تونس تحتفل بعيد الشغل العالمي وسط آمال عمالية بإصلاحات تشريعية جذرية    دوري ابطال اوروبا.. التعادل يحسم مباراة مجنونة بين البرسا وانتر    شهر مارس 2025 يُصنف ثاني الأشد حرارة منذ سنة 1950    يظلُّ «عليًّا» وإن لم ينجُ، فقد كان «حنظلة»...    الاتحاد يتلقى دعوة للمفاوضات    تُوّج بالبطولة عدد 37 في تاريخه: الترجي بطل تونس في كرة اليد    زراعة الحبوب صابة قياسية منتظرة والفلاحون ينتظرون مزيدا من التشجيعات    قضية مقتل منجية المناعي: إيداع ابن المحامية وطليقها والطرف الثالث السجن    رحل رائد المسرح التجريبي: وداعا أنور الشعافي    القيروان: مهرجان ربيع الفنون الدولي.. ندوة صحفية لتسليط الضوء على برنامج الدورة 27    الحرائق تزحف بسرعة على الكيان المحتل و تقترب من تل أبيب    منير بن صالحة حول جريمة قتل المحامية بمنوبة: الملف كبير ومعقد والمطلوب من عائلة الضحية يرزنو ويتجنبو التصريحات الجزافية    الليلة: سحب مع أمطار متفرقة والحرارة تتراوح بين 15 و28 درجة    عاجل/ الإفراج عن 714 سجينا    عاجل/ جريمة قتل المحامية منجية المناعي: تفاصيل جديدة وصادمة تُكشف لأول مرة    ترامب: نأمل أن نتوصل إلى اتفاق مع الصين    عاجل/ حرائق القدس: الاحتلال يعلن حالة الطوارئ    الدورة 39 من معرض الكتاب: تدعيم النقل في اتجاه قصر المعارض بالكرم    قريبا.. إطلاق البوابة الموحدة للخدمات الإدارية    وزير الإقتصاد يكشف عن عراقيل تُعيق الإستثمار في تونس.. #خبر_عاجل    المنستير: إجماع خلال ورشة تكوينية على أهمية دور الذكاء الاصطناعي في تطوير قطاع الصناعات التقليدية وديمومته    عاجل-الهند : حريق هائل في فندق يودي بحياة 14 شخصا    الكاف... اليوم افتتاح فعاليات الدورة العاشرة لمهرجان سيكا جاز    السبت القادم بقصر المعارض بالكرم: ندوة حوارية حول دور وكالة تونس إفريقيا للأنباء في نشر ثقافة الكتاب    عاجل/ سوريا: اشتباكات داخلية وغارات اسرائيلية وموجة نزوح..    وفاة فنانة سورية رغم انتصارها على مرض السرطان    بمناسبة عيد الإضحى: وصول شحنة أغنام من رومانيا إلى الجزائر    أبرز مباريات اليوم الإربعاء.    عملية تحيّل كبيرة في منوبة: سلب 500 ألف دينار عبر السحر والشعوذة    تفاديا لتسجيل حالات ضياع: وزير الشؤون الدينية يُطمئن الحجيج.. #خبر_عاجل    الجلسة العامة للشركة التونسية للبنك: المسيّرون يقترحون عدم توزيع حقوق المساهمين    قابس: انتعاشة ملحوظة للقطاع السياحي واستثمارات جديدة في القطاع    نقابة الفنانين تكرّم لطيفة العرفاوي تقديرًا لمسيرتها الفنية    زيارات وهمية وتعليمات زائفة: إيقاف شخص انتحل صفة مدير ديوان رئاسة الحكومة    إيكونوميست": زيلينسكي توسل إلى ترامب أن لا ينسحب من عملية التسوية الأوكرانية    رئيس الوزراء الباكستاني يحذر الهند ويحث الأمم المتحدة على التدخل    في تونس: بلاطو العظم ب 4 دينارات...شنوّا الحكاية؟    ابراهيم النّفزاوي: 'الإستقرار الحالي في قطاع الدواجن تام لكنّه مبطّن'    القيّمون والقيّمون العامّون يحتجون لهذه الأسباب    بطولة إفريقيا للمصارعة – تونس تحصد 9 ميداليات في اليوم الأول منها ذهبيتان    تامر حسني يكشف الوجه الآخر ل ''التيك توك''    معرض تكريمي للرسام والنحات، جابر المحجوب، بدار الفنون بالبلفيدير    أمطار بكميات ضعيفة اليوم بهذه المناطق..    علم النفس: خلال المآزق.. 5 ردود فعل أساسية للسيطرة على زمام الأمور    بشراكة بين تونس و جمهورية كوريا: تدشين وحدة متخصصة للأطفال المصابين بالثلاسيميا في صفاقس    اغتال ضابطا بالحرس الثوري.. إيران تعدم جاسوسا كبيرا للموساد الإسرائيلي    نهائي البطولة الوطنية بين النجم و الترجي : التوقيت    اتحاد الفلاحة: أضاحي العيد متوفرة ولن يتم اللجوء إلى التوريد    في جلسة ماراتونية دامت أكثر من 15 ساعة... هذا ما تقرر في ملف التسفير    ديوكوفيتش ينسحب من بطولة إيطاليا المفتوحة للتنس    رابطة ابطال اوروبا : باريس سان جيرمان يتغلب على أرسنال بهدف دون رد في ذهاب نصف النهائي    سؤال إلى أصدقائي في هذا الفضاء : هل تعتقدون أني أحرث في البحر؟مصطفى عطيّة    أذكار المساء وفضائلها    شحنة الدواء العراقي لعلاج السرطان تواصل إثارة الجدل في ليبيا    الميكروبات في ''ديارنا''... أماكن غير متوقعة وخطر غير مرئي    غرة ذي القعدة تُطلق العد التنازلي لعيد الأضحى: 39 يومًا فقط    تونس والدنمارك تبحثان سبل تعزيز التعاون في الصحة والصناعات الدوائية    اليوم يبدأ: تعرف على فضائل شهر ذي القعدة لعام 1446ه    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



وداعا يا فارس الحريّة لك النشيد ولك الرايات
بعد رحيل المناضل الكبير جورج عدة:
نشر في الشعب يوم 22 - 11 - 2008

نزلت من قطار الضاحية الجنوبية وسرت على الرصيف المزدحم. عند باب المحطّة لحق بي جاري. سألني فأخبرته. أعلمته أنّي أعود من موكب جنازة. قال: إذن كنت بالجلاز. قلت: لا بل بمقبرة بورجل.
وسكتُّ وسكَتَ.
أعترف أنّي قصدت استفزازه.
لكنّه لم يسأل. لم يستوضح.
ثمّة ألف احتمال. لعلّه تحرّج من التدخّل أكثر في شؤوني الخاصة أو هو تصوّر أنّ لي صديقا أو قريبا، بالمصاهرة مثلا، من أصل أوروبي، من ثقافة ديانة عيسى... أو ربّما ظلّ ينتظر.
كان الصمت بيننا ثقيلا رغم قصره.
كنت متوتّرا.
أفكاري شتات تتقاذفها رياح شتّى...
أرزح تحت حمل بثقل الزمن الزاحف الجارف دأبا، الزمن هو نهر الأبدية الذي يمضي قدما لا يتوقف ولا يلتفت إلى الوراء...
ولكنّي التفت إلى الوراء ومسحت آلاف السنين بسرعة الضوء وتوقفت عند عديد المحطات منذ فجر الإنسان وظهور الأديان وبداية تشكّل الأوطان...
رأيت أجدادي الأمازيغ يعمّرون البلاد من جبال خمير إلى سهول باجة، إلى سباسب القصرين، إلى أبواب الصحراء نقاط ماء هي واحات بريّة مبثوثة على حواشي شطّ الجريد...
التفت ورأيت التاريخ بحجم شجرة الحياة مترامية الأغصان أذرعا وأيادي تحضن الإنسانية بائتلافاتها واختلافاتها.
الإنسانية المتعانقة المتعاركة، المتصاحبة المتحاربة، المتحّابة المتناحرة، المتقابلة المتقاتلة...
ولكن عندما تهتف الانسانية بمبادئها النبيلة وقيمها العظيمة يكون الائتلاف نداء القلوب الحبيبة، قلوب الأحرار، قلوب المحبّة والسلام...
كنت متماسكا متوتّرا، خاشعا غاضبا، هادئا ثائرا.
أنا العائد من موكب جنازة رجل لا تربطني به صلة أو قرابة ممّا تصوّر جاري أو تتصوّر أنت.
رجل لم أره في حياتي إلاّ بضع مرّات معدودات وصافحته مرّة ومررت، وجلست إليه وحادثته مرّة واحدة في بيته ولم تدم زيارتي له تلك أكثر من نصف ساعة لأنّه كان في فترة نقاهة على إثر مرض ألمّ به.
وألقيت بهذه الأحجية في وجه جاري. وسألته: ا هل عرفت في موكب جنازة من كنت؟
فاحتار في الأمر وتحيّر بشأني لأنّه لم يعهدني على هذه الشاكلة- وأجاب بكلّ إيجاز: الا.
قلت : األم يبلغك نعي السيّد جورج عدّة؟
قال: لا.
قلت: أتعرف من هو جورج عدّة؟
قال: لا.ب
قلت : اهل تتابع نشرات الأنباء على قناة التلفزة الرسمية؟. وهل تتصفح بمكتبك، بالإدارة، أهمّ الصحف بالبلاد؟
قال : انعم وأنظر في كلّ الجرائد التي توفّرها الإدارة . وهذا يندرج في إطار وظيفتي ولكنّ خبرا كهذا لم يعترضني أو ربّما لم أتفطّن إليه.
وأضاف في لهفة وحيرة ولعلّه بدأ يتبرّم: اوالآن هلاّ أخبرتني من هو جورج عدّة؟
قلت محتارا: امن أين أبدأ؟ بتعداد مناقبه أم بتصنيف فضائله؟ هل أعود إلى جذوره الضاربة بعيدا في تاريخ البلاد أم أحدّثك عن فروعه التي تمتدّ أذرعا وأيادي تحتضن الإنسانية في أبهى تجلّياتها؟
هو تونسي أب عن جدّ منذ آلاف السنين. ولقد عانى من الاضطهاد الاستعماري وعرف السجون من أجل استقلال البلاد وتحريرها من ربقة الاستعمار المباشر الفرنسي، كما وقف ويقف في صفّ المضطهدين من عموم الشعب الكادح.
هو بربري الأصل، عربي المنبت، يهودي التعميد، تونسي الجنسية، شيوعي الانتماء، إنساني الثقافة.
فهل في هذا ما يغضب يا جاري؟
فأخونا جورج، بل أبونا، أبو الأحرار، يقول مقدّما نفسه في بداية نصّ المحاضرة )1( التي أعدّها لمؤتمر دولي كان من المفروض أن يعقد بلبنان في ماي 2006 وقد تمّ تاجيله لسبب ما ثمّ كان الاعتداء السافر للكيان الصهيوني على لبنان، يقول بعد أن تحدّث عن أجدادنا البربر والحضارات التي تعاقبت على بلادنا والأديان التي انتشرت في ربوعنا، يقول:
ا ... بعض هؤلاء البربر أجدادي، تخلّوا عن وثنيتهم واعتنقوا ديانة موسى... وهكذا فإنّ تونس هي بلدي والشعب التونسي هو شعبي. لكنّ قناعتي الفلسفية ليست هي قناعات أمّي وأبي. كلّ النساء وكلّ الرجال في جميع البلدان الرّازحة تحت وطأة الظلم السياسي والاجتماعي الذي يمارسه حكّامهم أو المحتلون الأجانب هم أخواتي وإخواني، وأؤكّد لهم تضامني الكامل.
لقد اختار جورج عدّة طريق الحرية والنضال منذ شبابه الباكر.
ففي التاسعة عشرة من عمره، سنة ,1935 وانتخب أمينا عاما مساعدا للحزب الشيوعي التونسي وكان النضال من أجل استقلال البلاد ومن أجل حقوق العمال وتوعيتهم بمكانتهم في الدّورة الاقتصادية التي تدور بعرقهم وبالدّور التاريخي المنوط بعهدتهم في عمليتي التحرر الوطني والاجتماعي. ومع النضال كانت السجون والمحتشدات والمنافي...
منذ ركب صهوة الحرية ما نزل عن السرج وما اترك الحصان وحيدا)2(
فجورج معروف منذ عقود، منذ بداية السبعينيات خاصة، بتطوّعه لصالح العمال بالسهر على القيام بالدراسات في مجال مؤشر الأجور ومؤشر الأسعار، الورقة الأساسية للمفاوضات الاجتماعية دفاعا عن لقمة عيش الكادحين... ففي القاعة الكبرى بساحة محمد علي حاضر في هذه المسألة وتلك لتكوين النقابيين وتثقيفهم...
فالدنيا تراها عينان: عين الأعراف وعين العمال.
والاقتصاد السياسي مدرستان: مدرسة رأسمال ومدرسة فكر العمّال.
ولعلّ آخر دراسة أو محاضرة أو مساهمة له بالاتحاد كانت حول سيّئة الذكر االكنامب)3( .
زرته ببيته صحبة المناضلة الحقوقية)4( باسم المجموعة التي اعتزمت بعث االجمعية التونسية لمقاومة التعذيبب منبثقة عن االيوم الوطني لمناهضة التعذيب )5( أعلمناه بالمولود الجديد في النسيج الجمعياتي فباركه...
كان رجلا هادئا واثقا بسيطا عميقا يلبس جسما قديما ينبض به قلب شاب حيّ متّقد على الدوام.
بفخر أعترف أنّه شحنني وإلى الأمام دفعني وعلى الحقّ شجّعني.
ذات مساء ربيعي دافئ التقيته في أعلى درج أمام المسرح البلدي حيث كانت تنظّم سهرة غنائية متميّزة وممتازة، لا أتذكّر الآن مناسبتها أكانت 8 مارس أم يوم الأرض أم عيد العمّال العالمي؟ تهافت كلّ من كان حولي، من أمامي وخلفي لمصافحته.
ما أروعها قبضة يد ثابتة صادقة وفية.
انتمى إلى فكر هو نوّارة الفكر الإنساني، نهل من زبدة تجارب الشعوب...
فاتضحت له السبل ولم يَطَلْهُ سواد الغربان ففي سرب الحمام طار.
لمّا زُرِعَ الكيانُ الصهيوني بالحديد والنار ثار. ولمّا ادعت الصهيونية أنّها حركة يهودية... نفى وكذّب واحتجّ وفضح وصاح: ها أنا ذا في وطني. وكتب:
... لأؤكّد مرّة أخرى على أنّ السلام الحقيقي والطمأنينة والأمن والحرية والمساواة والعدالة لا يمكن تحقيقها واستتبابها بصفة طبيعية ومشروعة في هذا الشرق الأوسط الذي يتعرّض للعدوان والنهب والهيمنة والاحتلال الأجنبي إلاّ بالتحرير الكامل لفلسطين من الحدود اللبنانية الفلسطينية إلى إيلات على البحر الأحمر، ومن حيفا إلى القدس، ومن تل أبيب إلى أريحا، ومن نابلس إلى غزّة، إلاّ إذا استعاد كلّ الفلسطينيين وكلّ اللاجئين منهم في عديد البلدان من العالم وبصورة كاملة ممتلكاتهم، ومنازلهم القديمة ومقابرهم وأراضيهم ومصالحهم العمومية ).6(
رغم هذا الوضوح، رغم هذه الشجاعة، رغم هذا الموقف المبدئي الجريء يوجد من لا يتورّع على اتهامه بالصهيونية.
يا لعمى البصيرة
في ,1967 لمّا حلّت بنا النكسة في فلسطين وفي الشرق عامة هبّ بعضهم هنا للاعتداء على إخواننا الذين هم من أصل بربري ممن ورثوا اليهودية عن أجدادهم كما ورث آخرون الإسلام عن.. نفس الأجداد. ونحن هنا في تونس نذكر جميعا ذلك الحدث المؤلم، المقرف، المزعج، المقيت،
كيف يضع المرء إصبعه في عينه فيفقؤها ويصيح صيحة.. المنتصر؟...
يفعل الجاهل بنفسه ما لا يفعله العدوّ بعدوّه.
في بداية الثمانينيات انتخب السيّد سارج عدّة (نجل الراحل عنّا جورج) عضوا بالهيئة المديرة للرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان فهبّت حركة تدّعي الإسلام اتجاها وروّجت عريضة تحتجّ فيها على ذلك متّهمة الرّجل بكونه .. يهوديا. لذلك لا يجوز له، في شرعة هذه الحركة، الترشّح لعضوية المنظمات ولا يحقّ للمواطنين، عفوا للرعايا، انتخابه ومنحه الثقة.
يا للدعاة الدواعي المدّعين... مرّة أخرى الإصبع في العين...
في بداية التسعينيات هاجم مجهولون من الشباب االملتحيب الغاضب بيت جورج عدّة وألقى عليه زجاجة حارقة كردّ فعل على جريمة اقترفها الكيان الصهيوني في حقّ الشعب الفلسطيني هناك...
ألا أيّها الغاضب الحانق المنفعل ممّا يحدث هناك إنّك أضعت الطريق ولم تقرأ العلامات أتلفت الخطوة وجهلت أصلك وفصلك واختلط عليك عدوّك من الصديق بل من أخيك.
وفي نفس ظروف الظلام، جدّ اعتداء شبيه كان ضحيته هذه المرّة - السيّد جلبار النقّاش )7( المناضل الشيوعي الذي قضى زهرة شبابه في السجون التونسية من أجل الحرية والعدالة الاجتماعية ونشر مبادئ الاشتراكية وهو بلا جدال التونسي أبا عن جدّ منذ آلاف السنينولكنّ تهمته هذه المرّة أنّه يهودي
وإذا كان خلفاء وفقهاء وأيمّة ومسلمو القرون الوسطى كانوا في ضلال وظلام وسبات ونادى أكثر من مناد بالنهضة... فعن أيّ انهضةب يتحدّثون؟ إنّها النكسة.
يا للنكسة الكبرى
هل تعرف أنّ أعدادا غفيرة من التونسيين اليهود كانت تعيش بتونس وأريانة وحلق الوادي ... وجربة... وقابس...
أين هم الآن؟
روى الأستاذ يوسف الصدّيق )8( في تغطيته لحرب الجنوب بلبنان لمّا أرسلته إحدى الصحف التونسية في أواخر السبعينيات إلى هناك، أنّ سيّارة الصحفيين توغلت في أرض الميدان فأوقفتها كتيبة إسرائيلية ... وأقبل عليه عدد من الجنود الإسرائيليين يسألونه عن.. البلاد، عن الأهل والأحباب، عن سهرات الصيف بحلق الوادي...
ولقد تقدّم بعض أصدقاء جلبار ب بالنصحب وأشاروا عليه لتجنّب الأذى بالهجرة للعيش بفرنسا وهو تونسي لا يحمل الجنسية الفرنسية- وذات يوم ونظرا لمرارة الأذى وإلحاح الأصدقاء وافق على الهجرة ولكنّه لم يهنأ ليلتها لقد كان القرار حنظلا سمّا ترياقا... ليلتها أصيب بنكسة قلبية كادت أن تودي بحياته.
يا للنكسة
أليست نكسة فلسطين، نكسة العرب، نكسة الوطن والمواطنة،،، في جانب هام منها، من نكسة قلب جلبار؟
ورغم كلّ ذلك لم يتزعزع إيمان السيّد جورج عدّة بمبادئه العظيمة ولم يتخلّ عن مواقفه ولم يتردّد لحظة في الوقوف إلى جانب إخوانه الفلسطينيين في كلّ مناسبة ككلّ مرّة.
ففي 1997 مثلا، وبمناسبة مائوية مؤتمر الصهيونية بمدينة ابالب السويسرية، اقترح جورج عدّة على أكادميين وشخصيات عالمية وعشرات آخرين الإمضاء على بيان حرّره ووضعه تحت عنوان : اليوم يتكلّم المناهضون للصهيونية . وممّا جاء في هذا البيان)9(
انحن نساء ورجال من جنسيات وديانات وآراء مختلفة، نعلن رسميا بمناسبة مئوية المؤتمر الصهيوني بمدينة ابالب أنّه لا وجود لبشعب يهوديب ولبأمّة يهوديةب ولبجنس يهوديب. لا وجود لباليهودب ولكن هناك فرنسيون وبولونيون وروس ومغاربة ويمنيون وأثيوبيون ومواطنون من الولايات المتحدة الأمريكية أو يابانيون من ديانة عبرية أو من أصول عبادية عبرانية. بعضهم مثل البولونيين، والبلطيقيين والروس أو المجريين ينحدرون من القوقازيين الخزر المتهودين. أخرون مثل المغاربة أو التونسيين منحدرون من البربر المتهوّدين أو مثل اليمنيين الذين ينحدرون من العرب المتهودينب
أيّها الغاضب الحاقد الساخط الناقم،،، يا أخي، يا ابن أمّي
هذا جورج يمدّ إليك ملعقة الشهد يتْقاطر عسلا غذاء، دواء، شفاء، فكيف تحمّي السفود؟ إنّ العين التي نحوها تصوّب هي عينك الباصرة، هي البصيرة والبيت الذي بالنار ترمي هو بيت فلسطين، هو بيت الكادحين، هو بيت الحرية أليس هو بيتك يا عدوّ نفسك؟
لعلّك لست المسؤول الوحيد عن عمائك. فأنت نتاج مدرسة ما وبرامج تعليمية ما وإعلام ما وثقافة سائدة ما... ولكنّك رغم كلّ ذلك تظلّ المسؤول الأوّل عن نفسك تثقيفا وتوعية لتخرج من كابوسك إلى النور، إلى الهواء، إلى الساحة، إلى معترك الحياة بعيدا عن ثقافة القبور والموت والأوهام.
بالأمس رحل عنّا أخونا، أبونا، حبيبنا، صديقنا، رفيقنا جورج وكان أهله وأصدقاؤه يستعدّون للاحتفال بعيد ميلاده الثاني والتسعين.
يا لها من مسيرة عظيمة سِرْتَهَا واثق الخطو مع الحشود ولكنّك رفضت ثقافة القطيع ودفعت ثمن حريتك ومبادئك وإنسانيتك في المحتشدات...
كم كان الثمن زهيدا...
وكم كان خيارك صائبا...
في عيد ميلادك ترحل عنّا
وغدا، غرّة أكتوبر، نحيي نحن بضاحيتنا، حمّام الشطّ، الذكرى الثالثة والعشرين للغارة الصهيونية الوحشية على مقرّ القيادة الفلسطينية...
وتتواصل معاناة الكادحين بين الأجور المجمّدة والأسعار الملتهبة والمفاوضات المتعثّرة...
تغادرنا وتتواصل الحياة والحياة قوامها الصراع، الصراع في كلّ مجال : الاجتماعي والوطني والقومي والأممي. ولكنّ صورتك لن تغادرنا، ستظلّ دوما معنا حاضرة، ملهمة، في الذاكرة حيّة، نابضة...
إليك أبا ليلى، إليك حبّي واحترامي.
لن آتيك للاستشارة والاستنارة حول قضايا الإنسان والحرية ولكنّك ستظلّ دوما بمسيرتك الطويلة وتجربتك الثرية وعطائك الحاتمي)10( نبراسا وقّادا منقطع النظير تنير دروبنا التي أمامنا ونستنير بك الدروب الفائتة دروبا لم تطأها أقدام بعض من عايشوك أيام المحن الكبرى رغم قيادتهم وسيادتهم.
تركت لهم القيادة والسيادة وانفردت بالريادة.
الكثير منهم ركب زبد اللّغو وتصدّر كتب التاريخ المزوّرة وركبت الموجة العتيّة فتعاليت في تواضع واعتليت سدّة الإنسانية المجيدة لأنّك بكلّ بساطة فهمتها وبقيت وفيا للعامل، للفلاح، للكادح، للشاقي، للباقي،،، لعموم الشعب الشغّيل. ظللت متمترسا في خندق الحرية والعدالة والأخوّة والسلام . لم تزحزحك رياح الردّة العاتية ولم تنل من إيمانك بالحقّ رعود الزيف وبروق الزيغ ..
لنا منك درس بل دروس في التحرر الوطني والاجتماعي وفي القضية القومية الأولى وفي التضامن الأممي، هي دروس قد يتوفّر عنها في كتب التاريخ والمقالات والدراسات والسير، ولكنّها في تجربتك الطويلة الفريدة جاءت مجسّدة، مرصّعة بالبساطة والتواضع والصدق والوفاء والحبّ...
وظلّت البلاد بلادك عزيزة رغم الجور وظلّ الأهل أهلك كراما رغم.. ظلامهم..
أبا ليلى
لك نشيد بني أمّك نغما من وجع الشابي يتحدّى الأقدار ويبذر إرادة الحياة حُبًّا ولاّدا وحَبًّا معطاء في طين الشعب الخلاّق... تجسّده راية حمراء بنجمها وهلالها هي لحافك في نومتك الأخيرة.
ولك منّي ومن قلوب واجفة حولك واقفة إليك حانية لحظة تشييعك، لك نشيد أخواتك وإخوانك، ضحايا الاضطهاد من هنا ومن هناك، ضحايا جوع الاضطرار من كلّ أمم الدنيا، من الذين ما زالوا على العهد ينفخون في بركان الفكر، ولن يكفّوا، حتّى تشرق الشمس كلّ حين...
ومع النشيد رايته القانية مدبوغة بدم العبيد من ملاّحة البصرة وبناة الأهرام وبسبارتكيسب الرومان وبكومينارب باريز ومن دم أبناء العبيد، من هنا، من دم الحامي والكوكي والفاضل ونبيل ) ...11( راية قرمزية الحمرة موشّاة بضياء الحرية وابتسامة العدالة وخفقة الحبّ وبياض السلام وتناسب الجمال... هي رايتك، رايتنا هي جواز عبورك إلى الإنسانية المجيدة الخالدة.
نم هانئا يا فارس الحرية، يا رائد الدروب الصعبة فمثلك لم ولن يمرّ مرور الظلّ بل أكثر من أثر تركت وأكثر من وشم رسمت وأكثر من بذر غرست.
نم هانئا فعهدا قطعا لن نتوقف عن النفخ في الكور حتى يذيب الدفء جليد كلّ القلوب وينير اللهب كلّ الدروب للكادحات للكادحين لكلّ الشعوب.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.