كانت السلطة في عهد بن علي تعتبر أن لا سلطة لها ولا إخضاع للمجتمع المدني إلا بإحكام السيطرة على الفن والثقافة وبالتالي تدجين الفنانين والمثقفين، هذا الإخضاع اخذ مناحي عدة حيث أن السلطة كانت تعتمد «العنف اللين» أو العنف المعنوي المتمثل في المنع والصنصرة والتضييق على حرية الفكر والإبداع عن طريق الترهيب وخاصة الترغيب، فكل فكر أو فن معارض للسياق الثقافي الذي تسوق له سياسة الدولة يقع نفيه وإقصائه من المشهد الثقافي والفني ليبقى على الهامش، هذا إلى جانب التضييق المادي الذي قد يصل إلى التجويع وقطع الأرزاق. في نفس الوقت سعت السلطة إلى تكوين حزام من الفنانين والمثقفين حولها عبر شرائهم لتبرير تجاوزاتها وتكريس توجهاتها وتلميع صورتها وهو ما اضطر بعضهم إلى الحياد، والحياد هو نوع من الاضطهاد وبالتالي فهو نمط من أنماط العنف. ومع هذا العنف المسلط بقي المشهد الثقافي حيا ونابضا، بفضل توفر الحدود الدنيا للإبداع وبفضل نضال نخبة من الفنانين والمثقفين حيث أنتجت البلاد نخبة مهمة قدمت تجارب مسرحية وسينمائية وموسيقية وأدبية جيدة جعلت تونس تحوز على موقع هام وتأخذ موقع الريادة في الساحة الثقافية والفنية العربية و خير مثال على ذلك السمعة المتميزة للمسرح التونسي عربيا ودوليا. رغم الزخم الكبير من مظاهر الحرية الذي بدا واضحا بعد الثورة التي ساهم فيها المثقفون والفنانون مثل سائر فئات المجتمع التونسي بصفة مباشرة أو غير مباشرة، تحول المشهد في مرحلة لاحقة إلى إنتاج أساليب جديدة من المنع والقمع والتضييق المسلط على الفكر والثقافة والفن، فلئن كانت السلطة في العهد السابق هي من يحتكر هذا العنف ويمارسه فقد سوغت السلطة الجديدة ممارسة هذا العنف سواء عن حسن أو سوء نية إلى مجموعات أخرى معادية للفكر والفن تحت عناوين جديدة أهمها «الأخلاق الحميدة» والهوية والدفاع عن المقدسات، على اعتبار أن الفن والثقافة التونسية في مجملها غريبة عن هويتنا العربية الإسلامية ومسيئة لمقدساتنا. هذه المجموعات العنيفة التي تنشط تحت عنواين عديدة ليست لها أي علاقة لا بالفن ولا بالثقافة، ثقافتها الوحيدة هي ثقافة المنع والعنف ومعاداة كل نفس فني تحرري حيث يقع تحريكها في هذا الاتجاه لأسباب سياسوية ضيقة ولتصفية الخصوم السياسيين من بوابة الفن والثقافة، والحوادث هنا عديدة لعل أهمها حادثة فيلم «بيرسوبوليس» الذي تم عرضه قبل انتخابات 23 أكتوبر في إحدى القنوات التلفزية وما رافقه من عنف على اعتبار أن هذا الفيلم يسيئ للمقدسات وللإسلام في حين كان الهدف من كل ذلك هو «الاستثمار السياسي» واللعب على وتر الهوية والدين من طرف بعض الأطراف السياسية في حملتها الانتخابية، وكذلك حادثة العبدلية وما رافقها من أحداث والتي كشفت التحقيقات في مرحلة لاحقة أنها مفتعلة وكذلك حدث مع الكاتبة ألفة يوسف التي منعها سلفيون من إلقاء محاضرة في العام الماضي ولاحقوها بالشتائم والأوصاف النابية، أو كما حدث مع المفكر يوسف الصديق المتخصص فى «أنتروبولوجيا القرآن» الذي منع من إلقاء محاضرة أخرى عن التعصب الفكري، ومحاولة الاعتداء والاعتداء على المخرج السينمائي النوري بوزيد، وكذلك الاعتداء على مسرحيين شبان في الاحتفال باليوم العالمى للمسرح ضمن تظاهرة «الشعب يريد مسرحا» أمام المسرح البلدى فى شارع الحبيب بورقيبة بالعاصمة، هذا إلى جانب عمل بعض المجموعات المتشددة إلى عرقلة عديد الأنشطة الثقافية والمهرجانات في بعض المناطق الداخلية على أساس أنها تتعارض مع تعاليم الدين وتكرس «الإفساد في الأرض» واحتلال بعض دور الثقافة أثناء بعض التظاهرات. ولعل ما ساهم في تكريس ظاهرة العنف ضد المثقفين والمفكرين والتي وصلت إلى حد التكفير والدعوة إلى القتل على غرار الدكتور محمد الطالبي ويوسف الصديق من طرف بعض الأطراف المتشددة هو تساهل السلطة الحاكمة في التعامل مع هذه الأحداث خاصة إذا ما تعلق الأمر بمن يعارضون توجهاتها وهي وسيلة من وسائل الترهيب لتقويض المنظومة الفنية والثقافية السائدة من اجل استبدالها بمفاهيم جديدة للفن والثقافة، خاصة أن هؤلاء المتشددين لا يقارعون الحجة بالحجة بل يمارسون الإقصاء ويشرعون للتصفية باسم الدين . الحكام الجدد ورثوا ايضا عن النظام السابق نفس السياسة الثقافية ونفس اساليب التعامل مع المثقفين والفنانين، مع اضافة عنصر المحاكمات والإحالة على القضاء بتهم واهية أو مفبركة، وذلك من خلال المحاكمات المتتالية لفناني الراب خاصة والذين وقع اعتقال بعضهم من على خشبة مسرح الحمامات الدولي اثناء قيامهم بعرض فني، إضافة إلى محاكمة كل من مراد المحرزي ونصر الدين السهيلي اثر حادثة قذف وزير الثقافة ببيضة، مع تلفيق يعض التهم الخطيرة لنصر الدين السهيلي منها محاولة قلب النظام مثلما ورد في تقرير المكلف بنزاعات الدولة أمام المحكمة والذي لم تاخذ المحكمة به لعدم جديته. المشهد الفني والثقافي هو اليوم مهدد أكثر من أي وقت مضى، هو مهدد بالعنف والفوضى وفتاوي من لا يفقهون في الثقافة والفن وكذلك ثقافة وهوية المجتمع التونسي المعتدلة من طرف مجموعات صغيرة متشددة البعض منها ليس ببعيد فكريا وثقافيا عن حزب الأغلبية في الحكم، وبالتالي فان المعركة متواصلة بين الفكر والثقافة و ثقافة العنف التي يمكن أن تجر البلاد إلى سيناريوهات خطيرة من العنف الممنهج الذي سيدمر كل المكتسبات الفنية والثقافية التنويرية.