الأخوات والإخوة، يا عمال تونس الأحرار يحيي الشغالون اليوم، الذكرى الخامسة والثلاثين لأحداث 26 جانفي 1978، وفاءً لأبطال تلك الملحمة التاريخية التي خاضها مناضلو الاتحاد العام التونسي للشغل وعموم التونسيين الذين انتفضوا ضد سياسات الاستبداد والاستغلال والتفقير، تخليدا لذكرى من سقطوا منهم فداء للحرية والاستقلالية والكرامة الوطنية وفي مقدّمتهم سعيد ڤاڤي وحسين الكوكي، ولكن ايضا لاستخلاص الدروس والعبر. الأخوات والإخوة، يا عمال تونس الأحرار لم تكن احداث 26 جانفي 1978 وليدة الصدفة ولا هي حركة معزولة عن سياقها التاريخي ولا كانت مؤامرة أو مجرّد ردة فعل كما يسوّق إلى ذلك البعض بل كانت تعبيرا عنيفا ومكثفا عن حالة التأزم السياسي والاقتصادي والاجتماعي التي آلت اليها البلاد. فعلى الصعيد السياسي شكلت خلافة الرئيس الحبيب بورقيبة محور الصراع داخل الدولة وصلب الحزب الاشتراكي الدستوري الحاكم، صراع بين جناح المحافظين المتشددين المتمسكين بالهيمنة على المجتمع وإبقاء كل مكوناته تحت السيطرة التامة وجناح الليبراليين الذين يدعون الى منح جرعة من الحريات الضرورية لازدهار رأس المال واستقرار اقتصاد السوق، صراع أفسدته لعبة التسابق نحو الخلافة فغاب الحوار والتوافق... وخسرت تونس فرصة تاريخية لتغيير حقيقي... وعلى المستوى الاقتصادي كان لأزمة الرأسمالية العالمية في أواسط السبعينات من القرن الماضي تأثيرٌ واضح ومباشر على الوضع الاقتصادي في تونس بحكم تبعية اقتصادها للدوائر العالمية تسبب في تفاقم التضخم المالي وانخفاض سعر الدينار امام العملات الاجنبية وانكماش التصدير نحو السوق العالمية مما أدى الى انتشار البطالة وتدهور المقدرة الشرائية الناجم عن تجميد الاسعار. كما كان للاختيارات التنموية المعتمدة والانفتاح على رؤوس الاموال الاجنبية في اطار قانون 1972 أسوأ الآثار على الاقتصاد الوطني وعلى النسيج الصناعي التونسي مما افقدهما مقومات المناعة ضد تقلبات السوق العالمية وارتهن قدرتَهما على توفير فرص التشغيل وخلق الثروة وتأمين شروط العيش الكريم، فتعمقت الاختلالات الجهوية وتفاقمت ظاهرتا النزوح والهجرة وتزايدت نسب الفقر والتهميش. الأخوات والإخوة، يا عمال تونس الأحرار لقد شكلت هذه الاختيارات والتوجهات النيوليبرالية عناصر خلاف بين الاتحاد العام التونسي للشغل والعمال وشريحة واسعة من المجتمع من جهة والنظام القائم وقوى رأس المال المضارب من ناحية أخرى. وبدأ التباين في وجهات النظر يحتد منذ بداية سنة 1975 ليأخذ شكل الصراع المعلن على امتداد سنة 1977 حيث كثرت الاضرابات والتحركات الاجتماعية. ولم يعد موقف الاتحاد مقتصرا على توجيه النقد والمطالبة بالالتزام بالاتفاقيات المبرمة بل وصل حد المطالبة بمراجعة الاختيارات السياسية والاقتصادية والاجتماعية المتوخاة من قبل الحكومة، فقدم النقابيون تصورات في الغرض واعدوا بدائل ومقترحات للحد من التفاوت الطبقي واعادة توزيع الثروة بأكثر عدل وانصاف وتحسين القدرة الشرائية والطلب الداخلي وظروف العمل والنهوض بانتاجية المؤسسة وديمومتها، كانت جميعها تعبر عن تنامي الوعي العمالي والنقابي الذي تُوّج بانعقاد المجلس القومي للاتحاد ايام 8 و 9 و 10 جانفي 1978 لتكون قراراته بمثابة القطرة التي افاضت الكأس. الأخوات والإخوة، يا عمال تونس الأحرار لقد سعى دعاة التشدد والاستبداد الى سدّ الطريق امام اي تقارب بين الجناح الليبرالي في السلطة والاتحاد العام التونسي للشغل الذي تعاظم نفوذه وكبر شأنه الى حدّ اصبح يرى فيه المتكالبون على الخلافة ان الاتحاد يمثّل عائقا جديا لتمرير مخطاطاتهم الرامية الى الاستحواذ على الحكم، فراحوا يخططون للتخلص منه تمهيدا لمصادرة المدّ الديمقراطي بتعبيراته الطلابية والجماهيرية والحقوقية والذي وجد لدى المنظمة الشغيلة التناغم المطلوب والتفاعل الايجابي وترجمته شعاراتها المنادية بالحرية والاستقلالية والكرامة الوطنية. الأخوات والإخوة، يا عمال تونس الأحرار لقد انطلقت حملات «التطهير» ضد مقرات الاتحاد ومناضليه في جميع جهات البلاد يقودها اعضاء الديوان السياسي للحزب الحاكم انفسهم : تشهير علني «بتحريفيّة» القادة النقابيين. استنفار لوسائل الاعلام الرسمية التي راحت تكيل الاتهامات وتؤلّب الرأي العام ضدهم، حملات واتهامات كانت تهدف بالاساس الى اظهار ان «اعداء النظام من الشيوعيين والبعثيين قد استولوا على مراكز القرار والتسيير في المركزية النقابية ليحثّوا على الاضرابات الاجتماعية ويغرقوا البلاد في الفوضى وليستولوا بالتالي على الحكم». بل وصل الامر حد التخوين عبر اتهام القائد الرمز الحبيب عاشور ومن خلاله الاتحاد العام التونسي للشغل بالتحالف مع قوى ودول أجنبية لزعزعة النظام... الى أخره من التهم التي تكررت وتتكرّر ضد الاتحا على امتداد عقود... رُفِضَت كل الوساطات التي تقدمت بها شخصيات وجهات وطنية وأجنبية ولم ينفع الميثاق الاجتماعي المبرم منذ جانفي 1977 بين الشركاء الاجتماعيين. كانت ارادة التخلص من الاتحاد لدى الجناح المتصلب في السلطة اكبر من ان تثنيها مصلحة البلاد ومستقبلها السياسي والاقتصادي والاجتماعي. وتحولت التهديدات إلى هجومات واعتداءات على مقرات الاتحاد تقودها ميليشيات الحزب الاشتراكي الدستوري في مختلف جهات البلاد في توزر وسيدي بوزيد وزغوان وسوسة وقابس وصفاقس وتونس... وخلفت دمارا هائلا ومئات من القتلى والجرحى واعتقال عشرات القيادات النقابية الذين زُجّ بهم في السجون بعد محاكمات صوريةمثلت وصمة عار في تاريخ القضاء التونسي. الأخوات والإخوة، يا عمال تونس الأحرار لقد كسب النقابيون، من خلال خوضهم لمعركة 26 جانفي 1978 التضحيات الجسيمة التي قدموها وهم يتصدون لقوى التسلّط والحيف الاجتماعي والاستغلال الطبقي، شرف الدفاع عن استقلالية قرارهم وعن قضايا الحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية مما جلب لهم ولمنظمتهم الكثير من التقدير والاحترام في صفوف الشعب التونسي ولدى الهيئات والمنظمات الدولية ولعلّ من ابرز مكاسبها انها مثلت منعرجا في اتجاه: تدعيم استقلالية الاتحاد عن السلطة وعن الحزب الاشتراكي الدستوري الحاكم. المساهمة في فضح الطبيعة الطبقية والاستبدادية للنظام القائم وفي ابراز ارتباطه بالدوائر الامبريالية وفي فضح جشع الرأسمال الطفيلي. المساهمة في عزل النظام الحاكم داخليا وخارجيا وحشد القوى الديمقراطيةو والتقدمية ضده. اكتساب المنظمة الشغيلة اشعاعا محليا ودوليا كبيرين وشرعية نقابية وشعبية رسخت وجوده ووسعت نفوذه. اكدت أهمية التضامن بين مكونات المجتمع في الدفاع عن قيم الحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية، كان من أكبر تجلّياته الوقفة الشجاعة لقطاع المحاماة مع النقابيين. اكدت انه لا يمكن الغاء دور الاتحاد العام التونسي للشغل باعتباره معبّرا ومدافعا عن القضايا العادلة للعمال ولنشطاء الحرية والديمقراطية والمساواة وان ما تعرض له لم يزده الا قوة وترسخا في وجدان الشعب التونسي. الأخوات والإخوة، يا عمال تونس الأحرار ان اتحادكم الذي خبر كل اشكال النضال ذودًا عن الحرية ودفاعا عن الشغالين في العيش الكريم وعن حقه في الوجود بوصفه منظمةً مناضلةً حرّةً ومستقلةً قادرةً على تجاوز كل المحن وخوض كل المعارك من أجل ان يبقى قوة بناء وتعديل داخل مجتمعنا ولفائدة الاجراء والفئات المحرومة والمضطهدة في اطار علاقات قائمة علي الحوار الاجتماعي البناء والمسؤولية المجتمعية المشتركة. ومن هذا المنطلق احتضن اتحادكم ثورة شعبنا المجيدة من أجل الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية وساهم من موقع متقدم في صياغة وتوحيد شعاراتها وتصويب ودعم تحركاتها منذ انطلاقها يوم 17 ديسمبر 2010 حتى سقوط رأس النظام في 14 جانفي 2011. ومن هذا المنطلق حرص على حماية اهدافها والتعاون مع فصائلها الثورية من أجل تأمين المرحلة الانتقالية وفق تمشٍّ وفاقي يراعي مختلف المصالح ويستجيب لمختلف الاستحقاقات التي نادت بها الثورة. الأخوات والإخوة، يا عمال تونس الأحرار ان بلادنا تمرّ بوضع حرج للغاية لم يعد يقبل التجاذبات الايديولوجية والعقائدية. ان شعبنا الذي ثار على نظام الاستبداد والفساد ومن أجل حقه في الحياة الكريمة وفي الحرية والديمقراطية وحقه في المشاركة والمواطنة وحقه في العمل اللائق وفي الاستفادة ومن مقومات التنمية باكثر عدل وانصاف في مجالي التشغيل والتنمية مازال ينتظر الحلول التي تخرجه من دوامة الفقر والتهميش وقد نفد صبره. وان مطالبة الاتحاد العام التونسي للشغل من خلال مبادرته للدعوة الى حوار وطني من اجل التوصل إلى توافقات حول سبل وآليات ادارة المرحلة الانتقالية وكذلك تأكيده على دسترة الحقوق الاجتماعية والاقتصادية، لا غاية له من ورائها ولا مطمع له في التنافس على الحكم، إنما ذلك بوازع الوطنية ووفاء لدوره باعتباره قوّةَ تعديلٍ واقتراحٍ مستقلة وطرفا مؤتمنا على كلمة السرّ الذي اطلقها خالد الذكر فرحات حشاد «أحبك يا شعب». إنّ اقدامنا على اعداد مشروع للدستور حاولنا من خلاله تبليغ وجهة نظرنا حول نظام الحكم الذي نطمح اليه وحول ملامح المجتمع الذي نريده الى نواب الشعب في المجلس التأسيسي وكذلك اقدامنا على ابرام عقد اجتماعي مع شريكنا الاتحاد التونسي للصناعة والتجارة والصناعات التقليدية والحكومة تأسيسا لعلاقات اجتماعية نموذجية تقوم على احترام القانون والمواثيق الدولية وعلى مفهوم جديد للعمل يُوائِم بين متطلّبات العمل اللائق ومقتضيات تنافسية المؤسسة، إنّ اقدامنا على كلّ ذلك إنّما للتعبير عن إرادة حقيقيّة لدينا تعتقد أنّ خيار الحوار هو السبيل إلى التوفيق بين المصالح ومعالجة الخلافات والتناقضات. إنّ من يتوهّم يوما أنّ بإمكانه إلغاء دور الاتحاد وتغييب حضوره أو إرباك مسيرته أو الاعتراض على حقّه في ابداء الرأي بشأن قضايا شعبنا واستحقاقات مجتمعنا إنّما هو فاقد للذاكرة ومجانب للصواب وميال إلى التغوّل والاستبداد مثل سابقيه. إنّنا في مثل هذه المناسبة لا يسعنا الاّ أن نحيل المتحصّنين زورا وبُهتانًا وراء ثورتنا المجيدة تحت عنوان «رابطات حماية الثورة» إلى معركة 26 جانفي التي خاضها الاتحاد ضدّ الاستبداد ليستخلصوا العبر وليراجعوا حساباتهم الخاسرة فما أشبه تلك الرابطات بميليشيات التجمع المنحلّ وما أشبه الملابسات التي حفّت بالاعتداءات التي استهدفت الاتحاد في الذكرى الأخيرة لاغتيال حشاد العظيم من تجييش للمتطرفين والمرتزقة ومن استنفار لدور العبادة في خرق تام للقانون ولمبدأ حياديتها ما أشبهها بالملابسات التي حفّت بالهجوم على الاتحاد عشيّة يوم 26 جانفي على يد قيادات الحزب الاشتراكي الدستوري آنذاك وميليشياته. وفي انتظار أن تبوح أعمال لجنة تقصّي الحقائق التي أحدثت بيننا وبين الحكومة للتدقيق في ظروف الاعتداء على مقر المركزية النقابية يوم 4 ديسمبر الماضي بنتائجها لنتبيّن جدية النوايا المعلنة حول مقاومة العنف واستئصال أسبابه فإنّنا نجدّد دعوتنا إلى الحوار والتوافق وإلى التضامن في وجه الإرهاصات الأمنية والاقتصادية والاجتماعية التي تتربّص ببلادنا وتهدّد مكتسبا ت ثورتنا. كما نطالب مجدّدا بالكشف عن ملابسات الاغتيالات والتعذيب والاعتداءات على النقابيين وعموم التونسيين بمناسبة الاضراب العام في 26 جانفي 1978 دفاعًا عن الحقيقة وتجسيما للانصاف والعدالة. فلا عاش في تونس من خانها ولا عاش من ليس من جندها. المجد لشهدائنا. عاشت تونس حرّة منيعة. عاش الاتحاد العام التونسي للشغل حرّا مستقلاًّ، مناضلا ديمقراطيا. تونس في 23 جانفي 2013