اطلعت على الكتيب الموسوم «من ضحايا الاستثمار الاستعماري بتونس (1) »، المعلن عنه في المدة الاخيرة على صفحات جريدة «الشعب، والصادر في طبعة أولى سنة 2008، عن دار «نقوش للنشر، من تأليف المناضلين النقابيين منذر المرزوقي ومحمد الكحلاوي، وفيما يلي بعض الملحوظات حول ما جاء فيه: 1 تنويهات ضرورية لابد من التنويه بادئ ذي بدء: بالجهد المبذول والذي يتضح من العمل الميداني الذي قام به الكاتبان والذي قد يكون استوجب منهما التنقل على عين المكان اكثر من مرة حسبما يبدو. كما بالغاية المقصودة من قبلهما والتي تتمثل في محاولة رفع الحيف عن اسهام الطبقة العاملة والفئات الشعبية في التصدي للمظالم الاستعمارية بصورة مهما كانت فطرية وحتى ان كان ذلك من اجل ملاحقة لقمة العيش، ذلك الاسهام الشعبي الذي يسقط بعضهم في مهاوي التعتيم عليه من خلال الاقتصار في هذا السبيل على التعامل فقط ما بذله بعض الافراد مهما كانوا عظاما أحيانا... اي في مهاوي تصورات لا تاريخية عند النهاية تهمل حقيقة: إن النضال ضد الاستعمار المباشر هو مجهود عام يجب الاشادة بكل من ساهم فيه سواء بالدم أو بالعرق او بالفكر او بالمال او بمعاناة شتى ضروب القهر والعذاب. ان الصفحة المغمورة التي كشف عنها الكاتبان هي صفحة فقط كما هو معلوم من صفحات الحياة الشعبية في ظل الاستثمار الرأسمالي الاستعماري فيكون من المتوقع ان تتلوها صفحات اخرى، ولعل هذا ما يبشر به الرقم (1) الموضوع على غلاف الكتاب والذي من شأنه خلق حالة من الانتظار لدى القارئ، فالمرجو ان لا يخيب التوقع والانتظار. أما بعد هذا فأريد ان أنوه ايضا بالمنهجية المعتمدة، فهي إن لم تصدر عن اهل اختصاص في مادة التأريخ الاجتماعي فقد اتسمت رغم ذلك بموضوعية تداني الحرفية في بعض الاحيان، وخاصة عند تعامل الكاتبين مع الوثيقة الشفاهية حيث نقلا ما ورد على ألسنة العمال بكامل الامانة، وهو أمر يحسب لهما بكل تأكيد، لكنه ما كان ليمنعهما والحق يقال: من التعليق في الهوامش على الكلام المنقول تصحيحا للمعطيات الواردة على ألسنة العمال والتي يمكن ان يشوبها الخطأ او تطالها آثار مرور الزمان. أو من محاولة اثراء هذا الكلام بالمعلومة الضرورية المستقاة من مصادر اخرى، حتى يتمكن القارئ العادي من الالمام بجوانب الصورة كافة. وما يمكن ان يثير الاعجاب بعد هذا ايضا هو تلك الاشارة الرشيقة في الصفحات الاولى الى الحياة الاجتماعية والاقتصادية حيث نقل الكاتبان للأجيال الجديدة صورة حية عن اهم التفاصيل الواقعية لحياة شعبنا في تلك الظروف التاريخية وما فيها من شظف وخشونة ونقص يمس جوانب الحياة كافة، واشارا بنباهة فكرية تندر في بعض الكتابات الى الازدواجية في نمط الانتاج التي تجسدت آنذاك في التزامن والتعايش بين نمط الانتاج الرأسمالي الوارد في جراب المستثمر الاستعماري، وبين نمط الانتاج الاقطاعي الطاغي على تركيبة المجتمع المحلي (أي الوطني)، ذلك ان الجدلية بين نمطي الانتاج (تفاعلا وتصادما) هي التي فتحت الباب في نهاية المطاف التاريخي: على طبيعة المجتمع الذي نعيش فيه حاليا على وقع العولمة الزاحفة اذ أدت هذه الجدلية شيئا فشيئا الى نشوء وتنامي حراك اقتصادي رأسمالي محلي يمتاز رئيسيا بالخضوع الى المراكز الكبرى لرأس المال العالمي وبعدم التكافؤ في علاقته معها، كما أدت الى تلاشي نمط الانتاج المحلي (أي الاقطاعي) رغم ترسب اشكال ضئيلة منه لا تكاد تذكر على مستوى البنية التحية ورغم تكلسه على مستوى البنية الفوقية. كما فتحت الباب على المظاهر الخصوصية لما يسمى بالتحديث في الحياة الفكرية والواقعية بالقطر التونسي وهي مظاهر تختلف نسبيا عن غيرها بباقي الاقطار العربية وذلك في ميادين كثيرة من ابرزها ميدان حقوق المرأة كما تقع الاشارة الى هذا دائما. ولقد توقفت كذلك كقارئ عند الاسئلة الحارقة المطروحة من قبل الكاتبين بأسفل الصفحة 43 وأعلى الصفحة 44، وهي أسئلة تحتوي على بذور محاكمة تاريخية عادلة لغياب المتابعة الجدية لقضية عمال وادي معدن (الذين لازال بعضهم على قيد الحياة) سواء من قبل الحزب الدستوري أو النقابة أو الدولة وخاصة هذه الاخيرة التي لوحت «بصفة مغرية بشعارات العدالة»... ولم تحترمها عند النهاية. ففي تلك الاسئلة الحارقة تنديد واضح ومسؤول في نفس الوقت بتعامل رأس المال الاستعماري مع العمال كمجرد «أرقام مفيدة للانتاج» كما تتعامل الاطراف المحلية معهم باعتبارهم فقط «عناصر استقواء» لتحقيق اهداف لا يجني منها العمال اية ثمار. فتحية للكاتبين عند هذا المستوى على وجه التخصيص لأن كلامهما يمكن نقله من مستوى العينة المدروسة زمانا ومكانا الى مستويات اكثر تعميما زمانا ومكانا كذلك. 2 تدقيقات منقوصة هناك بعد هذا تدقيقات بدا لي ان الكاتبين لم يقوما بها، وقد كان يمكن التوصل اليها من قبلهما ببذل شيء من الجهد الاضافي ولو على حساب موعد صدور الكتاب ربما ؟ ، فمن ذلك: أولا: انه كان بالامكان الاشارة بالصفحة 16 الى التاريخ الدقيق لبداية اشتغال شركة المناجم لوادي معدن وعدم الاكتفاء بالاشارة الى ان ذلك تم في أواسط الثلاثينيات، فقد أورد الكاتبان تاريخ الاغلاق في 1955 كما كان بإمكانهما ايضا العثور على التاريخ المضبوط لبدء الاستغلال. وهذا امر كان متيسرا فضلا عن كونه ضروريا. كما ان حديثهما عن استعمال «الحصير التقليدي» في الحياة العائلية كان يمكن اثراؤه بهامش يشير الى انه كان يصنع من مادة الحلفاء في زمن الفترة المدروسة، اما حديثهما عن «الأفارية» بالصفحة 75 وهي المكان الذ يفصل فيه التراب عن المعدن فقد كان يمكن الرجوع عنده بالكلمة الى أصلها الفرنسي ثم ترجمتها الى العربية. كما انهما عند الحديث عن «ولاية جندوبة حاليا» كان من الممكن لهما بالمناسبة افادة القراء وخاصة من الشباب بالاسم القديم لتلك الولاية التي كانت تدعى «سوق الاربعاء» نسبة الى سوقها الاسبوعية. فهذا كله يثري البحث ويفيد القراء. ثانيا: ومن ذلك ايضا في باب التدقيق المنقوص انهما اشارا في اكثر من مناسبة الى اخر شركة استغلت المنجم ورسما اسمها بالاحرف العربية: «بن روايا» وبالاحرف اللاتينية «BEN ROYA»، والحقيقة انها شركة «بيناروايا» التي يرسم اسمها بالاحرف اللاتينية على هذا المنوال «PENAROYA» ومعناها الاصلية: «الصخرة الحمراء»، وهي المعروفة في القطر التونسي بنضالاتها العمالية، وقد زارها فرحات حشاد في قائم حياته (1)، وكانت لعمالها وقفة قبل احداث 26 جانفي 1978 وأثناءها (2). وهي عبارة عن فرع لشركة عالمية كانت تعمل بالقطر التونسي وتتعامل مع مادة الرصاص وضلت موجهة الى غاية 20 اكتوبر 1988 بالمنطقة الصناعية بمقرين في ضواحي العاصمة، وكانت تشغل قرابة 600 عامل وقع تسريحهم جميعهم عند النهاية مثل اسلافهم الذين كانوا يعملون بمنجم وادي معدن بغار الدماء، ثم تم اغلاق الفرع نهائيا عندئذ من قبل الشركة العالمية بتعلة ان الرصاص التونسي ضعيف المردود والقيمة، ومن غريب الصدف ان المسؤولية النقابية ببيناروايا مقرين قبل اندثارها قد تحملها مناضلان من قرية غار الدماء ذاتها التي كان يوجد بها المنجم موضوع دراسة الكاتبين، وهما بلقاسم الخرشي والأمجد المعروفي. 3 ملحوظات في الصميم بقيت لي بعد هذا ملحوظتان فقط: أما الاولى: فتهم المنهجية وتتعلق بالصعوبات التي اعترضت الكاتبين اثناء بحثهما وذلك في غياب «الحدث المدون» وخاصة ازاء «السطو» المتكرر على «الارشيف النقابي خلال الازمات» كما ذكرا، وهي اسباب واقعية وجدية هما مشكوران لإثارتهما، ولكنه كان من الضروري تكملتها بالاشارة الى ترسب روح «البداوة» وسلوكيات الانحدار الحضاري التي تجعلنا الى حد الآن لا نحترم «الوثيقة المكتوبة» ولا نعتني حتى بصيانتها... وهو سلوك عام يشق مكوناتنا السكانية كافة وتنبغي الاشارة اليه في كل مرة دون كلال بغاية معالجته وتجاوزه. أما الثانية: فهي ذات طابع سياسي وتتعلق بالرأي الخاص للكاتبين المعلن عنه بالصفحة 26 حيث اعتبرا من خلال قراءة الاحرف العربية المرسومة على بطاقات انخراط «الاتحاد العام التونسي للشغل (UGTT) انه يتوجه للعمال التونسيين دون سواهم، في حين رأوا أن «الاتحاد النقابي للعملة التونسيين» المسمى «اليوستيتي» (USTT) بلهجة العمال، يعبر من خلال رسمه المقابل الفرنسي لكل الكلمات العربية عن صبغته «الأممية». وما أود ان أقوله في هذا الخصوص هو ان الهجمة الاستعمارية المباشرة على مجتمعنا قد أخذت أشكالا مختلفة، وقد كان مستوجبا على الطاقات الحية الوطنية تأسيس مسارات وطنية مستقلة في مجالات الحراك كافة ابرازا لقدرة المجتمع المحلي على ادارة شؤونه بنفسه وصولا الى الاستقلال الفعلي عن المستعمر في نطاق جهد لا يتوقف أبدا، فمن ذلك توجه الطبقة العاملة التونسية الى محاولة تجسيد هذا الاستقلال على مستوى حركتها النقابية: وهو ما حاوله محمد علي الحامي ورفاقه سنة 1924، ثم كل من بلقاسم القناوي ومحمد علي القروي العائد لتوه انذاك من المنفى سنة 1938، قبل ان يتصدى للانجاز الميداني للمهمة وبنجاح فرحات حشاد وزملاؤه سنة 1946. واذ رأت الاطراف المناهضة لذلك التوجه ان حركة الاتحاد العام التونسي للشغل يمكن ان تكون مفتقرة الى البعد الأممي الذي يجب فعلا وحسب اعتقادنا ان تصبو اليه وتندرج في نطاقه كل حركة عمالية جديرة باسمها، فان ذلك ما حدا بفرحات حشاد ورفاقه الى الاجابة على ذلك الهاجس بتسمية النقابة الوليدة: الاتحاد العام التونسي للشغل، متجنبين تسميتها بالاتحاد العام للعمال التونسيين، وفاتحين باب الانخراط بتلك الصورة على اساس «الانتماء الى عالم الشغل» لا على اساس «الانتماء الى الملة التونسية»، كما كان يقال بكلمات ذلك العصر، وهو ما يسمح بأن ينخرط في «الاتحاد» الوليد كل العمال الاوروبيين المتواجدين بالقطر التونسي من فرنسيين وايطاليين ومالطيين الى جانب رفاقهم التونسيين، وان كان معروفا من ناحية اخرى ان العامل الاوروبي والموظف الاوروبي كانا يتمتعان انذاك بامتيازات لا يتمتع بهما العمال والموظفون المحليون اي «الأندجان» بكلمات تلك الحقبة ايضا، ومثال ذلك ما كان يسمى ب «الثلث الاستعماري» وهي منحة يختص بها الوافدون ولا يتمتع بها المحليون، فتبقى مسألة الاممية مسألة نسبية في مثل هذه الظروف خاصة وان اللغة الايطالية واللغة المالطية لم تكونا مرسومتين على بطاقات انخراط «اليوستيتي» حتى تكتمل الشروط الشكلية للأممية على الاقل فيما لو جارينا الكاتبين في رأيهما الذي جاء والحق يقال متسرعا بعض الشيء. هذا كل ما لدي من ملحوظات في شأن الكتيب الذي اهتمت به جريدة «الشعب»، وهي ملحوظات ما كانت لتكون لولا قيمته التوثيقية خاصة وقد أهداه صاحباه الى : «صناع التاريخ وبناة الحضارة» اي الى عموم الكادحين الذين ما فتئ التنظيم الاجتماعي الظالم وعلى الاخص في طوره الرأسمالي والعولمي يحاول حرمانهم من مقومات الحياة كافة ماديا ومعنويا، فيكون إهداء الكتيب اليهم مساهمة في التصدي لذلك ووسام شرف للكاتبين. ------------------------------------------------------------------------ هوامش: (1) حول اتصال فرحات حشاد بعمال بيناروايا يراجع مقالنا الحامل لعنوان: الحركة النقابية العمالية الى أين؟ والمنشور بجريدة الشعب على جزئين بتاريخ 03 مارس ثم بتاريخ 17 مارس 2007 بعد انقطاع اعتذرت عنه الجريدة مشكورة في إبانه. (2) الصورة المنشورة رفقة هذا تشير الى وقفة عمال بيناروايا سنة 1977 ضد المساس باستقلالية الاتحاد وضد محاولة اغتيال الزعيم الحبيب عاشور، ويظهر بها النقابيان المذكوران بهذه الملحوظات اي الأمجد المعروفي والمرحوم بلقاسم الخرشي.