«جهاد» النكاح مصطلح تفتقت به قريحة فقهاء الفتنة لغاية تبرير ظاهرة متفشية في المناطق التي تضمّ أنظمتها جبهات إرهابيّة خلال هذه اللّحظة التاريخية المأساوية التي نعيشها. لقد أصبح هذا المصطلح متداولا على كلّ لسان تقريبا. ويمكن باختزال شديد رصد موقفين متعارضين من هذه الظاهرة: (1) موقف التبرير والتشريع الذي تتضمّنه الفتاوى الصادرة من شيوخ البلاطات وينفّذه جمهور «المجاهدين» و»المجاهدات» ويباركه الوسطاء بينهم. (2) موقف المندهشين من الجمع بين المصطلحين والمستنكرين للممارسة والشاجبين لأفعال المسؤولين عن تفشّي هذه الظاهرة. لن أتحدث هنا عن شرعية الفتاوى أو بطلانها وسأكتفي بتعداد أربعة عناصر تساعد في رأيي على فهم الظاهرة وتمهّد لنقدها تأويليّا: 1- جسم المرأة وجسم الوطن: يتنزل «الجهاد السلفي» في إطار هتك حدود الدولة الترابية وإقحامها في دوامة الفوضى والرعب: إرهابيون مرتزقة خارقون للحدود يدوسون الأعراف التي اصطلحت عليها البشرية الحديثة حول سيادة الدولة الترابية وحرمتها. و»النكاح الجهادي» يهتك شخصية المرأة القانونية والأخلاقية ويُحوّلها إلى شيء (جسم) عابر للحدود مثله مثل النقود والسلاح لإشباع شبق الإرهابيين وشدّ أزرهم. وجسم المرأة القائمة بهذه الوظيفة مهتوك الحدود لأنها تتحول إلى مجرّد أنثى يتناهشها قطيع من الذكور بحثا عن لذة النكاح لدعم لذة قتل مواطني الدولة وتدمير سيادتها. وأنثى النكاح لا هويّة لها ولا شخصية. هي أنثى الجميع، إنها مقبرة اللذة العابرة مثلها في ذلك مثل الأرض التي توجد عليها: مقبرة ضحايا الإرهاب العابر للقارات. والصانعون لهذا الواقع لا يؤمنون بحدود الدولة كما لا يؤمنون بهوية المرأة وشخصيتها. فليست المرأة لديهم ذاتا، إنها مجرد موضوع، بل هي ذرّة هائمة في الفضاء. ومقبرة اللذة هذه توعد بالجنة مقابل خدماتها الطقوسية لكنّ مكانتها فيها غير واضحة بالمرّة، فهل تجازى هناك بأن تكون كذلك معبر لذّة جماعات ذكور الجنّة أم مستقرّ لذّة فردية؟ فوضع المرأة في جنتنا غير واضح وضوح وضع الذّكر فيها. منطق واحد يحكم الذين اقتحموا حدود تونس وكوّنوا عشيرة في جبل الشعانبي والذين نقلوا إلى سوريا. إنّه منطق تقويض الحدود تحت رعاية أعتى دولة في العالم تحتلّ دولة (العراق) تبعد عنها آلاف الأميال بتعلّة الدفاع عن أمنها القومي وتزعزع أمن الدول الأخرى برعاية حركة الإرهابيين وعهرهم المقدّس. إنّه منطق تعزيز الأمن القومي لهذه الدولة عبر زرع الفوضى في الأمن القومي للآخرين. منطق هتك حقوق الناس الآخرين باسم الدفاع عن حقوق الإنسان المجرّد. ونفس المنطق نجده لدى دول النخاسين التي لا أمن لها ولا حقوق لرعاياها وتصدّر الفوضى للآخرين باسم شعارات الأمن والحقوق وتشوه الدين باسم الصحوة والتصحيح. 2 - تاريخ الأَمَة وتاريخ الأُمّة: «جهاد» النكاح ظاهرة ارتجاعية، إنها تتقهقر بالمرأة إلى منزلة الأمة التي تباع وتشترى وهو دعامة لتقهقر سياسي من الدولة الترابية الحديثة إلى حكم «الخلافة الراشدة» أو «الخلافة العثمانية». إنّه تطويع إرادة المرأة عبر إخضاع جسمها واختزال دورها في إشباع شهوة القتلة، هي طُعْم لتطبيع العودة إلى مراحل خلنا أننا قطعنا معها قطعا. وهذه الظاهرة ضرب للقانون الوضعي الذي قامت عليه الدولة التعاقدية الحديثة وعودة إلى قانون عرفي وعشائريّ بدائي ومنغلق. نعلم أن مؤسسة العائلة قد نشأت مع قاعدة تحريم الزواج من الأقارب (مثل الأم والأخت) وهي من أقدم مؤسّسات الحضارة البشرية وفي صلبها تكوّن التعاون بين الأفراد ونشأت الشخصية الوظيفية والاستقرار لكن نكاح «الجهاد» تحطيم لهذه المقوّمات وتقهقر إلى ماض سحيق. ونعلم أن تحريم الزواج بين الأقارب قد سمح باختلاط الأعراق وتنوّعها وبثراء المخزون الوراثي البيولوجي والحضاري لكن مجموعات التناكح «الجهادي» بجعلهم السلوك الجنسي مشاعيا بين أفراد مجموعة منغلقة تشرّع زواج المحارم من جديد إذ أصبحوا يبيحون ذلك بين الإخوة فداسوا حدود الأنساب وهيئوا بذلك تربة خصبة للأمراض الجنسية ومكّنوا من ولادة لقطاء جدد لا يختلفون جوهريا عن مواليد الاغتصاب خلال الحروب وذلك دون أدنى مسؤولية أخلاقية في حق هذه الكائنات البريئة أصلا ولكنها تجد نفسها منذ ولادتها في وضع المحتقر والمنبوذ. 3 - العهر ونيران الغريزة: الذكر في عرف هؤلاء «مجاهد» بقتل الآخرين بعد تكفيرهم والأنثى مجاهدة عندما تمكن «إخوانها» من نفسها جنسيا. الذكور يقومون بالقتل بمقابل والإناث «يجاهدن» بمقابل ولا أتحدث عن الجنة كمقابل في فتاويهم المعوقة وإنما أتحدث عن المقابل المادّي فالذكور يلعبون دور المرتزقة في أيدي سماسرة الموت والإناث يلعبن دور المومسات في جبهات القتال. إنّهن يحيين طقوس العهر المقدّس القديمة التي خلنا ان البشرية قد تجاوزتها بتحريم العبودية وتحرير الإنسانية والاتفاق حول الحد الأدنى من الحقوق الفردية في ظل المساواة بين الجنسين. والذكور يعودون بنا إلى بدايات التاريخ كما يرويه الأنثربولوجيون عندما رفضت مجموعات من الذكور الاستقرار على الأرض واختارت العيش بالسطو على المستقرين. ومن شدّة تعطشهم إلى الشهادة وتعلقهم بالانتقال إلى الجنة يجمع هؤلاء بضرب من التناقض الصارخ بين القتل المقدس والعهر المقدّس ويستبيحون المحرمات لأنفسهم لفرضها على غيرهم. وهذه بؤرة المغالطة التي يقعون فيها. الجهاد الأكبر في الواقع تحكّم في شهوات النفس وأهوائها ولكن هؤلاء عبيد نفوسهم الواقعة في لظى الشهوة والعدوان، بين الإيروس والتيناتوس، بين دفع الحياة ونفق الموت. 4 - مغالطات «الجهاد»: «جهاد» هؤلاء تفريط في الفضيلة كما عرّفها حكماؤنا السابقون. إن كانت الفضيلة لديهم وسطا بين رذيلتين فمجانين اليوم يهيمون في الأطراف لا في الأوساط ويهتكون الحدود الترابية للدولة والجسمية للفرد والدينية للأمّة والأخلاقية للإنسانية. إن كانت الشجاعة وسطا بين التهور والجبن فهؤلاء متهورون بالقتل والإرعاب وهم جبناء مع نفوسهم غير قادرين على الورع وعدم إيذاء خلق الله. إن كانت الحكمة هي وسط بين الجهل والعلم ولذا ترى الحكماء يتواضعون ويطلبون العلم من المهد إلى اللحد فهؤلاء جهلة فعلا من إمائهم وإرهابييهم إلى فقهائهم وأهل البلاطات التي تموّلهم ولكنهم يدّعون العلم المطلق بل المقدس وكأنّهم ينطقون وحيا. ظاهرة «جهاد» النّكاح علامة على فشل حضاري وهي أتعس أنواع السلفية وأقصد بها العودة إلى ماض سحيق ولا أقصد به العصور الأولى من الإسلام كما لا أقصد عصور الجاهلية بل أقصد عصورا أقدم. إنها عودة إلى البدائيّة البشرية وإن استعمل أصحابها أحدث أدوات التدمير والاتصال. إنهم دليل إضافي على أن الانسان الصانع (Homofaber)قد انفلت من رقابة الانسان الحكيم (Homosapiens) وبتعبير محلّي هم دليل على انفلات الجهاد من رقابة الاجتهاد الفعلي. وأخيرا عندما تحيّد الثورة عن أهدافها الاجتماعية والاقتصادية والانسانية فإن أصوات المجانين ترتفع فوق صوت الحكمة والعقل. وعندما يهمّش المواطن الثائر حقا والواعي بالرهانات الإنسانية للثورة التونسية ويُعَدّ متمرّدا خطيرا، وعندما يفتح الحاكم الأرعن وعديم الخبرة بممارسة السلطة المجال فسيحا أمام الجهلة والقتلة والمرتزقة باسم الحريات فإن باب المغالطات يفتح على مصراعيه ليصبح تخريب الوطن «جهادا» والإرهاب ثقافة والأمن طاغوتا واستقلالية المرأة فسوقا ونكاح الارهاب «جهاد» نكاح.