قسم طب وجراحة العيون بالمستشفى الجامعي بدر الدين العلوي بالقصرين سينطلق قريبًا في تأمين عمليات زرع القرنية (رئيس القسم)    صفاقس: توفر إجمالي 83 ألف أضحية بالجهة خلال الموسم الحالي    أجور لا تتجاوز 20 دينارًا: واقع العملات الفلاحيات في تونس    عشر مؤسسات تونسية متخصصة في تكنولوجيا المعلومات ستشارك في صالون "جيتكس أوروبا" في برلين    الشكندالي: "القطاع الخاص هو السبيل الوحيد لخلق الثروة في تونس"    تونس.. زيادة في عدد السياح وعائدات القطاع بنسبة 8 بالمائة    الليلة: أمطار رعدية بهذه المناطق..    جريمة قتل شاب بأكودة: الإطاحة بالقاتل ومشاركه وحجز كمية من الكوكايين و645 قرصا مخدرا    القيروان: انتشال جثة طفل جازف بالسباحة في بحيرة جبلية    تعاون ثقافي بين تونس قطر: "ماسح الأحذية" في المسابقة الرسمية للمهرجان الدولي للمونودراما بقرطاج    مدنين: مهرجان فرحات يامون للمسرح ينطلق في دورته 31 الجديدة في عرس للفنون    معرض تونس الدولي للكتاب يختتم فعالياته بندوات وتوقيعات وإصدارات جديدة    "نائبة بالبرلمان تحرّض ضد الاعلامي زهير الجيس": نقابة الصحفيين تردّ.. #خبر_عاجل    عاجل/ تسجيل إصابات بالطاعون لدى الحيوانات..    أسعار الغذاء تسجّل ارتفاعا عالميا.. #خبر_عاجل    منوبة: احتراق حافلة نقل حضري بالكامل دون تسجيل أضرار بشرية    النادي الصفاقسي: 7 غيابات في مباراة الترجي    غرفة القصّابين: أسعار الأضاحي لهذه السنة ''خيالية''    عاجل/ في بيان رسمي لبنان تحذر حماس..    عاجل/ سوريا: الغارات الاسرائيلية تطال القصر الرئاسي    سليانة: تلقيح 23 ألف رأس من الأبقار ضد مرض الجلد العقدي    مختصون في الطب الفيزيائي يقترحون خلال مؤتمر علمي وطني إدخال تقنية العلاج بالتبريد إلى تونس    جندوبة: انطلاق فعاليات الملتقى الوطني للمسرح المدرسي    فيلم "ميما" للتونسية الشابة درة صفر ينافس على جوائز المهرجان الدولي لسينما الواقع بطنجة    في مظاهرة أمام منزله.. دروز إسرائيل يتهمون نتنياهو ب"الخيانة"    حزب "البديل من أجل ألمانيا" يرد على تصنيفه ك"يميني متطرف"    فترة ماي جوان جويلية 2025 ستشهد درجات حرارة اعلى من المعدلات الموسمية    الإفريقي: الزمزمي يغيب واليفرني يعود لحراسة المرمى ضد النادي البنزرتي    عاجل : ما تحيّنش مطلبك قبل 15 ماي؟ تنسى الحصول على مقسم فرديّ معدّ للسكن!    عاجل/ قضية التسفير..تطورات جديدة…    استقرار نسبة الفائدة في السوق النقدية عند 7.5 %..    البرلمان : مقترح لتنقيح وإتمام فصلين من قانون آداء الخدمة الوطنية    الرابطة المحترفة الاولى: صافرة مغربية لمباراة الملعب التونسي والاتحاد المنستيري    بطولة افريقيا للمصارعة بالمغرب: النخبة التونسية تحرز ذهبيتين في مسابقة الاواسط والوسطيات    خطر صحي محتمل: لا ترتدوا ملابس ''الفريب'' قبل غسلها!    إلى الأمهات الجدد... إليكِ أبرز أسباب بكاء الرضيع    ارتفاع تكلفة الترفيه للتونسيين بنسبة 30%    صيف 2025: بلدية قربص تفتح باب الترشح لخطة سباح منقذ    في سابقة خطيرة/ ينتحلون صفة أمنيين ويقومون بعملية سرقة..وهذه التفاصيل..    إيراني يقتل 6 من أفراد أسرته وينتحر    عاجل/ هلاك ستيني في حريق بمنزل..    الأشهر الحرم: فضائلها وأحكامها في ضوء القرآن والسنة    الرابطة المحترفة الأولى (الجولة 28): العثرة ممنوعة لثلاثي المقدمة .. والنقاط باهظة في معركة البقاء    الرابطة المحترفة الثانية : تعيينات حكام مقابلات الجولة الثالثة والعشرين    أبرز ما جاء في زيارة رئيس الدولة لولاية الكاف..#خبر_عاجل    الصين تدرس عرضا أميركيا لمحادثات الرسوم وتحذر من "الابتزاز"    سعر ''بلاطو العظم'' بين 6000 و 7000 مليم    سقوط طائرة هليكوبتر في المياه ونجاة ركابها بأعجوبة    صفاقس ؛افتتاح متميز لمهرجان ربيع الاسرة بعد انطلاقة واعدة من معتمدية الصخيرة    "نحن نغرق".. نداء استغاثة من سفينة "أسطول الحرية" المتجهة لغزة بعد تعرضها لهجوم بمسيرة    توتنهام يضع قدما في نهائي الدوري الأوروبي بالفوز 3-1 على بودو/جليمت    بقيادة بوجلبان.. المصري البورسعيدي يتعادل مع الزمالك    خطبة الجمعة .. العمل عبادة في الإسلام    ملف الأسبوع.. تَجَنُّبوا الأسماءِ المَكروهةِ معانِيها .. اتّقوا الله في ذرّياتكم    أولا وأخيرا: أم القضايا    نحو توقيع اتفاقية شراكة بين تونس والصين في مجال الترجمة    محمد علي كمون ل"الشروق" : الجمهور على مع العرض الحدث في أواخر شهر جوان    اليوم يبدأ: تعرف على فضائل شهر ذي القعدة لعام 1446ه    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



القصّة التي فضحت المؤسّسات الثقافية الصهيونيّة
«أنا من اليهود..» : ناجي الحاج علي
نشر في الشعب يوم 19 - 01 - 2008

سبق لنا أن وعدنا قرّاءنا الأوفياء بالاتيان على قصّة «أنا من اليهود» للكاتب الاسرائيلي المعروف «ألموج بهر» الذي ينحدر من أصول عراقية.. هذه القصّة البديعة والمهمّة من حيث ما تقدّمه من ممكنات لفهم الواقع الاسرائيلي المعاصر.. ناهيك عن فوزها بجائزة أحسن قصّة في اسرائيل عام 2005.. الجائزة التي تمنحها صحيفة هارتس كبرى دور النشر في تل أبيب والتي تحظى جوائزها باحترام النخبة المثقفة الصهيونية..
و»ألموج بهر» 37 سنة حظي باعتراف جمعي في اسرائيل وأضحى نجما في سماء الثقافة هناك ومن أبرز كتاب هآرتس.. الصحيفة العصية على الأقلام إلاّ إذا كانت موهوبة بحق.. فالقصّة تناقش اشكالية هوية اليهود الذين هاجروا إلى رسرائيل قادمين من الدول العربية بمنطق معنا أم عليك؟. ما تنطوي عليه القصّة من طاقات تأويل متعدّدة وهو منطق تبسيطي كفيل بأن يحوّل هذا القاصّ العبري إلى شيطان رجيم أو صديق ونصير للثقافة العربية بمجرّد أنّه أشار إلى قمع الدولة الاسرائيلية وهما موقفان يجانبهما الصواب حتما.. فكل ما نتمّاه من خلال هذا الطرح الموجز للقصّة أن تكون بمثابة إضاءة للنّص الذي ينطوي على قدر من الخصوصيات الثقافية التي تميّز المجتمع الاسرائيلي وهو مجتمع هجرة يحتضن جماعات سكّانية من مشارب وثقافات متعدّدة اخضعوا منذ عام 1948 لسياسة «بوتقة الصهر» التي سعت بكل قوّة لدمجهم قسريا في نسيج ثقافي واجتماعي واحد على مدى أكثر من نصف قرن (كل ذلك لكي ننتج كلّنا نغمة واحدة صداها مبحوح وننتعل لغة أخرى غير موجودة أنا من اليهود).. وتأتي هذه القصّة التي حظيت باعتراف رسمي اسرائيلي لتفقع هذه السياسة وتتمرّد عليها وتقدّم بعدا أدبيّا لحركات احتجاج سياسي أسّسها اليهود النازحون من الدول العربية مثل حركة اليهود السود في عام 1980 ومظاهرات ضد التمييز الاجتماعي لصالح اليهود الأوروبيين في وادي حليب.. التي رفعت شعار «اسك.. نازي».. في انهاء صريح للاشكناز.. بالنازية والتعامل العرقي مع اليهود الشرقيين. مواطني الدرجة الثانية في اسرائيل.. وإليكم قرّاءنا قصّة «أنا من اليهود» تابعوها وطالعوها باهتمام بالغ فهي جدّ بديعة ومفيدة.
أن تقص، أو تحكي.. يعني أنّ لديك خبرا يهمّ الآخر كما يهمّك أن تنقله إليه ولأنّ أهمّية هذا الخبر محض افتراض في ذهنك أنت وقد يكون بال الآخر فارغا منه فلابدّ أن ينطوي قصّك الخبر على سمات خاصّة به تعمل كضامنة لإيجاد تلك الأهمية.. وكلّما تداخلت سمات النّص الأدبي واعلام الخبر إلى حدّ الالتباس الماهوي بينهما.. وانعدمت أي امكانية لتمييز أحدهما من الآخر: هنا نكون أمام أدبيّة القصّ.. وقد عرف الانسان القص منذ دخل في علاقة اجتماعية مع الآخرين.. ومن ثمّ كان القص بمفهومه العام متغلغلا في لحمة النسيج الاجتماعي وبفضله انتقلت المعارف والخبرات والأخبار من جيل إلى آخر.. وليس هناك شك في أنّ الأدب يشكّل واحدا من أهم السجلاّت المعرفية التي يمكن الاستناد إليها في استقاء المعلومات عن التكوينات الباطنة في مجتمع من المجتمعات التي يصعب في كثير من الأحيان رصدها عبر سير المصادر المعرفية المباشرة من كتابات سياسية واجتماعية وفلسفية وما شاكلها.. وذلك لأنّ الأديب بوصفه فنّانا وكائنا ذا حساسية شعورية خاصّة مؤهّل بهذه الحساسية لالتقاط خفايا الحركة الباطنة من محيط المجتمع وتسمع نبراتها الهامسة عبر آذان إدارية وعين مجهرية.. الأمر الذي يوفّر للعمل الأدبي ثراء زاخرا من الحقائق والمعلومات التي يمكن للباحثين التقاطها وجمعها.. وتنسيقها، وربطها، بمعارفهم السابقة.. بين الواقع الاجتماعي موضوع العمل الأدبي.. ومحل البحث..
ولكلّ هذه الأسباب وغيرها يمكننا الاعتماد على قصّة «أنا من اليهود» في كشف أحد الجوانب الخطيرة في المجتمع الاسرائيلي برمّته متمثّلا في اشكالية الهوية التي تهدّد بتفجير صراعات وتمرّدات على محاولات تشييد ثقافة معيّنة في هذا المجتمع على حساب ثقافات فرعية أخرى Subcultures تدور أحداث القصّة باختصار شديد حول شخص يهودي شرقي من أبناء الجيلين الثالث والرابع أي أنّه لم يتعلّم اللّغة العربية في القاهرة... ولا دمشق... ولا صنعاء.. ولا بغداد العاصمة العراقية بالذّات الذي تعود جذوره إليها اندمج آباؤه وأجداده في المجتمع الإسرائيلي المتطرّف العنيد والمنحط أخلاقيا الذي تحتل فيه ثقافة اليهود الأوروبيين المرتبة الأولى وهي التي تعرف بالثقافة الاشكنازية أو الغربية تحديدا.. فقد كان لقاء المهاجرين القادمين من بلاد الشرق إلى المجتمع الاسرائيلي لقاء صدمة. فقد تكشف لهم فجأة أنّ ثقافتهم اليهودية الأصيلة بدلا من أن تكون جسرا، شكّلت حاجزا بينهم وبين المجتمع الجديد. فهي تثير الاحتقار والعداء، كما أنّ حاملي هذه الثقافة يوصفون بأنّهم أقل شأنا وغرباء عن المجتمع الجديد. فظهر لديهم ما عرف ب «أزمة هوية».
غير أنّ هذا الشخص ذا الملامح الشرقية، كان يسير في الشارع، عندما بدأ يشعر بشعور غريب، لقد انقلب لسانه تجاه الحلق، وتغيّر نطقه للكلمات، وصار ينطق العبرية، بلهجة عراقية، وهي كارثة عظيمة، خاصّة أنّ ملامحه تثير ارتياب رجال الشرطة، فهو دائما في نظرهم فلسطيني في طريقه لتنفيذ عملية «ارهابيّة»، فما بالك بطريقة نطقه التي تغيّرت فجأة، لتصبح أقرب ما تكون لطريقة نطق جدّه أنور (عليه السلام). ذلك اليهودي العراقي الذي قدم لاسرائيل محمّلا بثقافة عربية إسلامية نهل منها في بغداد، لكنّه اكتشف أنّ الثقافة العربية عملة غير قابلة للصرف في «اسرائيل». وكما يقول العالم الإيطالي الشهير جرامشي: «الثقافة السائدة هي ثقافة الطبقة السائدة». لذلك فضّلت «إسرائيل» تسييد الثقافة الأوروبية، فالدول الناشئة في المنطقة بعد 48 تعتبر نفسها طليعة الحضارة الغربية. ولا تريد أن تكون نقطة عربية تذوب بسهولة في محيط عربي أوسع، ومن ثمّ أصبح من الضروري أن يتخلّص «اليهود الشرقيون» من الثقافة العربية التي حملوها معهم إلى «إسرائيل» لكي يتمنّكوا من الاندماج في المجتمع.
وكان القرار الرسمي اتّباع ما يسمّى بسياسة «بوتقة الصهر» دمج المجتمع كلّه في نسيج واحد. وأبرز تجلّيات هذا النسيج هو اللّغة، وطرق النطق، لا يصح أن تكون هناك طرق نطق بولندية، ومجرية، وأوكرانية، وبلجيكية، وعراقية، ومصرية، ومغربية، وإلاّ أصبح المجتمع على حافة الانهيار.
وإذا كان اليهود القادمون من الدول العربية يمتلكون جهاز نطق قادرا على أداء الحروف الحلقية (ع ح أ ه) بعكس اليهود الغربيين، فإنّ الغرب أحق أن يتبع، ومن لا ينطق العين همزة مخفّفة، ومن لا ينطق حرف الخاء بديلا عن حرف الحاء صعب النّطق، فليتحمهل السخريّة، ونظرات الاحتقار، وربّما التضييق في مصادر الرزق (أمّي فعلت ذلك في صباها، تفاديا لغضب المدرّسين ونظرات التلاميذ الساخرة).
قد يندهش القارئ العربي، والمصري خصوصا من أن تكون طريقة النطق معيارا للكفاءة والكفاية الاجتماعية، لكن الواقع أنّ العلاقة بين اللّغة والهوية في «إسرائيل» كانت ومازالت واحدة من مظاهر القهر، والتمييز الثقافي الذي تجاوب معه اليهود المهاجرون من الدول العربية في البداية، فما أن يفتح اليهودي الشرقي فمه حتّى ينكشف المستور. لكن الجدير بالملاحظة أنّ أبناء الجيل الثالث والرابع رفعوا لواء التمرّد، وجاهروا برغبتهم في الحفاظ على خصوصيتهم الثقافية، وقد فجّرت هذه الرغبة جدلا واسعا في الساحة الثقافية والفكرية الإسرائيلية منذ سنوات حول هوية «اليهود» القادمين من الدول العربية. هل هم يهود شرقيون، أم يهود سفاراديم أم «اليهود العرب» نسبة إلى الدول التي قدموا منها؟!
اليهود العرب
بداية من المهم أن نعرف أنّ علماء الاجتماع يقسّمون المجتمع الاسرائيلي إلى يهود غربيين هم مواطنون من الدرجة الأولى، وإلى يهود شرقيين (سفاراديم) هم مواطنون من الدرجة الثانية ومصطلح اليهود الشرقيين يوضع في مقابل اليهود القادمين من الغرب (أوروبا) أمّا اليهود السفاراديم، فنسبة إلى يهود الأندلس في القرون الوسطى الذين انتشروا بعد ذلك في الدول العربية.
وقد أثار مصطلح «اليهود العرب» ضجّة هائلة في الساحة الثقافية العبرية، خاصّة أنّ تيّارا نخبويا من «اليهود الشرقيين»، وبخاصّة العراقيون، بدأ يكرّس لهذه الفكرة. فكتب عالم الاجتماع «الاسرائيلي» يهودا شنهاف، (وهو أيضا من أصول عراقية) كتابا بعنوان «اليهود العرب»، يرفض فيه جميع التسميات السابقة، ويصل فيه إلى نتيجة مفادها أنّ مصطلح «اليهود الشرقيين» مرفوض جملة وتفصيلا لأنّ اليهود القادمين من مصر أو العراق أو المغرب أو اليمن أو تونس أو ليبيا أو غيرها من الدول هم أصحاب ثقافة عربية محضة. كما أنّ مصطلح «اليهود الشرقيين» غير دقيق لا اجتماعيا ولا جغرافيا، فهم شرقيون بالنسبة لأي بقعة جغرافية، فلسطين لا تقع شرق اليمن، ولا شرق مصر، ولا شرق العراق.
ويصل «يهودا شنهاف» إلى أنّ اليهود القادمين من الدول العربية ورثوا عاداتهم وتقاليدهم من الحضارة العربية والإسلامية، فكتبوا أدبا باللغة العربية، ومنهم من حفظ القرآن، والشعر العربي، ومنهم من حمل أسماء عربية خالصة، وظلّت ثقافتهم عربية حتّى في أبسط تجلّياتها. فاليهود المغاربة يمارسون السحر والشعوذة، ويقبلون على زيارة الأضرحة، ويتناولون الأطعمة المغربية. ويهود العراق ثقافتهم مازالت بابلية، ومنهم أدباء كتبوا بالعربية مثل شمعون بلاس، وسامي ميخائيل، وسمير نقاش الذي توفي مؤخّرا.
وقد أفرز النقاش العام في «إسرائيل» حول هوية اليهود القادمين من الدول العربية، على الصعيد الثقافي حركة القوس الشرقي التي تنادي بجميع الأفكار السابقة، وعلى الصعيد السياسي أفرز أحزابا، وحركات احتجاج سياسي، وعلى الصعيد الفني أفلام روائية ووثائقية تسجّل معاناة هذه الفئة الاجتماعية. لكن على الصعيد الأدبي أفرز هذا النقاش العام قصّة بديعة حظيت باعتراف جمعي عندما فازت بجائزة صحيفة هاآرتس التي تتمتّع باحترام عريض من النخبة الاسرائيلية.
حيلة أدبيّة
يستخدم مؤلّف القصّة ألموج بهر حيلة أدبية مشهورة، سبق أن استخدمها «سارماجوا» في «بحث حول العمي» 1995، ففي هذه القصّة الاسرائيلية يفقد البطل قدرته على النّطق، ولكنّه لا يصاب بالخرس، فهو فقط يفقد لكنته الاسرائيلية، ويشرع في الحديث بلكنة عراقية، كان يتحدّث بها جدّه، وتتسبّب هذه العودة إلى الجذور في زيادة شعوره بالتهميش (هامشيته).
يشك اليهود في كونه عربيا (يعتقله رجال الشرطة مرارا وتكرارا)، ويتنكّر له العرب، أمّا زوجته فتصاب بعدوى طريقة النّطق القديمة، ولأنّ أباها من اليمن، وأمّها من تركيا، تختلط على شفاهها اليمنية بالتركية وتنجح هذه الحيلة الأدبية البسيطة في فضح مؤسّسة القمع الاسرائيلية ممثلة في (الشرطة، وهيئة الإذاعة) التي تراه عربيا، في الوقت الذي يراه العرب (وجهاء فلسطين قبل 48) مجرّد يهودي، غريب في بلادهم. وتحوّل لشخص «ثقافته العربية» هي العدو اللّدود «لقوميته اليهودية».
وتتطوّر القصّة، التي تفتقر إلى عنصر الحبكة، لكنّها تقوم على «الموقف» المتدفّق والمتصاعد. ويصل الموقف إلى ذروته بأن تتحوّل العدوى إلى «وباء» يقتنص اسرائيليين آخرين، يعودون للحديث بلكنات آبائهم وأجدادهم، ولا يتوقّف الأمر على اليهود الشرقيين، بل تصل العدوى إلى اليهود الإشكناز. وتبدأ الثقافات الفرعية (Subcultures) في التمرّد على الثقافة السائدة، وتشق عصا الطاعة على المؤسّسة الاسرائيلية التي تبذل أقصى جهد ممكن باستخدام أدواتها (الشرطة الإذاعة التجسّس على بطل القصّة مصدر العدوى).
لكن يتّضح فجأة أنّ الأمر ليس ثورة اجتماعية، لكنّها الزيارة الأخيرة التي تقوم بها الصحة قبل الوفاة، أنّها «حلاوة الروح» والسبب ليس مثيرا، وهذا ما يجعله أكثر قوّة أدبية. لقد نجحت السلطات في إيقاف الطوفان، وهدم برج بابل قبل بنائه، بالتأكيد على اللغة العبرية السليمة كشرط للحصول على عمل ومصدر رزق، وبذلك حاصرت الثقافة العربية وهو ما حدث في الواقع بالفعل عندما احتلّ الإشكناز المناصب القيادية المهمّة، وتركوا للشرقيين الوظائف الحقيرة.
وعلى الرّغم من ذلك لا يبدو الراوي مستعدّا للعودة إلى لكنته السابقة، التي بذل والداه جهدا مضنيا ليكتسبوها، هم وأبناؤهم. وبناء على نصيحة جدّه الذي يتجلّى له بصوته فقط، يختار الصّمت، ليؤكّد أنّ هذا الصّمت لا يشعر من حوله بالأمن، فيقتادوه إلى المعتقل مرّة أخرى وإذا كان الصمت ليس حلاّ، فربّما تقوم الكتابة بهذا الدور (ها أنا أكتب قصائد احتجاجية ضد العبرية باللّغة العبرية).
فاعلية العنوان
اختار الأديب ألموج بهر أن يصك عنوان قصّته باللّغة العربية، وهو اختيار صادم للقارئ العبري لا محالة، لكنّه اختيار موفّق أدبيا إلى أبعد الحدود كما أنّه معبّر للغاية عن توجّه القصّة. فغني عن البيان أنّ للعنوان دورا مهما في سيميوطيقا الاتصال الأدبي. وهو بهذا المعنى، ليس زائدة لغوية للعمل، ولا هو عنصر من عناصره انتزع من سياقه ليحيل إلى العمل كلّه، وإن كان كذلك في حالات متعدّدة. ونحن في غنى عن تأكيد أنّ كاتب/مرسل العمل يعطي عنوان قصّته نفس ما أعطاه للعمل من عناية، واهتمام. بل ربّما كانت «عنونة» العمل أكثر ممّا نظن إشكالا، فمقاصد «المرسل» منها تختلف جذريا عن مقاصده من عمله، وتتنازعها عوامل أدبية، وأخرى براجماتية، وربّما أضفنا العامل الاقتصادي (التسويقي). وهكذا تتعقّد وظائف العنوان وتتعدّد، ونكون أمام اشكاله الرئيسي وخاصّة إذا ما وضعنا في الاعتبار تمتّعه بأولية التلقّي. فلا شك أنّ فاعلية القارئ (المتلقّي) تنصب أوّل ما تنصب على العنوان الذي يمثل أعلى اقتصاد لغوي ممكن، وهذه الصفة على قدر كبير من الأهمّية، إذ أنّها في المقابل ستفترض أعلى فاعلية تلق ممكنة، باعتباره مرتكز التأويل رقم (1).
إذن لقد أراد «ألموج بهر» أن يودع في العنوان أعلى انتاجية دلالية قادرة على توريط المتلقي في العمل الأدبي، وقد نجح في ذلك إلى أبعد مدى، خاصّة أنّ العنوان مصوغ بلغة عربية يفهمها القارئ العبري نتيجة التقارب الشديد بين اللغتين سواء في ضمير المتكلّم (أنا) العربي، و (إنّي) العبري، وتطابق حرف الجر (من)، والتناظر الملحوظ بين مفردة (هايهوديم) العبرية، و(اليهود) العربية. أضف إلى ذلك أنّ الكاتب/المرسل «يهودي شرقي» أو «يهودي عربي» مشكوك دائما في ولائه، وظلّ في خانة الطابور الخامس فترة طويلة بسبب ملامحه الشرقية، وثقافته العربية. وأهم من ذلك المفارقة الأدبية في العنوان، والصدمة التي سيخلّفها في ذهن القارئ الإسرائيلي الذي يسمع دائما في بعض المظاهرات الفلسطينية الشعار الأشهر (اذبح اليهود). والذي ينقل للعبرية كما هو دون ترجمة حتّى دخل في صميم مفردات اللّغة.
حاول الأديب على صعيد البناء اللّغوي أن يطابق بين واقع حال بطل القصّة وراويها الذي انقلب لسانه، فصار معقودا، وبين مستوى الكتابة وطبيعة اللّغة المسكوبة على الأوراق، وقارئ القصّة بالعبرية يدرك ذلك بسهولة، اللغة متلعثمة.. متناثرة، والكاتب يلجأ أحيانا إلى جمل تقترب من تركيب الجملة العربية ليقترب الشكل من المضمون في هذا العمل الأدبي المتكامل (بحلول شهر تموز...).
تبدو ملامح السخرية قوية في القصّة من الثقافة السائدة، أو الثقافة الإشكنازية، وأحفاد اليهود الغربيين المتنفذين في «إسرائيل»، ويتغطرسون بثقافتهم، ومع ذلك يقعون أسرى الثقافة الأمريكية الأرقى من وجهة نظرهم، والنموذج الذي يجب احتذاؤه (إيقاع التغيير عندهم سيسير ببطء، لأنّ أولادهم المتغطرسين يظنون أنّ لكنات آبائهم وأجدادهم كانت في الأصل أمريكية!!). وكذلك السخرية من رجال الشرطة القساة الغلاظ على يهودي شرقي مثلهم، رغم أنّ هذه المهنة «الحقيرة» في «إسرائيل» والتي لا يقبل عليها الإشكناز بسبب مخاطر العمليات الفدائية، يحتلّها اليهود الشرقيون. والمفارقة أنّ الشرطي الشرقي يقمع المواطن الشرقي.
تخلو القصّة من الحبكة، ولكنّها تقوم على الموقف الدرامي المتصاعد الفائض بالتفاصيل التي تخدم الفكرة الرئيسية، ومع ذلك لا تفتقر القصّة لجمال اللغة، وشعرية الأسلوب وهو ما يكسبها صفة الأدبية، ويخرج بها عن إطار المقال الاحتجاجي، خاصّة أنّ سائر عناصر القصّة القصيرة كالزمان والمكان والشخصيات متوفّرة بها بشكل جلّي.
تحتفل «إسراذيل» هذا الشهر بالذكرى 58 لتأسيسها، وتأتي هذه القصّة لتشكّل صرخة احتجاج عاصفة ضد سياسة «بوتقة الصهر». ومن المفيد أن نعلم أنّ «يهودا شنهاف» يرصد في الفصل الأخير من كتابه «اليهود العرب» ما يسميه: «وقائع عملية «تطهير اليهودي العربي من عروبته»! موضّحا أنّ اللقاء بين الصهيونية وبين اليهود العرب تميّز منذ بدايته (أو منذ نقطة الصفر، إذا ما افترضنا اصطلاحاته) بتداخل المنطقين القومي والكولونيالي فيه. ومن أجل شمل اليهود العرب في «المشروع القومي» (على المقاس الصهيوني الحصري) كان على هؤلاء المرور في سيرورة إلغاء لعروبتهم أو حسب تسمية المؤلّف كان عليهم التعرّض لعملية «تطهير اليهودي العربي من عروبته». صحيح أنّ هذا الإلغاء أو التطهير جرى تبريره من طرف الصهاينة أنفسهم، بأحاديث عن العصرنة والتقدّم (بالنسبة لهؤلاء اليهود)، لكن الذي هدّد القومية الصهيونية لم يكن «تخلّف» أو «تقاليد» اليهود العرب وإنّما عروبتهم المشدّد عليها من قبلهم هم أنفسهم كما يقول «شنهاف». فقد هدّد الماضي العربي ليهود الشرق بمسّ وحدة الصف الإسرائيلية المتجانسة ظاهريا وأن يموّه الخط الفاصل الضروري (سياسيا) بين اليهود والعرب. وفي هذا الشأن ردّد بن جوريون المقولة التالية: «نحن لا نريد بأن يكون الاسرائيليون عربا. يجب علينا أن نكافح روح الشرق التي تخرّب أفرادا ومجتمعات».
تؤكّد القصة على أنّ أسلوب التعامل الفوقي والعنيف الذي يسلب الهوية، هو السبب الرئيسي لتوالد الأحزمة الناسفة، التي تنشأ في العقول والقلوب أوّلا، وقد لا يكون هذا ما يدفع للمبالغة بالقول أنّ الأديب يدافع عن العمليات الاستشهادية، ولكنّه درس ينبغي تأمّله والوقوف أمامه، والدرس هنا موجّه للقارئ العبري المستهدف بالعمل الأدبي، ويجرّه للتّفكير في الممارسات العنيفة التي يقوم بها جنود الاحتلال ضد الفلسطينيين في الضفة والقطاع وداخل الخط الأخضر.
تعد القصّة صرخة متأخّرة ضد القهر الثقافي والاجتماعي الذي يمارسه الإشكناز ضد السفارديم، بذريعة أنّهم قادمون من بلاد عربية «متخلفة» وبالتالي لا يحق لهم تولّي المناصب القيادية وإن أرادوا الحصول على تذكرة الدخول في الهوية «الاسرائيلية» عليهم احتذاء الثقافة الإشكنازية، وأبرز تجلّياتها طريقة نطق اللغة العبرية، «اليهود العرب» ينطقون الحاء، والعين، والصاد، والإشكناز لا يستطيعون إلى ذلك سبيلا، والحل على الترتيب نطق الخاء، والهمزة المخففة، والسين، وتخفيف القاف إلى كاف. ومن ثمّ من لا يفعل ذلك يصبح سفارادي متخلّف. وعلى ذلك فهذه القصّة صرخة ضد سياسة بوتقة الصهر التي انتهجتها «إسرائيل» منذ تأسيسها، لإفراز نسيج اجتماعي واحد منسجم وبعد 58 سنة تثبت هذه السياسة فشلها ويستفيق المارد الشرقي، والروسي، والاثيوبي، وهناك نبوءات حول يقظة بطيئة داخل الثقافات الإشكنازية الفرعية.
يدس الأديب في قصّته مفردات ذات دلالة قويّة، فعند تحديد زمن القصّة يستخدم شهر تموز هو الشهر الرابع في السنة العبرية، وقد جلب يهود العراق هذا الاسم معهم من بابل في القرن الخامس ق.م، ويرجع هذا الإسم إلى الإله البابلي القديم «تموز».. رب الخصب والنّماء الذي يموت وقت الحصاد كل عام ويبعث مع الربيع. وذكر الإله تموز في العهد القديم بسفر حزقيال.. (جلست النساء يبكيين تموز). حزقيال 14:8.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.