بقدر ما اتسمت زيارة رئيس الاتحاد السويسري باسكال كوشبان الى لبنان بهدوء راق، لم يواكبه صخب مرافق لهذا النوع من الزيارات، وبتواضع بعيد عن الاستعراضية التي تحيط بزيارة الكبار وحتى الصغار، وبترفع عن التوغل في تفاصيل الحياة الداخلية اللبنانية قلما لاحظناه مع زيارات «ضيوف» ثقلاء من الدرجة الثالثة او الرابعة في بلادهم، فان الرئيس السويسري قد أدلى خلالها بتصريحات كانت حتى وقت قريب ملك الاجتماعات المغلقة، والغرف السرية، وكواليس الاندية الدبلوماسية. لقد أقرّ الرئيس السويسري مشكورا بمشروعية حق العودة للفلسطينيين الى بلادهم، لكنه استدرك بسرعة خاطر او بتحضير مسبق لا فرق ليقول: غير ان العودة الكثيفة امر غير قابل للتطبيق، وان البديل من العودة هو التعويض... وربما «التهجير» (وهو مصير ينتظر اللاجئين الفلسطينيين في الدول المضيفة وداخل فلسطين نفسها). صحيح، ان الرئيس السويسري لم يشر الى «التهجير» في كلامه، لكن من يرى التوتر الامني ينتقل من مخيم فلسطيني الى اخر، ويسمع التحريض ضد اخواننا الفلسطينيين يتجول من لسان سياسي الى لسان اخر، يدرك ان التهجير يبقى الحل الاكثر واقعية بين عودة «مستحيلة التطبيق»، وتوطين تسكنه فتنة او فتنة تسكن التوطين. ما يستحق النقاش في تصريحات الرئيس السويسري الذي اعلن عدم خوفه من زيارة لبنان هو قوله «بلا واقعية العودة الكثيفة للفلسطينيين الى ديارهم وبيوتهم وقراهم» حسب قوله. أولا: هل «هجرة» اليهود الصهاينة من ارجاء العالم، وعلى مدى قرن واكثر الى فلسطين، حيث يقطن شعب اخر، كانت «ممكنة التطبيق»، فيما عودة اصحاب الحق الى بلادهم مستحيلة التطبيق؟ ثانيا: ألم يكن قدوم مليون مهاجر من الاتحاد السوفياتي في اواخر الثمانينيات «هجرة كثيفة» في عام واحد، 0 ومع ذلك تم استيعابها على ارض فلسطينالمحتلة)، حتى تكون عودة الفلسطينيين الكثيفة اليوم غير قابلة للتطبيق؟ ثالثا: هل مهمة المجتمع الدولي ومنظماته الدولية، بما فيها الاتحاد السويسري، مقر العديد من المنظمات الدولية، ولاسيما تلك المتعلقة بحقوق الانسان، هي ان تغير الواقع ليتلاءم مع حقوق البشر، ام ان تدعو الى تكيّف الحق مع الواقع، عكس ما تشي به سنن التاريخ وشرائع الارض والمساء؟ رابعا: اذا كان المجتمع الدولي سيقر مبدأ ان القوة باتت بديلا من الحق، ألا يعني ذلك دعوة صريحة لأصحاب الحقوق الى ان يلجؤوا الى القوة للدفاع عن حقوقهم او لاسترجاعها؟ خامسا: ماذا يفعل الرئيس السويسري بقرارات دولية، كالقرار 194 الصادر قبل ستين عاما (11/12/1948)، والقاضي بحق العودة للفلسطينيين، بل القاضي بعدم اعتراف الاممالمتحدة «بالدولة» الصهيونية اذا لم تعترف بهذا القرار وبقرارات اخرى. سادسا: ماذا يفعل الرئيس السويسري ايضا بالدستور اللبناني، (وهو من أعرب عن سعادته بعودة العمل في المؤسسات الدستورية اللبنانية)، وهو الدستور الذي تضمنت مقدمته نصا واضحا برفض التوطين، بل ان بعض النواب يتجه اليوم الى تعديل الدستور بحيث يتطلب الغاء هذا النص اجماعا نيابيا لبنانيا للتأكيد على مركزية هذا النص الرافض للتوطين لدى اللبنانيين؟ فإذا كان التوطين مرفوضا بإجماع لبناني وفلسطيني وعربي، وإذا اكان مشروع «الوطن البديل» يساوي «الخيانة» في اقطار عربية اخرى، واذا كانت العودة غير قابلة للتطبيق، فنحن اذن امام دعوة صريحة الى التهجير،،، والى ايجاد الاسباب الداعية لهذا التهجير، وهي اسباب ليست خافية على احد... وفي الاغلب، ان الرئيس السويسري ليس ضالعا في مخططات صهيونية او مؤيدة تسعى الى شطب حق العودة، وهو كغيره من السياسيين، وبينهم فلسطينيون، يحاول ان يقدم صورة واقعية لمستقبل القضية الفلسطينية والحلول المتصلة بها. وحق العودة لا يشكل فقط جوهر هذه القضية، وحجر الزاوية في كل الحقوق الاخرى المتصلة بها، والبوصلة السليمة لكل السيناريوهات المرتبطة بحلها، بل ان التنازل عنه، والدعوة الى شطبه، يشكل تسليما بكل جرائم الصهاينة ومجازرهم بحق الناس والارض والسيادة والكرامة، بل يشكل تشجيعا لاستكمال مخططات «التهجير» الاخرى، اي «الترانسفير» التي ما زال أصحاب الرؤوس الحامية في الكيان الصهيوني يسعون الى تنفيذها داخل فلسطين نفسها، خصوصا فلسطين المغتصبة عام 1948. لا شك ان المسؤولين اللبنانيين الذين التقاهم الرئيس السويسري، وعلى رأسهم الرئيس العماد ميشال سليمان قد ابلغوا ضيفهم الكريم موقف لبنان من هذه القضية وهو موقف اعلنه رئيس الجمهورية في خطاب القسم، ومن على منبر الاممالمتحدة، لكن مسألة حق العودة تستحق كذلك تحركا شعبيا واسعا، فلسطينيا وعربيا، اقليميا ودوليا، سياسيا وقانونيا، لكي يصبح من ثوابت الحق الوطني والقومي والانساني والاخلاقي. فهل تنجح منتديات حق العودة المتنامية داخل الوطن وخارجه في تحقيق هذا الامر؟ وهل يستطيع ملتقى عربي دولي لحق العودة كالذي سينعقد في دمشق، على غرار ملتقى القدس الدولي في اسطنبول قبل عام، ان يطلق اليات وديناميات وبرامج تحاصر كل الدعوات الصادرة من هنا او هناك لشطب حق العودة؟!