الستاغ.. جدولة ديون الفلاحين من حرفاء الجهد المنخفض    بعد إعصار مدمر.. صرخات رضيع تنقذه من الموت تحت الأنقاض    «شروق» على الرياضة العالمية : الجوادي يتألق.. يامال يجدّد وتوتنهام بعد طول انتظار    ملف الأسبوع...وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا .. الْحَجُّ الْمَبْرُورُ لَيْسَ لَهُ جَزَاءٌ إِلَّا الْجَنَّةُ    منبر الجمعة: لبيك اللهم لبيك (2) من معاني الحج    خطبة الجمعة...غلاء الأسعار وأضراره الاقتصادية والاجتماعية    نابل: مهنيو قطاع النقل غير المنتظم يحتجّون    الكرة الطائرة : المنتخب يَختتم تربّصه والجامعة تُعيد فتح ملف بن طارة    مونديال السيدات لكرة اليد.. تونس في المجموعة السادسة    في راس الجدير...حجز 31 ألف قرص مخدّر    نابل تحتضن الدورة الثانية من «الملتقى العربي للنص المعاصر» تحت شعار .. «المجاز الأخير... الشعر تمرين على الوجود»    تعود إلى السينما المصرية بعد غياب: سناء يوسف تعوّض هند صبري في «الجزيرة 2»؟    مسرح الجم يحتضن الورشة الإقليمية لتوثيق التراث الرقمي بإشراف اليونسكو    تأخر سن الزواج أبرز الأسباب .. تراجع حاد للنمو الديمغرافي    بعد رفض دائرة الاتهام الإفراج عنه .. سجن أحمد صواب .. يتواصل    "فعلتها من أجل فلسطين".. شهود عيان يكشفون ل"سي إن إن" تفاصيل هجوم المتحف اليهودي في واشنطن    ترامب يُبطل حق جامعة 'هارفرد' في تسجيل الطلبة الأجانب    رولان غاروس - انس جابر تلاقي البولونية ماغدالينا فراش في الدور الاول    عاجل/ البرلمان يُحيل 63 سؤالا إلى أعضاء الحكومة    هزم جندوبة الرياضية جزائيًا أمام هلال مساكن ومعاقبتها بمقابلتين دون جمهور    تأجيل النّظر في قضيّة ضدّ الصحفي محمد بوغلاّب إلى 23 جوان المقبل    هذه البلدية تمنع انتصاب بائعي المواشي خارج السوق وتُحذر من العقوبات    أمطار غزيرة ورياح قويّة.. وزارة الفلاحة تحذّر    عاجل/ إطلاق نار أمام مقر ال"CIA"    الزهروني: الاعتداء على تلميذ خلال عملية "براكاج" ونقله إلى المستشفى    حرقة القدمين قد تكون علامة مبكرة على الإصابة بمرض السكري    حفل إسناد جائزة ابن خلدون للعلوم الإنسانية والاجتماعية يوم 27 ماي 2025 بالقصر السعيد    فايسبوك يلتهم وقت التونسيين: 61 ساعة شهريًا مقابل 5 فقط للقراءة!    بلاغ هام من شركة نقل تونس    فظيع/ معلم يتحرش بتلميذته جنسيا ويهددها..    الكاف: وفاة تلميذ غرقا في سد ملاق    الخارجية: السلطات اليونانية تفرج عن 35 تونسيا    بالصور: أحمر الشفاه يسرق الأضواء في مهرجان كان 2025..من الأحمر الجريء إلى النيود الناعم    تمكين 20 شاب من تكوين في قطاع اللحام البحري في اطار مشروع 'بناء المستقبل'    ارتفاع نسبة امتلاء السدود إلى 40،7%    هام/ وزارة العدل تنتدب..    أسعار الأضاحي في تونس: انخفاض مرتقب بفضل الأمطار    القيروان: انطلاق بيع الأضاحي بالميزان في سوق الجملة بداية من 26 ماي    بعد ظهر اليوم: خلايا رعدية وأمطار غزيرة تجتاح عدة ولايات    انطلاق أولى رحلات حجيج جندوبة من مطار طبرقة نحو المدينة المنورة    كيف تستغل العشر من ذي الحجة؟ 8 عبادات ووصايا نبوية لا تفوّتها    القيروان : اليوم إفتتاح الدورة 19 للملتقى الوطني للإبداع الأدبي والفني.    شرب الماء على ثلاث دفعات: سُنّة نبوية وفوائد صحية مؤكدة    في لقائه مواطنين من المزونة وبنزرت/ سعيد: "الشباب قادر على تعويض من يُعطّل السّير الطبيعي لدواليب الدّولة"..    الدورة الثالثة من 'المهرجان السنوي لكأس المغرب العربي للحلاقة والتجميل' يومي 26 و27 ماي بالحمامات.    كرة اليد : الترجي في مواجهة نارية أمام الزمالك ..تفاصيل المباراة    تونس تدعو إلى ضرورة وضع حدّ نهائي لجرائم قوات الاحتلال..    فئات ممنوعة من تناول ''الدلاع''.. هل أنت منهم؟    نشرة الصحة والعلوم: نصائح للذاكرة، جديد الدراسات الطبية، ونسب التغطية الصحية في تونس    Titre    كأس العالم للأندية: مهاجم ريال مدريد اندريك يغيب عن المسابقة بسبب الاصابة    بلاغ وزارة التجارة حول توفير لحوم ضأن وبقري مسعرة    ظهر اليوم: امطار و تساقط كثيف للبرد بهذه المناطق    أضحية العيد للتونسيين: 13 نصيحة شرعية لضمان سلامتها وأجرها الكامل!    وزير الصحة يلتقي بإطارات صحية ومستثمرين ورجال أعمال تونسيين بسويسرا    أمريكا تقبل طائرة فاخرة من قطر لاستخدامها كطائرة رئاسية لترامب    القاهرة تطمئن: الهزة الأرضية الصباحية لم تؤثر على المنشآت    وزير الصحة يروج للتعاون ولمؤتمر "الصحة الواحدة " الذي سينعقد بتونس يومي 14 و 15 جوان 2025    









عندما ينصب همّ الشاعر على الإبلاغ و التصوير
عن المجموعة الشعريّة الأولى لخالد العقبي: بقلم: محمد الغزالي
نشر في الشعب يوم 15 - 12 - 2007

لم يكلّف الشاعر خالد العقبي نفسه عناء البحث عن الألفاظ بغية شحنها ودفعها في نصّه الشعري جزافا بل جاءت بنفسها تقتفي أثر التي قبلها مكملة لها أو تابعة و هي في هذا كله ثائرة أو نافرة، مهادنة أو متحفّزة و من هنا كان القصيد مفعما بالحيوية متناسقا في غير رتابة, مثقلا بشتى المشاعر الفياضة غير عابئ بالترصيف و التنسيق بل ينصب همّه على الإبلاغ و التصوير، و لا أزال أسمعه يشدو أو يتألّم:
أصرخ في البريّة عند الفجر
أصرخ لمّا تؤوب الشمس إلى الآفاق
أصرخ منذ زمان
أبعد غورا من أيّامي
أصرخ في الآذان المملوءة بالطين
أصرخ فوق مآذن آلامي
من يسمعني؟؟
في هذا الربع الخالي
غير رياح التيه
هو قدر الشاعر,شاعر مرهف الحس يهفو إلى إسماع صوته و التعبير عن وجوده ووجود الآخر , و لا يملك سوى صوته وصراخه طالما لا يسمعه أحد أو لا أحد يريد سماعه أو لأنه في قفر لا أحد فيه إذ الآذان مملوءة بالطين. و انظر إلى هذه الجملة الشعرية الرائعة و إلى الشاعر يصرخ في الآذان ثم ها هو ذا يصعد فوق المآذن المؤلمة لعله يظفر بمن يسمعه.
إنّ هذه الصورة المجازية و هذا التقابل الرائع لمن صنع أو وحي شاعر, لكن النهاية ظلّت عصيّة فيتساءل الشاعر هل بإمكانه حقا إسماع صراخه في الربع الخالي و يظل التساؤل مطروحا.و في قصيد «قلم الشاعر» وهو القصيد الثاني يصف قلمه قائلا:
مرهق
يترنح فوق رصيف المعاني
ثمل يتراءى
و لكنه في الحقيقة
منقهر و يعاني
بهذه العفوية المفرطة يجرؤ الشاعر على تصوير قلمه المقهور, المتعب الذي هجرته المعاني و جفته و تركته منفطرا يتألّم و يعاني, هذا العناء هو عناء شاعر يخاطب نفسه لعله يظفر ببعض إجابة مع أنه يعلم علم اليقين بأن قلمه وهو, كيان واحد إذ لا حياة لأحدهما دون الآخر طالما مصيرهما واحد. و يعود الشاعرخالد العقبي إلى السؤال في قصيده « بعد الذي قد كان»:
و سألتهم لما هوى عمري إلى النسيان
و تلامع الشيب الذي في الرأس كالأكفان
ماذا ترى قد كان؟
فتراجعت خطواتهم
و تقوّست أكتافهم
و احمرّت الأجفان
قالوا جميعا: إننا لمّا أتى أيلول
صرنا جميعا...كلّنا
كالريش في الميزان
يالها من خيبة أمل صفعت نفس الشاعر و جعلته مشفقا خائفا يتوجس الشر و يقتات الملل و اليأس مع أنه كان حالما يتصور أنه سيحظى بالقبول و الاحتفاء هو الذي أفنى عمره حتى»هوى عمره» و «تلامع الشيب» في رأسه.
لجوء الشاعر إلى مخاطبة قومه صنو لما كان الأنبياء يخاطبون به قومهم ليهدوهم سبل الرشاد غير أن الله يشد أزر الأنبياء بالصبر و الجلد و يترك الشاعر يخوض في لجّة الألام و الخيبات لأن هذا قدر الإنسان.و نرى إحساس الشاعر و هو يخاطب الناس/ناسه، و يتساءل و ينتظر فيأتيه الصدى الرهيب أو الصمت المريع جوابا محيّرا و مخيّبا للأمل:
أيّها الشاعر
اخلع حذاءك
أنت بوادي النفاق
بهذه الجمل الشعريّة يقلب الشاعر المفاهيم و يستعير آية من القرآن وعوض أن يخلع نعليه لأنه بالوادي المقدّس يجد نفسه بوادي النفاق و هكذا يمضي مستلهما الكثير من التراث الديني و الشعري كاستعماله:
زيتوتة شرقية
غربيّة قد أصبحت
بعد الذي قد كان
من قصيد «بعد الذي قد كان» وهو في هذا خطى خطوات الشعراء «المبشرين» و»المصلحين»و» الثائرين» الذين يريدون التغيير و يطمحون إلى الأفضل و الذين يشحنون طاقاتهم و عزائمهم لخدمة قومهم و تحريضهم و تنويرهم والزج بهم في آفاق المجد و العلوّ.فإذا أبوا و أشرف على اليأس قال:
هذا زمان تحوّل حنظله
مستساغ المذاق
وهو بهذا يحاول جاهدا قبول ما تأنفه النفس و تعود بها على قبول واقع مرّ لا يريده. و في «ليلة الخسوف» هذا القصيد الرائع يقول:
هكذا انطفأت شمعة
و أتانا الخسوف
رحل الدفء و الضوء
خلف المدى
و استردّ الوجود العظيم
إليه الصّدى
وهي مرثية للشاعر عبد الوهاب البياتي فيها الكثير من رثاء النفس إذ بهذا التماهي يحذّر الشاعر من الرحيل فكأنه يخاطب الناس منذرا برحيل مبكّر أو هروب لا مناص له منه.و يواصل بنبرة منكسرة يائسة:
آه لومتّ مثل الحسين
لكان فؤادك بعد انتزاعه
في كل بيت يطوف
يخفّف وقع الحصار
و يجمع شمل الألوف
هنا يتبدّى لنا امتلاك الشاعر أدواته و مقدرته على ترويض الإيقاع الشعري و المسير به حتّى نهاية القصيد في تداعيات متتالية تشف حسرة و ألما و تصوّر بوعي شديد عمق المأساة . و نأخذ هذا المقطع من قصيد «لا طريق»:
زمن يتغذّانا
و يرمي قشرنا المحروق
في جوف المنايا
فنلمّ بوقع الكارثة و حجمها و صراخ الشاعر منبّها يوقظ الضمائر و ينذر بالويل و الثبور إذا لم تصحّ العقول، و بعدها يلجأ إلى الليل في قصيدة «نادمني الليل» لعلّه يجد ضالّته أو يهرب من الواقع المرير فإذا به يلقى نفس المصير:
أنا في ليلي الدّاجي عدمت النوم و الراحه
سهرت أعدّ أكداري و أحصي دمع أشباحه
غير أنّه هنا في ساعة وجد مضن ووحدة قاتلة بعيدا عن حضور الحبيب و موغلا في سوداوية متجهمة.كما هذا المقطع من قصيد» حالة مزرية»:
وجدت في طريقي المعتّمة
قارورة و قطة و باب
وقفت كي أدقّ عن ضميري
فردّت الذئاب
عواؤها في داخلي
كالنار في الثياب
يضطر الشاعر إلى مخاطبة ضميره,قلعته الأخيرة لينجو من الحالة التي انتابته فلا يجد سوى قبض الريح و عواء الذئاب.هذا العالم الذي يسع الشاعر نراه يكاد يتجزّأ من حوله و ينفرط, تاركا روح الشاعر تحلّق في فضاء بعيد رحب لعلّها تظفر ببعض انعتاق و حريّة و أمل. و آخذ من قصيد « تعالى الله صوّره» هذه اللوحة:
إذا ما هاتفي ارتفعت به الأنغام تخبرني
بأن البدر يطلبني
أعاقتني التعابير
..........
أطير بدون أجنحة إلى أنهار ملهمتي
لها الأوراق بستان و أقلامي النواعير
يالها من تعابير خانته أمام حضور الحبيب و جفته و لكنها طاوعته و أتت إليه طوعا ليصوغها في قصيده و يجعل من ذوبها طلاوة و رقة و بهجة؟ هذه إذن وظيفة الشعر أن يسمو بالأحاسيس و يصوّرها و يجعل منها عالما مفعما بالأمل و الحب و يحدو الإنسان إلى العلو و التحليق في آفاق تتيح له الشعور بالبهجة و الرفعة فيتخطّى بذلك حصاره و يقهر أعداءه. لقد طرق الشاعر خالد العقبي كثيرا من المواضيع برفق أحيانا وبعنف تارة أخرى و لكنه يبقى في كل ذلك رهن الشعر و رهن الإيقاع فلا تكلّف و لا جفاء بل تأتي التعابير شائقة رائقة. ففي قصيده «معرفة سابقة» يخاطب حبيبته بلغة ناصعة ملؤها الروح و الجسد:
أتذكرين حوض السباحة الكبير
في حدائق الروح
على ناصية الأبد
حينما كنا نصفين
منشغلين باكتمالنا
في شتات الجسد
لا تزال الصور و الأحاسيس تتراقص أمام عيني و تشغل بالي ففي شعر العقبي كثير من الشعر الذي نفتقده و في لغته بلسم لجراح لم تلتئم بعد مع أن الألم يلوح في الأفق ملتحفا باللهيب.وهاهو الشاعر يواصل النداء:
بردان في كهفي
و نار مشاعلي بردانة
و رؤاي ثلج أحمر و صقيع
نأمل أن يكتب الشاعر و يجرّب حتى يأخذ بناصية شعره و يجانب بعض الزحافات و بعض النقص في عدة أبيات و يتخلّص من حشو الكلام و من استعمال بعض المألوف من العبارات حتى يصفو قوله و يرق انسيابه و يغدو شعره صافيا عذبا متمرّدا و شجيا ففي هذا الديوان ما يفصح عن قريحة و يبين عن ملكة هي قوام الشعر الحقّ.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.