لم يعد كافيا توصيف الاوضاع في الساحة الفلسطينية بمصطلح الازمة، فقط، فهذا التعبير بات يدخل في باب المجاملات السياسية، والمصطلحات المواربة، والاغراض الحاجبة، وهو يقصر عن مقاربة واقع الحال في هذه الساحة. والحقيقة المرّة التي ينبغي التصريح بها هي ان حال الساحة الفلسطينية، على صعيد القضية والشعب والحركة الوطنية تكاد تقارب حد الانهيار، الذي يطال بني هذه الساحة، اي المنظمة والسلطة والفصائل، بدليل تراجع مكانتها التأطيرية والقيادية في المجتمع الفلسطيني، وبواقع التضاؤل الكبير في دورها، وقدرتها على المضي بمشروعها الوطني، ان بالنسبة لبناء الكيان الفلسطيني، او بالنسبة لمشروعها كحركة تحرر، في مواجهة مختلف تجليات المشروع الاسرائيلي. ومشكلة القوى الفاعلة والمقررة في هذه الساحة انها مازالت غير مدركة تماما للتراجع الخطير الذي وصلت اليه، ببناها ومكانتها وقدراتها، او انها تتجاهل عن عمد، في وقت يبدو فيه الوصول الى مثل هذا الادراك بمثابة الخطوة اللازمة للحد من هذا المسار، وتاليا تجاوزه وأنكى من ذلك، ان هذه القوى تبدو مصرة على الاستمرار بذات العقليات والعلاقات وطرق العمل، التي اسهمت في وصولها الى ما وصلت اليه. وهكذا فان مجرد الحديث، مثلا، عن استعادة الوحدة الوطنية، او توحيد شطري الكيان الفلسطيني، وتفعيل اطر منظمة التحرير، ومغادرة عملية التسوية، لم تعد، على اهمتيها، تكفي لاعادة استنهاض حال الفلسطينيين. فالوحدة الوطنية تعني على الاغلب (في المفاهيم السائدة)، مجرد الحفاظ على النظام السياسي القديم، اي نظام المحاصصة («الكوتا») الفصائلي، بغض النظر عن مكانة الفصائل في المجتمع، ودورها في العملية الوطنية وفي مواجهة اسرائيل. وبالنسبة لاستعادة وحدة الكيان الفلسطيني فهي تعني اعادة اللحمة بين قطاع غزة والضفة الغربية، دون النظر الى الاسباب التي ادت الى حصول انقلاب غزة، ومسؤولية كل من حماس وفتح عن ذلك؛ بما في ذلك مسؤوليتهما عن استخدام القوة في حل المشكلات الداخلية، واحتكار القرارات ومصادرة دور المؤسسات وتغييب دور الشعب. وبشأن تفعيل أطر منظمة التحرير، فبغض النظر عن مدى ملاءمة الاوضاع الفلسطينية والمعطيات العربية والدولية لذلك، بعد كل التغيرات الحاصلة، فان القصد منها مجرد اعادة تعويم اطر المنظمة، التي لم تستطع، حتى في مرحلة «النهوض» السابقة، القيام بدورها السياسي، بشكل بنّاء وفعّال، بحكم طريقة بناها، وتخلف علاقاتها، والهيمنة الفصائلية عليها. اما بالنسبة لمغادرة عملية التسوية، فلا تبدو الاوضاع مهيئة لمثل هذه النقلة، وليس ثمة بديل سياسي يجري الاشتغال عليه، وقد شهدنا ان حماس حينما باتت في قيادة السلطة، تمسكت بالحكومة (المنبثقة عن اتفاقات اوسلو)، ونحت نحو التهدئة (اي وقف المقاومة)، وباتت تتجه نحو القبول بهدنة طويلة المدى، وقيام دولة فلسطينية في الضفة والقطاع. ايضا، وفي تفاصيل البحث عن كيفية اخراج الوضع الفلسطيني من الازمة الناشية فيه، ثمة من يرى ضرورة عقد مجلس وطني، او انتخاب مجلس وطني جديد. وثمة من يعول على انعقاد مؤتمر «فتح» لاخراج هذه الحركة، التي تشكل احد الاعمدة المركزية للحركة الفلسطينية، من ازمتها. وثمة من يراهن على توافق «فتح» و «حماس» وتشكيل حكومة «وحدة وطنية»، الى غير ذلك من العمليات، التي يمكنها ان تسهم بانعاش الوضع الفلسطيني، واستعادة بعض الاستقرار له، ولكنها لا تكفي وحدها بوضع حد لحال الانهيار والتدهور فيه. القصد من ذلك نبين بأن الساحة الفلسطينية تواجه مشكلات عضوية وتكوينية، فهي حركة تعتمد على الخارج، وعلى المعطيات العربية والدولية، اكثر مما تعتمد على شعبها؛ بل ان شعبها يعتمد عليها، في الغالب، لتأمين موارده المالية، وحاجاته الحيوية. اما علاقات هذه الحركة مع مجتمعها فهي، منذ زمن بعيد، لم تعد، بمعظم احوالها، تتأسس على الاقناع، والدور الوطني، بقدر ما باتت تعتمد على علاقات الهيمنة السلطوية، والعلاقات الزبائنية، والانتماءات النفعية، بدليل ان الانتخابات التشريعية (عام 2006)، بينت ضمور الفصائل، وتمحور الاستقطاب الشعبي لصالح فتح وحماس، الاولى بحكم دورها الوطني التاريخي ونفوذها السلطوي، والثانية بحكم خطابها الديني وشبكة الجمعيات والخدمات التي تقدمها في المجتمع الفلسطيني. اضافة الى ذلك فان الساحة الفلسطينية باتت تفتقد للاطارات الجمعية، فقد تلاشى تماما دور المنظمات الشعبية، فلم نعد نسمع عن اتحادات الطلاب والعمال والكتاب والمرأة، وهي اتحادات لعبت دورا كبيرا في الستينيات والسبعينيات في نهوض الوضع الفلسطيني وتشكيل هوية الفلسطينيين، وشكلت اطارا وسطا بين المجتمع المدني والوسط السياسي. ايضا لم يعد ثمة اطارات ومنظمات تشريعية، فقد غاب تماما دور المجلس الوطني (ومعه المجلس المركزي)، بعد ان تآكل دور المنظمة لصالح السلطة، من دون ان تنجح هذه في اثبات ذاتها كمؤسسة جامعة للفلسطينيين، حتى داخل الارض المحتلة، على الاقل. فالمجلس التشريعي لا يجتمع، لاسباب ذاتية وموضوعية، ومؤسسات السلطة تعمل كمؤسسات فصائل. وعلى الصعيد الوطني العام لم يعد ثمة وجود لمؤسسات جامعة من مثل، مركز الابحاث ومركز التخطيط. وعلى صعيد الفصائل فالواقع، عموما، ليس افضل حالا، بحكم غياب العلاقات الديمقراطية والمؤسسية، وضعف الحراك الداخلي، وجمود التفكير السياسي، وضمور العلاقة مع المجتمع. وهذه «فتح»، كبرى المنظمات الفلسطينية، تحاول منذ عدة سنوات عقد مؤتمر لها، دون ان تنجح (حتى الآن)! وحتى بين الفصائل فليس ثمة محاولات جادة لاعادة صياغة للواقع الفصائلي، على اسس جديدة، تتيح توحيد بعض الفصائل المتماثلة، وتعريف الفصائل الفاعلة. ويديهي انه ثمة عوامل موضوعية خارجية، ايضا، لهذه الازمة، ضمنها، الخلل الفادح في موازين القوى لصالح اسرائيل، والمداخلات (أو التوظيفات)، العربية والدولية للقضية الفلسطينية، والطابع الاحلالي الاجلاني العنصري للمشروع الاسرائيلي، وحال التشتت الفلسطيني، وخضوعه لأنظمة سياسية واقتصادية متباينة. من كل ذلك يمكن القول إن الحركة الوطنية الفلسطينية تنازع في الطور الاخير للمرحلة الثانية من تاريخها، التي بدأت من الانتفاضة الاولى (1987 1993)، وادت الى انتقال مركز العمل الفلسطيني الى الداخل، وعقد اتفاق اوسلو (1993)، واقامة السلطة الوطنية الفلسطينية. بمعنى ان هذه الحركة تراوح حاليا في مرحلة انتقالية، بين مرحلة ثانية، بدأت مع فوز حركة حماس في الانتخابات التشريعية (2006)، وهيمنتها الاحادية على قطاع غزة (2007)، وبين امكان تبلور مرحلة ثالثة، جديدة. لكن لا احد يعلم هل تشكل هذه المرحلة امتدادا للمرحلة السابقة، ام قطعا معها؟ كما لا يستطيع احد التكهن (على ضوء المعطيات السلبية الراهنة)، ما اذا كانت الساحة الفلسطينية، ستشهد مرحلة ثالثة، ام انها ستشهد مرحلة غيبوبة او موات، للحركة الوطنية، على غرار ما جرى بعد النكبة (1948 1965)؟ على اية حاف فان هذا او ذاك مرهون بمستوى وطبيعة ما تدركه وما تفعله القوى الفلسطينية الفاعلة؛ ولو ان كل المعطيات لا تبشر بمسارات ايجابية.