تبدو هذه المسألة من اللاّمفكّر فيه/ ممّا لم يفكّر فيه L'impensé في التّوجيهات العامّة للبرنامج الرّسمي. فقد اكتفى السّهرون عليه بتعداد ما ثبت كلاسيكيّا من مقوّمات الشّعر الفنيّة من قبيل «الصّورة والمعجم والأساليب والإيقاع»(1). وحتّى الجهاز البيداغوجي للكتاب المدرسي لا نجده يجهد في تلافي هذا الإهمال وفي سدّ هذه الثّلمة وغاية ما يفعله هو الوقوف عندها في مناسبات معدودات والتّنبيه إليها باحتشام ولا نراه يثيرها صراحة إلاّ في مناسبة وحيدة حين جعلها مدار سؤال مباشر هو «راوح الشّاعر بين السّرد والوصف في مدحه سيف الدّولة، وضّح ذلك من القصيدة وبيّن أثر هذه المراوحة في تنامي النّفس الحماسي»(2). عدا ذلك فإنّه يحيل عليها تلميحا لا تصريحا من قبيل «تتبّع وقائع مطاردة القائد العربي للقائد الرّومي وبيّن الطّريقة الفنيّة الّتي توخّاها الشّاعر في ذلك»(3). وتقع دون ريب مفردة «وقائع» في دائرة السّرد لأنّها تحيل على الأحداث وسبل انتظامها. وممّا يرسّخ هذا التّهميش للمقوّمات السّرديّة في شعر الحماسة الكتب الموازيّة فهي لا تعير كبيرها اهتمام في مشاغلها الفنيّة. خذ لك مثلا سلسلة كنوز الباكالوريا تجدها تقف عند حدود الإشارة الخاطفة للمسألة في غير عمق ولا وعي بأهميّتها ونورد تلك الإشارة حرفيّا «... بناء قصصيّ نراه في القصص الحماسي عند أبي تمّام في وصف مطاردة بابك الخرّمي والقبض عليه وقتله»(4). وهي إشارة لا تفي بالغرض فضلا عن كونها لا تؤصّل «القصص الحماسي»!! كما تزعم في كامل محور الحماسة ومع ثالوث شعراء الحماسة. إنّنا لا ندرك مبرّرا موضوعيّا لهذا التّهميش ولا نرى جدوى في حجب واقع فنيّ ماثل للعيان فالتّقاطع بين الشّعري والسّردي على أشدّه في الحماسة وقد انتبه إلى ذلك النّاقد مبروك المنّاعي وهو يقلّب النّظر في شعر أبي الطيّب المتنبّي فانتهى إلى القول: «الوصف الحماسي: نعني به اللّوحات الوصفيّة المطوّلة أحيانا والجيّدة غالبا الّتي يخصّصها المتنبّي لوصف معارك ممدوحيه وحروبهم ضدّ مناوئيهم وخصومهم، ويأتي بها في غضون المدحيات في شكل استطراد يوسّع معنى المدح الحربي ويثريه ويطيله إلى حدّ ننسى معه المدح أو نكاد وتنقلب معه القصيدة وصفا لجزئيات معركة وتفاصيلها بداية وسيْرا ونتائج»(5). إنّ العبارة الختاميّة في قول مبروك المنّاعي بالغة الأهميّة فهي تماثل بين القصيدة الحماسيّة والنصّ السّردي حدّ التّطابق على صعيد البنية فإذا ما انتظمت القصيدة وفق بداية وسير ونتائج استجابت للبنية الثّلاثيّة في النصّ السّردي [وضع بداية- سياق تحوّل- وضع ختام] وإذا ما توفّرت هذه البنية في القصيدة الحماسيّة انقلب الشّعر سردا أو في أدنى الحدود استرفد الشّعر بالسّرد واستند إلى تقنياته في بلورة دلالاته. ونحن نرصد أفانين مختلفة من السّرد منسربة في شعر الحماسة ويمكن أن نوجزها كما يلي: - أوّلا، السّرد الخطّي فقد يلتزم الشّاعر/السّارد بانتظام الأحداث الواقعي ويحاكي بنيتها في الواقع الموضوعي فيكون تطوّر الحركة السّرديّة تطوّرا خطيّا. والمثال على ذلك المواجهة بين الأفشين(قائد الخليفة المعتصم) وبابك الخرّمي(6). فقد رصد السّارد هجوم المسلمين على العدوّ [أسرى بنو الإسلام فيه وأدلجوا // بقلوب أسد في صدور رجال] ثمّ تابع المطاردة الّتي فرضها حدث لم يكن في حسبان الأفشين هو فرار بابك [تخذ الفرار أخا وأيقن أنّه // صِريّ عزم من أبي شمال] وانتهى نهاية سعيدة من زاوية المسلمين- طبعا- هي هزيمة العدوّ وقد لاح بابك متسربلا بذلّ الأسْر والقيْد منكسر الوجدان مشغول الخاطر بموت حتميّ يتربّص به في حين وآن [مازال مغلول العزيمة سادرا // حتّى غدا في القيْد والأغلال- والنّحر أصلح للشّرود وما شفى // منه كنحرٍ بعد طول كلال]. إنّ هذا الضّرب من السّرد يوغل في الإيهام بالواقعيّة ويستدرج المتقبّل إلى تنزيل «الأقاويل الشّعريّة»،على حدّ تعبير الفلاسفة، منزلة الوقائع التّاريخيّة المسلّم بها والموثوق منها!! - ثانيا، كسر خطيّة الزمن وهذا مطلب أثير في السّرديّة عموما لأنّ «لعبة الزمن» تمثّل عصب النّسيج السّردي(7). وغير خافية الأدلّة الدّاعمة في شعر الحماسة، من قبيل وصف المتنبّي لواقعة الحدث(8) فقد انطلق السّرد بنتائج المعركة/بناء القلعة [بناها فأعلى والقنا يقرع القنا // وموج المنايا حولها متلاطم] ثمّ تدرّج إلى مشهد قدوم الأعداء/ما قبل المعركة [أتوْك يجرّون الحديد كأنّهم // سرَوْا بجياد ما لهنّ قوائم] وانتهى إلى مشهد المواجهة الشّرسة/المعركة [فللّه وقت ذوّب الغشّ ناره // فلم يبق إلاّ صارم أو ضبارم]. - ثالثا، التّعويل على السّرد المفصّل كأن يضخّم مثلا أبو تمّام حدث المسير إلى القسطنطينيّة وهو تضخيم يهمّش سائر المراحل الأخرى. يقول معلنا انطلاق تلك الحملة [قدتَ الجياد كأنّهنّ أجادل // بقرى دروليّة لها أوكار] ولا تخفى خطّة السّارد فلمّا انتهتْ تلك الحملة بحصار فاشل للعدوّ كان إبراز مظاهر قوّة جيش المسلمين لا فيما أنجزه من نتائج بل في محاولة الإنجاز ذاتها!! - رابعا، التّعويل على السّرد المجمل فربّما أفرط السّارد في اختصار لحظة المواجهة هذا شأن المتنبّي في نقل إحدى المواجهات بين سيف الدّولة والرّوم. يقول [ركض الأميرُ وكاللّجين حَبابُه // وثنى الأعنّة وهو كالعقيان] ففعل «ركض» في رأس الصّدر يقدّم الأمير وهو يعبر النّهر مدشّنا بعبوره لحظة المواجهة أمّا فعل «ثنى» في رأس العجز فقد أفاد انتهاء الحرب ويكون العبور من الصّدر إلى العجز عبورا من مرحلة المواجهة إلى مرحلة ما بعد الحرب. نفس الموقف السّردي نجده عند ابن هانئ يقول [وبعثتَ بالأسطول يحمل عدّة // فأثابنا بالعدّة الأسطول] وبقدر ما أعلن فعل «بعث» في رأس الصّدر قدوم العدوّ وهو كامل العتاد فإنّ فعل «أثاب» في رأس العجز يفاجئنا بخسارة ساحقة مني بها العدوّ. - خامسا، السّرد المتقدّم والأصل في الخطاب السّردي هو سرد ما وقع (زمن السّرد الماضي) أمّا السّرد المتقدّم فهو افتراض ما يمكن أن يقع وهذا ما نتبيّنه في خطاب المتنبّي الشّاب وقد امتلأ ثورة على معاناته الاجتماعيّة وامتلأ نقمة على واقعه المريض(9). فهو يسرد مشاهد عسكريّة أفقها المستقبل يقول متوعّدا الملوك بحرب لا تبقي ولا تذر لوّاحة للبشر [سيصحب النّصل منّي مثل مَضربه // وينجلي خبري عن صمّة الصّمم] اتّضحتْ بناء على ما تقدّم علامات قاطعة تبيح الإلحاح على مسألة . وهو تقاطع لم ينشأ تاريخيّا مع حماسة أبي تمّام والمتنبّي وابن هانئ بل هو ضارب في القدم وسابق عن حماسة هذا الثّالوث ولو رمنا التحرّك في حدود المدوّنة الشّعريّة الّتي تكرّسها برامج التّعليم الثّانوي في العربيّة لاستحضرنا بيسر اغتذاء غرض الغزل بالسّرد وأفانينه فقد أضحتْ القصيدة مع عمر بن أبي ربيعة زعيم الغزل الحسّي مغامر غراميّة مستوفية كلّ مقتضيات النصّ السّردي وشروطه(10). ولاستحضرنا أيضا نهوض شعر أبي نواس على السّرد حتّى انقلبت القصيدة مغامرة خمريّة(11). فكلاهما يوظّف السّرد متغنيا بليلاه: ليلى عمر حقيقيّة/المرأة وليلى أبي نواس مجازيّة/الخمرة. لقد ساهم السّرد في تجديد طاقات القصيدة التّقليديّة واكتسبت المدحيّة مثلا مع ثالوث الحماسة تقنيات فنيّة جديدة فارتادت دروبا جديدة بعد أن سقطت في النمطيّة والتّكرار واستعادة ما استنّ منذ ان جعل الأعشى «الشّعر متجرا» كما يقول ابن رشيق القيرواني(12). فضلا عن ذلك فإنّ السّرد ارتقى بالأحداث التّاريخيّة إلى مصاف الحدث الشّعري فالمعارك في شعر الحماسة منطلقها التّاريخ خاضها رجال أقدامهم راسخة في التّاريخ وجسّمت الصّراع الحضاري/ العقائدي الذي ستكون ذروته لاحقا الحروب الصّليبيّة (ولا غرابة من استعادة قصائد المتنبّي الحماسيّة والتمثّل بها في تلك الحروب بين صلاح الدّين الأيّوبي والنّصارى) غير أنّ السّرد يغسل تلك المعارك ممّا علق من حيثيات تاريخيّة ويلج بها في سلاسة مملكة الشّعر الفنيّة. أخيرا تجدر الإشارة إلى أنّ حضور السّردي في الشّعر ممّا يقرّب بين الحماسة العربيّة والملحمة الغربيّة المنبت. ولعلّ هذا التّعالق البيّن الجليّ بين الشعري والسّردي هو الشّفيع لبعض الدّارسين حين يطرحون إشكاليات/ مواضيع تستدعي استقصاء وظائف السّرد في شعر الحماسة(13). لقد فتح هذا التّقاطع بين الشّعري والسّردي آفاقا رحبة أمام القصيدة العربيّة الكلاسيكيّة بوسعها أن تتحرّك فيها منعتقة من أسر السّنن الشّعرية الخانقة. وهو يوجّه المنشغلين بالسّرد إلى البحث عنه ليس في مظانّه المعهودة فحسب (مختلف أجناس القصّ: الحكاية المثليّة، النّادرة، المقامة، القصّة، الأقصوصة، الرّواية...) بل في النّصوص الشّعريّة أيضا. الهوامش: 1- سفر البرامج الرّسميّة، اللّغة العربيّة، المرحلة الثّانيّة مطبعة المركز الوطني البيداغوجي سبتمبر 2008 ص71 2- كتاب النّصوص لتلاميذ السّنة الرّابعة من التّعليم الثّانوي آداب ج1 ص62 3- المرجع نفسه ص43 4- جذاذات الباكالوريا- كنوز للنّشر والتّوزيع سنة 2013 ص8 5- أبو الطيّب المتنبّي، قلق الشّعر ونشيد الدّهر، دار اليمامة للنّشر والتّوزيع تونس 1992 ط3 ص126 6- انظر قصيدة يوم أرشق لأبي تمّام، الكتاب المدرسي ج1 ص33/34 7- انظر مثلا بول ريكور السّرد والزمن، فقد أفاض في تحليل المسألة 8- ميميّة المتنبّي، الكتاب المدرسي ج1 ص53 9- فخريّة المتنبّي، الكتاب المدرسي ج1 ص49 10- مثلا رائيّته، ومطلعها: وليلة ذي دوران جشّمني السّرى// وقد يجشّم الهولَ المحبّ المغرّر 11- انظر ديوان أبي نواس، دار بيروت للطّباعة 1986 مثلا جيميته ص136 أو رائيته ض270 12- العمدة دار الجيل بيروت ط5 1981 ج1 ص81 13- انظر مثلا فيصل الشطّي، سلسلة كنوز باك شعبة آداب ص67