كان عمره ثمانية وثلاثين سنة وعشرة أشهر وثلاثة أيّام يوم نصبت «اليد الحمراء» كمينها الغادر في طريق رادس واغتالته برصاص الحقد... كان على علم بالمكائد والمخططات التي كانت تحوكها قوى الغدر الاستعمارية بهدف اغتياله، وكان يعلم أنّه سيموت... فرحّب بالموت في سبيل نصرة حقّ العامل وفي سبيل استقلال وطنه لأنّه كان مؤمنا بأنّ رجال التاريخ لا يموتون فكان له ما أراد إذ مازال إلى يوم الناس هذا في ذاكرة التاريخ حيّا يرزق، ترنو إليه الأنظار، ويعود إليه الباحثون، والمفكرون، ويتأمل في ماضيه المتأمّلون ويكتب عنه الشعراء والروائيون، ألم تصبح مقبرته مزارا مقدّسا للعمّال والشغالين الذين أحبهم في حياته واستشهد من أجلهم... عاش زعيم الحق والعدل والحرية صامدا جامعا بين خصال القائد والزعيم... عاش حبيبا للجماهير الزاحفة من أجل الحرية... عاش عزيزا من الشعب... واستشهد كريما من أجل اسعاد كل الشعب ليبقى رمز الشجاعة والبسالة والإخلاص ويصبح رمز التضحية والبطولة والجهاد... حشاد تونس... استرح قرير العين... أنت المجد وإلى الأبد ستظل زعيما خالدا لشعبك الذي أحبّك وأحببته وخاطبته بكلمتك الخالدة «أحبّك يا شعب»... سيظلّ بناؤك الشامخ خالدا إلى الأبد... سيُعلّي أحفادك ما شرعت في تشييده وسيسيرون على طريقك وسيواصلون السير مهما طال الطريق ومهما تعدّدت العراقيل... سيظلون أوفياء لمبادئك وسيبقون على العهد رغم كيد الكائدين.. سيكملون المشوار لتبقى المنظمة التي بعثتها إلى الوجود شامخة... متماسكة... مناضلة... مستقلة... من أجل دعم أسس الديمقراطية... ديمقراطية في التفكير... ديمقراطية في التعليم... ديمقراطية في التعبير... ديمقراطية في العمل...! حشاد تونس! هناك من أبناء شعبك ممّن لم تكن تشكّ لحظة واحدة في اخلاصهم كلّوا وانسحبوا من الصف واختاروا لأنفسهم طريقا آخر غير الطريق التي عبّدتها بدمائك الطاهرة الزكية، وهناك من أفقدتهم المغريات ايمانهم وحادوا عن المبادئ التي عشت تؤسس لها فعانقوا أعداء الأمّة وجلسوا حول موائدهم وأنصتوا إلى املاءاتهم متناسين ما صرّحت به لجريدة «الحرية» بتاريخ 30 7 1950 حيث قلت بالحرف الواحد «لقد أصبنا حين قلنا أنّ العامل التونسي لا يمكنه أن ينتظر أي خير من المنظمات الأجنبية... ولقد أصبنا حين نبّهنا العمّال إلى الخطر المنجر لهم من انتمائهم للمنظمات الأجنبية التي تستعملهم فقط كآلة لخدمة مصالحها الحزبية والسياسية. حشاد تونس! ظلّ أبسط شيخ في كتاب حيّنا يكرّر أمامنا «يُخرج الربّ من رحمته إلى الأبد من يهلّل بالبشر...» كما أوصانا أن نحبّ ونتعلّق بالوطن ومؤسساته بدل التمسّح بالأشخاص وتأليههم. شهيد الوطن... لقد زال الهاجس الذي كان يُؤرّق مضاجع الساسة والعسكر الاسرائيليين ونقصد به دولة صدام حسين وجيشه القويّ فشدّد الكيان الصهيوني حصاره على قطاع غزة ممّا أدّى إلى تدهور الوضع الانساني وحتى الموتى لم يسلموا من تبعات الحصار بعد أن عرفت غزّة نقصا فادحا في حاجيات الدفن من الأكفان والمواد الأساسية لبناء القبور بينما يشدّ المبشرون بديمقراطية المحافظين الجدد الرحال إلى الولاياتالمتحدةالأمريكية ملتفتين إلى الأعداء والكارهين الحاقدين الحاسدين الطامعين «متآمرين» علينا دوما الغزاة المستعمرين المتسلطين الذين كانوا ولايزالون مصدر نكبتنا ونكساتنا وسبب بلائنا وشقائنا... وفي خضم هذا المشهد المريع وفي ظلاله القاتمة وتواتراته الحادة تحجب عنّا حقيقة بسيطة ولكنّها في غاية الأهمية تفرض نفسها بسؤال كبير وحاسم: أين هو «ضمير هؤلاء»؟ أين هي عروبتهم وآنتماؤهم لأمتهم؟ أيها الزعيم الخالد! لقد أقسم شعبك بشرف دمك الطاهر أن يدافع بكل ما يملك من قوّة وجأش عن المكاسب الغالية التي حققتها للأجيال الصاعدة وأن يتمسّك بعروبته وهويته بكل ما يملك من إرادة ولن يترك أيّ يد تتطاول لتهدم ما بنيته وشيّدته للشعب... لكل الشعب...! لقد أقسم أبناؤك وأحفادك بشرف استشهادك أن يبقى اسمك منقوشا على الاتحاد الذي أسّسته وأن تبقى مبادئك خالدة على مرّ الأجيال... سيّد الشهداء...! إن تطاولت منذ أكثر من نصف قرن أيدي الغدر والخيانة السافلة لسفك دمك ولم يكن الهدف من وراء اغتيالك سوى اغتيال المنظمة الشغيلة التي بنيتها ووحّدت عمّالها فإنّ الوقائع تقول: إنّ الاتحاد بقي طودا شامخا، ومنارة وضاءة لكل العمّال والشغالين بالساعد والفكر. لقد خاب أمل محترفي القتل والذين جرفهم التاريخ ليطمرهم في مزبلته. دمك سيدي مثل دم المسيح عليه السلام سوف يظلّ إلى أبد الآبدين يلاحق هؤلاء ويلاحق أبناءهم من بعدهم!! محسن الشاوش