يضجّ كثير من النّاس بأصوات آلات النّجارة ويرون فيها الغلظة والحدّة والقسوة. وقد كنتُ منهم أحسب واهما الأمر كما اعتقدوا قبل أن يمنّ عليّ اللّه بجار كريم الطّبع كريم الأصل عنّ له أن يفتتح على بركة اللّه- وبركات صمت بلديّة قربة- ورشة نجارة. وزاد اللّه في الإنعام فكانت تلك الورشة- والحمد للّه- ملاصقة لمنزلي. فانقلبتْ نظرتي للأصوات المنبعثة من آلات النّجارة رأسا على عقب. لقد صرت أجد في أصواتها عذوبة تضاهي أو تفوق عذوبة السنفونيات العالميّة الشّهيرة. كيف لا، وأنا- العاطل عن العمل بحكم العطلة الصيفيّة المطوّلة- أستيقظ على نغماتها الشجيّة في أصباح رمضان المبارك وأقضي على وقعها العذب ساعات النّهار الثّقيلة وردحا من اللّيل لا يستهان به. لقد أحسن جاري ترويض سمعي (اقتضى منه ذلك سنة إلى حدّ الآن) على أصوات النّجارة المختلفة الطّبقات فصرت أرى- بفضل اللّه وبفضله- في القبح جمالا وفي الحدّة عذوبة وفي الخشونة رقّة بل إنّني أشقى بالسّويعات الّتي تغيب فيها تلك الأصوات وحدّث ولا حرج عن يوم الأحد الّذي يتّخذه جاري أحيانا يوم عطلة كيف أشعر بالانقباض والتوّتر ولولا علمي بالسّبب لقصدتُ من زمن طبيبا نفسيّا. لا أملك في هذا المقام إلاّ التوجّه بالشّكر الموصول للأطراف المساهمة في هذا الوضع: ألف شكر للجار الكريم الّذي حباني بعناية فائقة أخرجتني من الحكم على ظواهر الأمور إلى الحكم على بواطنها. نفس المقدار من الشّكر أتوجّه به إلى بلديّة قربة فقد مكّنت بصمتها وبغضّها النّظر عن بؤر التوتّر حيّنا المصنّف في دفاترها- خطأ فيما أحسب- ضمن الأحياء السكنيّة من خدمات جليلة تذكر فتشكر. فنحن ننعم إلى حدّ الآن وفي حيّنا الّذي فقد هويّته الوجوديّة (سكني أم صناعي) بورشة نجارة وورشة صباغة (صباغة الخشب حتّى يكون التّكامل بين مكوّنات الفضاء...) ولا تنقصنا إلاّ ورشة حدادة وورشة نجارة الألمنيوم ولم لا ورشات إصلاح الميكانيك العامّ والخاصّ، ميكانيك السيارات الخفيفة وميكانيك السيّارات الثقيلة ولا نحسب بلديّتنا الكريمة تبخل علينا بذلك. نفس المقدار من الشّكر لولاية نابل لأنّها هي الأصل وبلديّة قربة هي الفرع ولا يجوز التّنويه بالفرع وإغفال الأصل فمن ترك أصلا إلى فرع فقد مَرَق ونحن نعوذ باللّه من المارقين الأنجاس المناكيد. والشّكر أخيرا مضاعف ومضاعف للحكومة الّتي يحسبها النّاس مؤقّتة فهي الّتي ترعى كلّ هذه النّعم الّتي ذكرتُ بعضا منها وتشرّع لتأصيلها في الواقع بحث تكون الحاكميّة للفوضى الخلاّقة وللخراب الممنهج خراب العقول وخراب الإدارات وخراب الأحياء. هنيئا لنا مرّة أخرى بهذه النّعم وهنيئا لحيّنا المشرف على ضفاف بحيرة قربة العطرة الفوّاحة بالإنجازات العظام وننهي كلامنا بقوله تعالى موجّها إلى الحكومة وممثّليها «قل اعملوا فسيرى اللّه عملكم ورسوله والمؤمنون « (التّوبة 9/ 105) أمّا كاتب المقال ومن شاركه من أهل الحيّ نفس المشاعر فلهم جميعا قول محمود درويش «حاصر حصارك لا مفرّ /... حاصر حصارك بالجنون/ وبالجنون/ وبالجنون/ ذهب الّذين تحبّهم ذهبوا/ فإمّا أن تكون/ أو لا تكون/ سقط القناع عن القناع عن القناع/ سقط القناع» (مديح الظلّ العالي)