أي أنت أبا مهل الرائع الحبيب. يا شيخ مدينة الباأوباب الفاضلة. اعلم أني انكفأت اليوم على نفسي محزونا مكروبا في حديقة البلفيدير لما ركب القوم كلب الكراسي ولما وجدتهم قصار نظر أكثر منهم رجال بعيدو همم يتطلعون إلى ما وراء الأفق مثل حنبعل وعقبة وطارق وأسد. ولقد التقيت هذا الصباح زائلة غريبة أي غرابة لا هي بالفيل أو بالكركدن ولا هي بفرس الماء أو بوحيد القرن. أمرها عجب. إذ هي تحمل كدسا من التراب فوقها يدعى ذروة وعنقا لا يشبه عنق الزرافة لأنه معوج مُلْتَوٍ كأنه أفعوان. ولقد كتب على بيتها: «هذا بيت جمول. وهو يكنى بسفينة الصحراء». واقتربت منه. فألقيت عليه السلام. فرد بأفضل من سلامي. ثم ألقيت عليه سؤالي الأول: لماذا عنقك طويل معوج معقوف؟ أيكون ذلك بعلة؟ فرد علي جمول قائلا: ذاك عنقي ولدت به. وأنا لم أكن أدري عنه شيئا لأني لم أره قبل زيارة جميل. فقلت: ومن جميل؟ فقال جمول: ابني. فقلت: وأين هو؟ فقال: يعيش في مدينة ستوكهولم. فقلت: حدثني عنه. فقال: إي نعم. لقد جاء مرة رجل حديقتنا هذه. وطاف بها. فأعجب بفصيلتنا أي إعجاب. فاقترح على مديرها أن يأخذ جميلا لقاء دبين أسمرين وآخرين أبيضين وفقمتين ثنتين. فوافقه. ولما جاء لأخذ جميل اعترضت بشدة. غير أنه أقنعني ومناني بمصير أفضل من مصيره هنا. فقبلت. وبكى جميل بدموع التحنان. فأعطاه الرجل أطعمة فاخرة وألبسة ناعمة. فسكت. ووعدني الرجل بأن يزوّرني إياه مرة في السنة. فسكت راضيا. ووعظت جميلا قائلا: يا ولدي ألا ترى حالنا هنا كيف قيدنا وكيف حبسنا وكيف هزئنا. اذهب يا ولدي. فلعل مصيرك أفضل من مصيري. فقلت: وهل زرته في ستوكهولم كما وعد الرجل بذلك؟ فقال: أجل. فقلت: وكيف وجدته؟ فقال: في خير ونعيم. وهو يسكن بيتا من بلور قد عمه الدفء وغطته الثلوج. وفيه الضوء والكلأ والماء الجاري. وحين دخلت عليه صاح في: أبتاه. إني أحبك كما لا أحب أحدا. ولقد كان معجبا بي أي إعجاب. وكما قال العُرب قدما: كل فتى بأبيه معجب. غير أنه كان من حين إلى آخر يغرغر بالضحك وقد أخفاه عني بيده. فنهرته قائلا: الضحك دون سبب من قلة الأدب يا ولدي. فقال: بل ثمة سبب. ولكني خجل من قوله لك. فقلت: قل يا ولدي. ولا تخجل. فقال: تالله لأنت شجاع همام وفدن عظيم وذروتك كالجبل المنيف غير أن عنقك أعوج يا أبي.. فضحكت منه حتى وقعت على قفاي. فظن الولد بي العته. فقال: ما بك تضحك ضحكك هذا؟ أأصبت بمكروه؟ فتماسكت وقلت له: آه يا ولدي لو رأيت عنقك؟ فقال: وما به؟ فقلت مخفيا ضحكي: به ما بعنق أبيك. وطلبت من الرجل الستوكهولمي أن يأتينا بمرآة. فجاءنا بها على الفور. فظللنا نشاهد عنقينا فيها حتى انخرطنا في ضحك موصول. فاعتقد الرجل بنا العته. فجاءنا بطبيب نفسي. ولما علم الطبيب بأمرنا انخرط في الضحك معنا. ولما شاهد الرجل الطبيب على هذا الحال جاء بطبيب ثان فحدث له معنا ما حدث مع الأول. فجاءنا برابع وخامس وسادس ثم بأطباء ستوكهولم جميعا ثم بسكانها جميعا. وانخرط الجميع بإشراف الأطباء النفسيين في الضحك تطهرا من نرجسية الذات التي لا ترى إلاّ نفسها. وبينما نحن في هذا الحديث إذ حل بنا جمال ابنه الثاني فقال: لقد ركب بلد العجائب ضحك جماعي. فقال جمّول: لعلهم يتطهرون مثل سكان ستوكهولم. فقلت: ليس الأمر بغريب. فهم بدورهم لهم جميلهم وجمّولهم وجمالهم. وسلمت. ثم انطلقت لأستجلي حقيقة الخبر. وإني مبلغك به ما بلغته.