سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.
تطوّر العلاقة تاريخيا بين السلطة والمركزية النقابية بين التحالف الاختياري والاضطراري.. الحبيب عاشور
صراع من أجل استقلالية لا تخلّ بالتحالف وأخرى خارج التحالف لا تصل حدّ المعارضة المطلقة أو المنظّمة
من ميزات التاريخ حفظ الذاكرة وتدوين الوقائع، لتداولها الأجيال فتكون عبرة لمن يعتبر، ونبراسا يضيء دروب الحاضر والمستقبل.. هذه بديهيات نسوقها من باب التوطئة لجوهر موضوع العلاقة التاريخية بين السلطة والاتحاد العام التونسي للشغل والتي لعب فيها الزعيم الراحل دورا مهما يحفظه له التاريخ بإيجابياته وسلبياته. في ندوة علمية انتظمت منذ أكثر من عشرين سنة تناول عدد من المؤرخين والجامعيين والنقابيين تطوّر العلاقة تاريخيا بين السلطة السياسية والحركة النقابية منذ فجر الاستقلال. وكان من بين المحاضرين الأستاذ الطيب البكوش. وفي ورقة علمية جمعت بين التحليل الأكاديمي والتجربة الميدانية باعتبار تحمّله مسؤولية الأمانة العامة للاتحاد اثر مؤتمر قفصة. بيّن المحاضر أن «تطوّر الحركة النقابية في تونس منذ الاستقلال سنة 1956 تحكمه جملة من العوامل السياسية والاقتصادية والاجتماعية». موضّحا أنّ «التحالف يبدو في مظهرين، الأول اختياري والثاني اضطراري، وأنّ التحالف الاضطراري يتّخذ أحيانا شكل تحالف تبعي بأتمّ معنى الكلمة وأنّ الصّراع يبدو كذلك في مظهرين، صراع من أجل استقلالية لا تخلّ بالتحالف وصراع من أجل استقلالية خارج التحالف ولكنها لا تصل إلى حدّ المعارضة المطلقة أو المنظّمة». التحالف الاختياري عاد المحاضر إلى ما قبل الاستقلال حيث «بدأ التحالف الاختياري بين الحركة النقابية والسلطة كامتداد للتحالف مع الحزب الحرّ الدستوري منذ تأسيس الاتحاد العام التونسي للشغل سنة 1946 من أجل الاستقلال الوطني وتواصل في فجر الاستقلال بصفة واعية اختيارية مجسّما بالخصوص في قيام الجبهة القومية بمناسبة الانتخابات التشريعية للمجلس التأسيسي في مارس 1956 وتواصل التحالف من أجل بناء الدولة الجديدة وتحقيق التنمية الاقتصادية والاجتماعية. وتتلخص مظاهر تجسيم هذا التحالف في: المشاركة في المجلس التأسيسي بعدد من النوّاب النقابيين. المشاركة في الحكومة ومؤسسات الدولة بعدد كبير من الإطارات النقابية ذات التكوين الاجتماعي والسياسي المتين. ومن مظاهر الوعي والاختيار: التردّد بين رغبة المنظمة الشعيلة في الانخراط العضوي في صلب الحزب الحرّ الدستوري الحاكم ومجرّد التحالف العادي. الاختلاف في تصوّر نمط التنمية (التقرير الاقتصادي والاجتماعي الذي صادق عليه مؤتمر الاتحاد العام السادس عام 1956). وقد انتهى هذا التحالف الواعي الاختياري عند انقسام الحركة النقابية في أكتوبر 1956 بظهور الاتحاد التونسي للشغل، ثمّ إزاحة أمين عام الاتحاد أحمد بن صالح في ديسمبر 1956، ولم يغيّر شيئا من الوضع الجديد التوحيد الذي تلا في مؤتمر استثنائي في سبتمبر 1957 أي بعد أقلّ من سنة. التحالف الاضطراري في خضم تلك الأحداث، انتهت مرحلة التحالف الاختياري ودخل الاتحاد مرحلة التحالف الاضطراري ومن ومؤشراته المشاركة في الانتخابات التشريعية ابتداء من سنة 1959 لا في نطاق «الجبهة القومية» أي ضمن قائمات الحزب الحاكم لا في جبهة، ذلك أن مفهوم «الجبهة القومية» قد تحوّل إلى مفهوم آخر هو «الوحدة القومية» التي كرّست هيمنة الحزب الدستوري على جميع المنظمات المهنية وغيرها بما في ذلك الاتحاد العام التونسي للشغل. تكريس مؤتمر الحزب في بنزرت (1964) لهذه الهيمنة عبر جملة من القرارات من أهمّها: القرار القاضي بإشراف الحزب على المؤتمرات النقابية بعث شعب وخلايا حزبية مهنية داخل المؤسسات لمنافسة النقابات ومراقبتها ومضايقتها عند الاقتضاء. تبنّي الاتحاد اختيارات السلطة رغم تناقضاتها ورغم بعض الاحترازات المعلنة أحيانا بشيء من الجرأة المتفاوتة. ليبرالية في الخمسينات (مناقضة لبرنامج الاتحاد الرسمي) اشتراكية في الستّينات (تبنّي السلطة لبرنامج الاتحاد لكن بعد إضعافه وإخضاعه). ليبرالية في السبعينات (تزكية من الاتحاد رغم رفع شعار الاشتراكية). عضوية الأمين العام للاتحاد في الديوان السياسي للحزب آليا حتّى سنة 1977. المشاركة المحتشمة في الحكومة في بداية السبعينات بوزير واحد (فرحات الدشرواي) سرعان ما فقد تمثيليته للمنظمة النقابية التي رشّحته. وتميّز التحالف الاضطراري في مطلع السبعينات بظهور مفهوم جديد يتمثّل في «السياسة التعاقدية» التي تحكم علاقة الاتحاد بالسلطة فقط وإنّما كذلك ببقية الأطراف الاجتماعية ممّا يجعل هذه العلاقة ثلاثية الأطراف (حكومة أعراف عمّال). الصراع من أجل استقلالية لا تخلّ بالتحالف: بدأ هذا الصراع في المستوى الفكري والمذهبي منطلقا للاختيارات الكبرى منذ فجر الاستقلال دون إخلال بالتحالف السياسي، ممّا دفع بالحزب الحرّ الدستوري إلى أن يتبنّى تكتيكا في مؤتمره المنعقد بصفاقس (1955) اختيارات الاتحاد التي بدأت تتطوّر شيئا فشيئا منذ مؤتمره سنة 1951 ثمّ أكثر في المؤتمر الخامس للاتحاد 1954)، وتطوّرت بصفة تكاد تكون نهائية في المؤتمر السادس (1956). وممّا يؤكد أن هذا التبنّي كان تكتيكيا ظرفيا فقد تمّ بعيد الاستقلال رفض تطبيق تلك الاختيارات ولم يقع تبنّيها رسميا وتطبيقها إلاّ بعد فشل التجربة الليبرالية في الخمسينات وبعد إضعاف الاتحاد وإخضاعه. رغم ضعف الاتحاد فإنّ المطلبية لم تمت وكذلك روح النقد قاعديا. وتكفي الإشارة إلى المناقشات التي دارت في المؤتمر الثامن (افريل 1960) وإلى الاحتجاج على إلغاء منح الموظفين والمطالبة بتجميد الأسعار ورفع الأجور. كما وقع لأوّل مرّة في المجلس الوطني (1962) التأكيد في النقاشات وحتّى في اللّوائح على ضرورة احترام استقلالية الاتحاد باعتباره طرفا في جبة قومية. هذه الأحداث تمثل مؤشرا على وجود شعور بدأ يتّضح تدريجيا لدى النقابيين بأنّ الحركة النقابية فقدت عمليا استقلاليتها. فالاستقلالية أصبحت إذن قضية من القضايا التي تناقش وتدرج لأوّل مرّة في اللّوائح منذ 1968 في مجلس وطني. هذا الشعور مواز في الواقع لاستفحال نزعة الهيمنة لدى السلطة منذ مطلع السّينات وتواصل محاولات التلاعب من القادة النقابيين لضرب الواحد بالآخر مرّة أخرى، كما حدث سنة 1968 مع أحمد التليلي و، ممّا أدى إلى تعويض الأول بالثاني في مؤتمر 1963. وقد بلغ هذا التوجّه قمّته في مؤتمر الحزب ببنزرت (1964) ومن أبرز مظاهر الصراع في تلك الفترة: مطالبة الاتحاد بالتعويض عن تخفيض الدينار(سبتمبر 1964) اختيار الاتحاد إزاء قرارات مؤتمر بنزرت الخاصة ببعث الشعب المهنية وتقنين إشراف الحزب على المؤتمرات النقابية. سجن الأمين العام ثمّ إزاحته وتعويضه في مؤتمر استثنائي اثر احتراق باخرة قرقنة. الصراع من أجل الاستقلالية خارج التحالف بدأ هذا الشكل من الصراع يتبلور في النصف الثاني من التسعينات، فلأوّل مرّة يستقيل الأمين العام من الديوان السياسي (1977) ولأوّل مرّة منذ الاستقلال يشنّ الاتحاد إضرابا عاما (26 جانفي 1978). فكان وصل الصراع حدّ المواجهة منذ خريف 1977 وكان الصّدام يوم الإضراب فسقط عشرات القتلى وعمّت النقابيين موجة من الاعتقالات والمحاكمات والفصل عن العمل بالجملة. وإذا كانت الأسباب الظاهرة هي الخلاف حول الأجور، فإنّ الأسباب الكامنة ترجع أساسا إلى عدم هضم السّلطة جرأة الاتحاد في انتقاد الاختيارات الاقتصادية والاجتماعية وبالخصوص طرق تطبيقها، لما يمثله مثل هذا الموقف من تكريس لاستقلالية الاتحاد وخروج عن دائرة «الوحدة القومية». لكنّ العنصر المهم في نتائج هذا الشكل الجديد من الصراع تمثّل في أن عملية تنصيب قيادة موالية مكان القيادة الشرعية قد فشلت لأوّل مرّة أيضا في تاريخ التنصيب نتيجة مقاومة اتخذت أشكالا عدّة من بينها المقاطعة والعرائض والإضرابات والتضامن النقابي العالمي، ولأوّل مرّة ترفع شعارات واضحة محورها التمسّك بالشرعية والاستقلالية والديمقراطية، وهو ما عجّل بعد أقلّ من ثلاث سنوات بالبحث عن حلّ للقضية النقابية فكان التغيير الحكومي في مطلع سنة 1980 فرصة لربط الصلة مع القيادة الشرعية من أجل إيجاد مخرج تمثّل آنذاك في تكوين لجنة نقابية وطنية تولّت تطبيع الوضع النقابي والإعداد لمؤتمر استثنائي أعاد الشرعية إلى أصحابها في 30 أفريل 1980 بقفصة. وقد تواصل هذا الشكل من الصراع خلال الأزمة التي اندلعت في أواسط الثمانينات بين الاتحاد والسلطة في ظروف شبيهة بأزمة السبعينات من بعض الجوانب، وواجهت السلطة الاتحاد هذه المرّة بالتقسيم والتهرئة والتنصيب أساسا، مع الطرد والمحاكمات المتفرّقة وشتّى أشكال المضايقات التي تخنق العمل النقابي دون ضجّة كبرى. وقد واجه النقابيون الضربة الأخيرة بنفس الأسلوب عموما، أي مقاطعة التنصيب والتمسّك بالشرعية والاستقلالية لكن في ظرف سياسي ونقابي عام أسوأ من ذي قبل. وكان كلما بدأ الصراع يتصاعد تحاول السلطة إقحام الاتحاد في مسؤولية الاختيارات وذلك باقتراح المشاركة في الحكومة تجديدا لعهد المشاركة في مطلع الاستقلال وقد حدث في أواسط السبعينات وناقش المكتب التنفيذي الموسّع المقترح ورفضه بأغلبية تشبه الإجماع، وقد تجدّد الاقتراح سنة 1983 بصفة أكثر احتشاما ورفض بدون نقاش. تحالف الثمانينات: هذه الفترة أكثر تعقيدا لأنها كانت فترة تحوّل جذري بالإضافة إلى أن ظروف التحالف وظروف الصراع مختلفة عمّا سبق، كما أن العلاقة أكثر تداخلا وتشعبا من ذي قبل. فقد اضطرّت السلطة في مطلع الثمانينات إلى الإقرار باستقلالية الاتحاد بصفة رسمية علنية إثر إعادة بناء الاتحاد سنة 1981، لكنّها سعت إلى استغلال التناقضات الداخلية بمناسبة الانتخابات التشريعية (نوفمبر 1981) لفرض تحالف جديد يتّخذ شكل تحالف اختياري ولكنّه لا يخلو من ضغوط متعدّدة الأشكال. وقد توصّل النقابيون رغم التناقضات ورغم قرار الدخول في «جبهة وطنية» إلى جعل التحالف شكلا لا عضويا، من ذلك تأكيد الاتحاد آنذاك بأنّ الجبهة تنتهي بانتهاء الانتخابات وليست جبهة نيابية للمدّة التشريعية. خصوصيات الصراع وتواصل الصراع في الثمانينات وانضافت إلى شعارات الاتحاد وأهدافه التقليدية ركيزة أصبحت لأوّل مرّة أساسية في مقولات الاتحاد، وهي دعم الحرّيات النقابية والحرّيات العامة والمكاسب الديمقراطية. ولم تتوان السلطة عن استغلال الأخطاء ومواطن الضعف في الصفّ النقابي لضرب الاتحاد العام التونسي للشغل من جديد وإضعاف الحركة النقابية وشلّها مرّة أخرى ولاسيّما ابتداء من 1985، فبادرت بالتشجيع على الانقسام داخل الحركة (بعث الاتحاد الوطني التونسي للشغل سنة 1984). ثمّ أخذت جملة من القرارات الرّامية إلى الحدّ من الحرّيات النقابية (حق الإجتماع وحق الإضراب بالخصوص وخنق العمل النقابي ماليا وعدم تطبيق الاتفاقيات للتشكيك في مصداقية الهياكل النقابية). وتوّجت السلطة هذه السلسلة من الإجراءات بإزاحة القيادة الشرعية بالقوّة وتنصيب قيادة موالية فرضت عليها بسهولة شكلا من التبعية المطلقة أسوأ من الأشكال التي سادت من قبل. لكن رغم ضعف الحركة النقابية وتخاذل بعض إطاراتها، فإنّ تنامي الوعي قد جعل هذه التبعية منحصرة في قيادة معزولة عن القواعد التي لم تعد ترضى بالأساليب القديمة وقد عبّرت عن ذلك بالخصوص بالمقاطعة. ندوة النقابة والمجتمع 1 7 ديسمبر 1987 نشر مركز الدراسات والأبحاث الاقتصادية والاجتماعية بتونس سلسلة علم الإجتماع 1989.