت المنظمة منذ ولادتها على يد المؤسّس الأوّل محمد علي الحامي. هذا الثّبت يليق بمؤرّخ أكاديميّ ولكنّه لا يليق مطلقا بمناضل نقابيّ أو سياسيّ رغم مايبدو في الموقف من غرابة لأنّ انغراس الحركة النّقابيّة في الهمّ السّياسيّ تمليه اعتبارات نقابيّة وسياسيّة ومجتمعيّة اليوم، الآن، في خضّم حراك هو ضرورة وليد الثّورة التي ساهم الاتّحاد في مفاصلها بقسط وهو مؤتمن موضوعيّا على المساهمة في عدم تعثّرها. وحتّى لو افترضنا جدلاً أنّ تاريخ المنظمة خال من أي تماهٍ مع الشأن الوطنيّ فإنّ الظرفيّة تحتّم عليه الارتقاء إلى مرتبة الشّريك والنّدّ المسؤول، التّسليم بدور الاتحاد في الخوض في أمّهات القضايا لا يجب أن يكون مكافأة له على دور أدّاه في ماض بعيد وقريب، في مرحلة التّحرّر الوطنيّ كما في زمن البناء بناء الدّولة الوطنيّة، زمن التّصالح مع السّلطة وزمن التّمرّد على السّلطة بل لأنّ خصوصيّة الوضع الرّاهن وخصوصيّة المنظمة. الآن كجسم متموّج متنوّع قادر على تأطير تبايناته حفاظا على استقلاليّته وضمانا لوحدته، تحتّم على الحركة النقابية أن تصطفّ بوعي وبمسؤوليّة تاريخيّة مع قوى التّحرر ضدّ قوى الرّدة، مع قوى التّفتّح ضدّ قوى الانكماش، مع مناخ ديمقراطيّ تعدّدي ضدّ مناخ منغلق ومسدود، ذلك هو جوهر وجود الفعل النقابي. وحتّى ما تقوله قيادات المنظّمة من أنّ اتحاد الشغال يقف على نفس المسافة من كلّ الأحزاب ففيه نظر منغلق ليست المنظمة ولا يجب أن تكون أسيرة أجندا حزبيّة نعم وهي مستقلّة في تصوّراتها صياغة وقرارًا وانجازا عن كلّ الأحزاب منفردة ومجتمعة نعم أيضا ولكنّها ليست على نفس المسافة من كلّ الأحزاب والأطراف. فثمّة جهات {أحزاب ومنظمات وجمعيّات وشخصيّات}. لا يمكن الاّ أن تكون صديقة للاتحاد وسندا له وبينهما قواعد مشتركة ومجالات التقاء عديدة وثمّة بالمقابل جهات لا يمكن الاّ أن تكون معادية للاتحاد لأنّها تروم إلجام «العامّة» عن الكلام لتستأثر «الخاصّة» بكلّ الكلام. ذلك شأن ثلاثيّ الحكم {مع بعض التّفاوت} الذي يروم الاستئثار بالشّارع وممارسة شتّى الضّغوط لمنع كلّ فعل لا يلاقي هَوًى لدى الفريق الحاكم عبر اعتناق سياسة ترويع وتخويف واستعراض عضلات لحمل النّاس على دخول بيت الطّاعة وهجر كلّ فعل احتجاجيّ تجنّبا للانتقام والتأديب والثّأر في هذا الإطار تُفهم أحداث 9 أفريل وحملات «اكبس» وإفشال فعاليات الجهات غير المنضبطة وملاحقات فاعلين سياسيين ونقابيين وحقوقيين والهجوم على مقرّات الأحزاب والمنظمات. إنّه فعل مدروس ومقصود وهادف = التّرويع ثمّ التّرويع لإفراغ السّاحة من كلّ احتجاج والحيلولة دون بروز بدائل تهدّد بمنازعة الفريق الحاكم في المحطّة الانتخابيّة المقبلة التي سيطبع مستقبل تونس لعشريّات. في هذا الاطار لافي غيره يكتسي الاضراب العام الذي قرّره اتّحاد الشّغل كلّ دلالاته السّياسيّة والرّمزيّة. وما عدا ذلك فتفاصيل الرّبح والخسارة ماذا ربح اتّحاد الشّغل من إلغاء الاضراب؟؟ عمليّا لاشيء الشّجاعة الأدبيّة والنّقابيّة والسّياسيّة وحتّى الأخلاقيّة تملي علينا الإقرار بأنّ الاتحاد ربح كلّ شيء بإعلان الاضراب ولم يغنم شيئا من إلغائه. فبإقرار الاضراب دقّ الاتّحاد ناقوس الخطر ودلّل على الإشكال الحقيقيّ = التّشريع للانفلات والتّسويق له بترسيم رابطات حماية الثّورة وصيّا على الثّورة وناطقا بالوكالة باسم أحد أضلاع الثّالوث الحاكم ومترجما لهويّته تبرّم الحكومة والأطياف التي تدور في فلكها بكلّ فعل سياسيّ: اجتماعيّ، جمعياتيّ مستقلّ عن «النظام الجديد» التّداخل بين الدّولة والحزب الحاكم وليس الأحزاب الحاكمة {مادام للنّهضة ديكور هو شريكاها في الحكم صوريّا ومزكّيا سياستها عمليّا} التّداخل بين الدّين والدولة بتطويع دور العبادة للدّفاع عن أهداف الحكومة {تهييج أيّمة المساجد نموذج}. بإعلان الاضراب رسم الاتحاد مطلبا نضاليّا لسائر الأحزاب والجمعيّات والمنظمات إدانة العنف ورفضه وإزاحة الطّوق عن أنشطة الفاعلين، سائر الفاعلين بقطع النّظر عن تقاطعهم، التقائهم أو تباينهم مع أحزاب السلطة، موضوعيّا خاض اتّحاد الشغل معركة نيابة عن الجميع ولكن بدون توكيل من الجميع، معركة هي بكلّ المقاييس أكبر من الحركة النقابيّة لأنّها معركة مجتمعيّة حسمُها يتوقّف على مدى نضج الفاعلين السّياسيين وإرادتهم وتصميمهم. لقد كانت الأطراف السّياسية الديمقراطية والتّقدميّة مع اتّحاد الشغل بالنّية والتّعاطف ولكنّها لم ترقَ إلى مستوى إدراك أنّ المعركة معركتها وأنّ تركيع اتّحاد الشغل خيمة الجميع كما يردّد الجميع حلقة ومقدّمة وليست نهاية، امتحان لفرض الأمر الواقع. موضوعيّا مارست الأحزاب السّياسيّة ذات المرجعيّة اليساريّة {بمفهومها الواسع} موقفا فرجويّا ورأت في تعاطفها مع الحراك النقابيّ إثباتا لهويّتها وتدليلا على صدقيتها ومصداقيتها ولكن ميدانيّا كان فعلها باهتا محدودا وغير مدروس. لقد أرادت بقطع النّظر عن تمثّلها لذلك من عدمه أن يكون الاتّحاد مترجما لهمومها ومطالبها وأهدافها ونائبا عنها في معاركها. في هذا الاطار يُقْرأُ الاضراب إقرارًا وإلغاء، تفاعلا وإدانة، تحمّسا وتوجّسا. إعلان الاضراب قرار سياسيّ بامتياز {لا يهمّ كثيرًا درجة إدراك القيادات النّقابيّة لذلك} ولم يكن أبدًا متسرّعا ولا متشنّجًا ولا انفعاليّا تماما كموقف الحكومة وخاصة حركة النّهضة. موقف حركة النّهضة متصلّب ومتشنّج جدّا ولكنّه تصلّب مدروس ومقصود: أوّلا لأنّ حزب حركة النّهضة حزب حاكم تملي عليه هويّته ومرجعيته السّيطرة على كلّ دواليب المجتمع، اللّعبة الدّيمقراطية لا تعنيه في شيء، هدفه هو تكييف المجتمع التونسيّ باستغلال السّلطة وتوظيفها في نحت مجتمع منمّط. ثانيا: لأنّ النّهضة تروم حسم الصّراع بين موالاتها لإملاءات خارجية تروم ترويضها وصهرها في عمل علنيّ مراقب ومؤطّر للقطع مع اسلام سياسيّ حركيّ متطرّف وبين استغلال الاستئثار بالسّلطة واستغلالها لتهميش «الخصوم» والمنافسين. ثالثا: لأنّ الحركة بوصفها حزبا حاكما تعي جيّدا سياسة فرض الأمر الواقع وحسم الانتخابات قبل موعدها بفرض مناخ سياسيّ اجتماعي يضمن هيمنتها وجرّ الجميع إلى حلبة الصّراع الذي تختاره في الحلبة التي تختارها. في هذا الاطار لا في غيره تُفهم سياسة الحكومة الناطق الرسمي باسم النّظام الجديد بتعبيرته السياسية حركة النّهضة وفي ذات الإطار يتنزّل تفاعل النّهضة مع اتّحاد الشغل. تتباهى المنظنمة بهيبتها فكان لابدّ من غزوها في عقر دارها. وتتباهى المنظمة بإشعاعها فكان لابدّ من اتّهام أصدقائها بالتوظيف والتسلّل وحتّى الاندساس وتقْسم القيادات النقابية الى وطنية وغير وطنيّة (متطرّفة). وتتباهى المنظّمة بإرثها فكان لابدّ من حصر الفعل النّقابيّ في المربّع المهنيّ الحرفيّ فقط مع اتّهامها بالولاء لنظام بن علي وخدمته والانضباط لسياسته حتّى يكتسب شعار التّطهير وجاهته. وتتباهى المنظّمة بمكانتها كما يترجمها شعار «الاتّحاد أكبر قوّة في البلاد» فكان لابد من من حشد المناوئين في مسيرات استعراضيّة وتجمّعات عدائيّة {لا يهمّ كثيرًا علاقة المنظّمين والموظّفين بالفعل النّقابي}. وتتباهى المنظمة بوحدتها وقدرتها على صهر الاختلافات والتّباينات وحتّى الصّراعات في صنع القرار النّقابيّ المستقلّ فكان لابدّ من اعتماد سياسة تشكيك وإرباك {بيانات تنديد واستنكار انسلاخات استقالات..} والتّلويح ببعث أجسام نقابيّة غريبة في استنساخ عجيب لتجارب سابقة لأنظمة سابقة {الشرفاء الاتحاد الوطنيّ الشُّعب المهنيّة} تدليلاً على تشابه الأنظمة الاستبداديّة حتّى في طرق الاخراج. فماذا عن إلغاء الاضراب؟ إذا سلّمنا بأنّ قرار الاضراب قرار سياسيّ وعت القيادات النّقابيّة ذلك أم لم تَعِ فلا مناص من التأكيد على أنّ الإقرار شيء والتّنفيذ شيء مغاير تماما. التّنفيذ مسؤوليّة أكثر ثقلا وخطورة ومجازفة فالنّقطة المفصلية التي تمحور حولها الاضراب هي بلا مواربة حلّ رابطات حماية الثّورة وفي أسوإ الحالات إدانتها ومحاكمتها أيّ تقليم أظافر النّهضة بحرمانها من ذراعها الطّولى وجناحها الميدانيّ في مصارعة وتأديب منافسيها وخصومها أي فرض الاحتكام إلى مؤسّسات الدّولة أي إدانة السّلوك السياسي للنّهضة القائم على ترويض المنظّمات والادارات والمؤسسات بالعنف، عنف الميليشيات. المسألة إذن سياسيّة وحسمها سياسيّ ضرورة موقع المنظّمة مهمّ وقد يكون أساسيّا ولكنّه ليس مركزيّا. كلّ قرار هو حتمًا قراءة في معطيات وتفاعلات. كلّ التّفاعلات إجمالا دعنا من تفاعلات المناوئين كانت تدفع في اتّجاه إلغاء الاضراب بإيجاد تسوية ما تحفظ ماء الوجه. هاجس الخوف من الانفلات الذي غالبا ما يصاحب التحرّكات الكبرى دُفعً إلى أقصاه والتّحذير من التّصادم طبع جلّ الخطابات والمواقف حتّى بات الاضراب إن وقع كارثة ستحلّ بالبلاد. لا يتعلّق الأمر في اعتقادنا بمعادلات حسابيّة مرتبطة بنسبة نجاح الاضراب ولا بتخوّف من تحمّل مسؤولية وتبعات بل بمناخ عامّ معقّد إلى درجة وبفاعلين سياسيين مرتبكين إلى حدّ كبير وبحكومة عاجزة عن البتّ في أيّ إشكال {ناهيك عن حسمه} مكتفية بالتحصّن بمشروعيّة دستوريّة وتسويقها على أنّها مشروعية شعبيّة والتّباهي بها بدون موجب أحيانا والاستعاضة بها عن كلّ تفاعل مع متطلّبات المرحلة والواقع الاجتماعيّ والسّياسي. على ضوء هذه المعطيات يُقرأ الاضراب إلغاء وإقرارًا بعيدًا عن النّزعات الانفعاليّة المشدودة إلى اللّحظة المنفصلة عن اعتبارات موضوعيّة فما طرحه الاضراب لازال معلّقا. والسؤال كلّ السؤال: كيف ومتى تهتدي كلّ الفعاليّات إلى ضبط حدود الاتّصال والانفصال، المشترك والخصوصيّ، النقابيّ والسياسي، الآنيّ والمتسقبليّ، العام والخاص؟ كيف؟ كلّ إجابة هي حتما مدخل من مداخل وقراءة من قراءات في واقع متشابك ومعقّد. ما حدود التّماس بين النّقابيّ والسّياسي في مرحلة مخصوصة؟ إلى أيّ حدٍّ تعي الفعاليات السّياسية التي احتمت بالمنظمة النقابية محدوديّة الدّور السّياسيّ للحركة النقابية؟ إلى أيّ حدّ تستوعب الأحزاب السياسية، الشّأن السياسي العام والفعل السياسيّ الحزبيّ؟ كيف يمكن وبوعي المنظمة النقابيّة أن تنغرس في الشّأن السّياسي دون أن تتحوّل إلى يافطة حزبيّة؟ هل الاستقلاليّة النّقابية رؤية وتصوّرا وإنجازًا واقع أم هدف؟