أعتقد ان العالم يشهد تحولات تكاد تقتلع الجذور التي شدّته راسخا تحت وطأة وحدانية الاستقطاب.. وأكثرها عمقا أحداث جورجيا التي اندلعت في مفتتح شهر أوت سنة 2008... كان الاتحاد السوفياتي السابق يضم 15 جمهورية وكانت جورجيا واحدة منها.. وتضم داخلها جمهوريتين تتمعان بالاستقلال الذاتي، وهما : ابخازيا، وأوسيتيا الجنوبية.. ومما يذكر بالمناسبة ان 90 من سكان هاتين الجمهوريتين يحملون الجنسية الروسية.. وكانت «أوسيتيا الجنوبية»، اساسا، ذات صلة ب «اوسيتيا الشمالية» التابعة للكونفيدرالية الروسية. وفي غرة أوت 2008 اطلق بعض القناصة الجورجيين النار على العاصمة «الأوسيتية الجنوبية»، تسينخوالي» وقتلوا ستة بين مدنيين وعناصر من الميليشيا المحلية، مما انجرت عنه هجرة المدنيين بأعداد كبيرة.. كانت جورجيا التي ترغب بحرص شديد في الانضمام الى «حلف الناتو» وهي التي تقع بالقرب من الكونفيدرالية الروسية، تعمل جاهدة على اظهار اخلاصها لتوجهات السياسة الامريكيةوالغربية عموما... وكانت لها معارك سنة 1991، حين انحل الاتحاد السوفياتي السابق وضمت جورجيا جمهوريتي ابخازيا وأوسيتيا الجنوبية، وهدأت سنة 1992 حين شعرت جورجيا بأن المسألة قد تثير غضب روسيا... ولكن في شهر أوت وبالتحديد يوم 7 اوت 2008 أعاد الجيش الجورجي الكرّة وتم قصف العاصمة الأوسيتية الجنوبية «تسينخوالي» وزحفت عليها الدبابات الجورجية واحتلتها من جديد... واثناء ذلك، قُتل عدد من الجنود الروس الموجودين ضمن قوة (السلام) الموجودة بالمنطقة... وردّت القوات الروسية بعنف، وزحفت برا، معززة بالطيران حتى أطردت الجيش الجورجي في جمهوريتي (أوسيتيا وأبخازيا)، ولم يقف الامر عند هذا الحدّ، بل دخلت، هذه القوات، الاراضي الجورجية بعمق يتراوح بين 12 كم و 18 كم.. (2) اثر انهيار الاتحاد السوفياتي سنة 1991، انحصرت الدولة، وصارت الكنفيدرالية الروسية التي أصيبت بانهيار اقتصادي كبير، وصار المواطن الروسي مهددا في قوته اليومي.. حتى ان بعض المتابعين للشأن الروسي صاروا ينعتون «الدب المريض» بالقول: روسيا دولة فقيرة من العالم الثالث تمتلك قوة نووية رهيبة.. هذا الوضع شجع «المحافظين الجدد» في الولاياتالمتحدةالامريكية على تحقيق مكاسب استراتيجية على حساب «العدو الروسي المنهار» وبات الحديث المتداول بين النخبة الامريكية ان هذا القرن الحادي والعشرين هو «القرن الامريكي»... باعتبار «وحدانية الاستقطاب» ومما حرصت الولاياتالمتحدةالامريكية على تحقيقه هو: الانتشار العسكري في كل القارات لمراقبة الكرة الارضية، اذ نشرت قواعد عسكرية في اكثر من 40 دولة منها الربع من الدول الاسلامية و 8 من الدول العربية.. لكن اللافت للنظر ان الولاياتالمتحدةالامريكية قد أقامت قواعد في دول كانت، في الماضي، من المناطق الحيوية للاتحاد السوفياتي، وهي اليوم جد قريبة من روسيا.. مثل: أوزباكستان التي تحتضن قاعدة امريكية تضم 12900 جندي، وكيرغيزستان التي تحوي قاعدة بها 808 جنود.. وهناك افغانستان التي احتلتها الولاياتالمتحدةالامريكية، وهي على تخوم الكنفدرالية الروسية، وحرصت ان يكون الاحتلال جماعيا من طرف حلف «الناتو»... وساهمت ب : 7890 جنديا أمريكا... وهكذا كانت الولاياتالمتحدةالامريكية قد نشرت ما يزيد عن مليون ونصف المليون جندي في انحاء العالم حسب تقرير 2005 الصادر عن صحيفة « Le Nouvel Observateur» . الحصار المتعمد للمناطق التي تعتبرها الولاياتالمتحدةالامريكية «محور الشرّ» مثل: كوريا الشمالية وايران وسورية.. وهناك دول مثل : فينيزويلا، وكوبا التي اظهرت «عداء» واضحا في المواقف والتصريحات، وهناك دول تطمع الولاياتالمتحدةالامريكية في الهيمنة عليها مثل السودان والدول الاسلامية عامة، لأن «عدوّ» الغرب حسب «منطق؟» الغرب هو: العرب والمسلمون... لذلك كادت تحاصر روسيا وباكستان وايران وتقترب من الصين ووضع اليد على مناطق في القارة الافريقية.. وهذا طبعا لا يروق لروسيا... وضع «منابع النفط» تحت الهيمنة الامريكية، فحصل لها ذلك بالانتصاب في دول الخليج العربي واكتمل الامر باحتلال العراق سنة 2003، وحتى تطمئن كما يجب الاطمئنان، كان المخطط عقب سقوط بغداد في 9 افريل 2003 هو الزحف على سورية ثم ايران وبذلك تتوطد هيمنتها على منابع النفط والمنطقة التي، ربما تهدد الكيان الصهيوني.. لكن المقاومة العراقية أسقطت هذه الحسابات وكادت تعيد العراق نفسه من الاحتلال الامريكي / البريطاني. الدرع الصاروخي الذي حرصت الولاياتالمتحدةالامريكية على نشره في عدد من الدول الاوروبية، وباتت تفكر في نشره بدول كانت في الماضي من «توابع» الاتحاد السوفياتي واعضاء في حلف «فرصوفيا»، وهذا ما اثار حفيظة روسيا ايضا، وهو الاهم. (3) هذا الواقع المرير الذي قبله القادة في روسيا لكن الشعب رفضه لأن «مجد الاتحاد السوفياتي» قد ضاع.. إذ روسيا صارت (تابعة) تتبنى المواقف الغربية راضية أو مكرهة. أضاع الاتحاد السوفياتي العراق الذي تربطه بالعملاق السوفياتي معاهد «تعاون» عسكري وسياسي ودفاع مشترك... وتخلى السوفيات عن الصديق العراقي، فأضرّ ذلك شديد الضرر بسمعة هذا العملاق. ولما برز النفط من جديد كعنصر ضاغط في التعامل الدولي وارتفعت اسعاره الى ما يقارب 150 دولارا للبرميل، ظهرت روسيا كقوة اقتصادية، فسددت ديونها قبل آجالها.. وباتت تعيد موقعها بين الدول... كما ان احتلال افغانستان وتهديد السودان وايران الذي تريد منه الولاياتالمتحدةالامريكية تشديد قبضتها على انحاء، تراها حيوية بالنسبة لمصالحها.. وفي الاثناء عصفت رياح اقتصادية عاتية على الولاياتالمتحدةالامريكية، أطاحت بنظرية «اقتصاد السوق»، الواجهة الاقتصادية لليبرالية الديمقراطية التي أسال الكُتاب الاستراتيجيون الامريكان حبرا كثيفا في شأنها، بدءا من «فوكوياما» الذي اعتبر في كتابه: «نهاية التاريخ» ان هذه الليبرالية هي اخر ما يمكن ان يصل اليه الانسان... لكن عديد المنظرين تحدثوا عن هذه الليبرالية بأنها رد متطرف على اقتصاد الدولة الذي كانت تجسمه نظريا الاشتراكية... وسوف يكون المستقبل للاقتصاد المستقل الذي يبنيه الرأسمال الوطني بعيدا عن الرأسمال المتنقل او العابر للحدود الذي يتأثر بالمواقف السياسية والذي قد يدمر اقتصاديات الدول السائرة في طريق النمو لأنه، اي الرأسمال العابر للحدود، يطالب الدول المستثمر فيها، بالتبعية والتخلي عن ثوابت الهوية والسياسة الوطنية.