ها أنّ صدفة صباحيّة تأخذني إلى هذا الكرّاس العجيب لأكتب إليك بعد أن ادّعيتُ لك أنّني، بالأساس، جئت بحثا عن بعض الوحدة. لم أستطع أن أبتلع كلماتي. دكّني التّعبير دكّا كامرأة لجوج عندما تطلب مصروف البيت. ما كان بإمكاني سوى أن أُعبّر، لك أنت، كالعادة، كلّما مرّ بذهني أمر يقلقني. أطال اللّه بقاء الجنون، ساديّا، دكتاتوريّا، حاكما بأمره فينا! منذ يومين و أنا في بيت أبويّ، أتحاشى ذلك الاختراع الموصل «بالسّاتلايت» والقنوات العجيبة. لست أدري أيّ رغبة حمقاء جعلت أصابعي تمتدّ نحو «الرّيموت كنترول» وتشغّل الجهاز. أبي، موظّف حكومي دفعني خلال عشر دقائق، من دون أن يدري المسكين، إلى أن أُمارس موبقتين: قراءة عناوين الجرائد المحلّيّة الّتي توضع مجانا على مكتبه ومشاهدة نشرة الأخبار. كان ذلك أوّل ما طالعني عندما إقتحمت أصابعي الأزرار. أصبح التلفزيون سوقا عالميّة للإيديولوجيّات والمسارح السّياسيّة والبذاءة. قنوات تدّعي الإلتزام والجدّيّة والشّفافيّة، قنوات داعرة تستعرض علينا مفاتنها وأخرى «صارمة» تبيعنا نوعا آخر من الأفيون وتساومنا على صكوك الجنّة . سيرك عظيم يا رفيقتي، يبقى أجمل عرض فيه ذاك الّذي تقدّمه القنوات الحكوميّة: عرض المهرّج. كنت أعلم كلّ هذا ووجه قارئة الأخبار يطالعني مبتسما، لكنّني مضيت أنتظر خبرا ما، أمرا ما، أملا ما... غريب أمر قارئات الأخبار! يطلعن عليك كما يطلع «عشماوي» ليزفّ خبر موتك. يطلعن جميلات، أنيقات، مبتسمات يزينّ الموت بالألوان ويخبرن عن الكوارث كأنّهنّ يسردن وصفة لكعك العيد. تربّت حَلواهُنَّ على ذاكرتك فتنسى أنّك تشاهد دماءًا وموتى وتنخرط في دوّامة الصّورة حتّى تتعوّد إنسانيّتك على الجريمة ويستقيل ضميرك من عقدة الذّنب. «سُجّلت سبع إصابات بأنفلونزا الخنازير في كندا...» أبَيْ!!!! (عبارة تقال عندنا، مفخّمة غليظة تخرج كالبصقة حاملة في ذات الوقت معنى السّخرية والكراهيّة والتّعجّب) هاهو ذا «منتوج» جديد يضحكون به على سذاجتنا، بحياة راس العولمة. أنفلونزا الخنازير؟ أجديدة هذه؟ في أيّ عصر أعيش أنا؟ أليس هذا المرض موجودا يا رفيقتي منذ ستّين سنة، مذ أصبح العالم محكوما بالخنازير؟ يبدو أنّني «قديمة» جدّا، لم أخرج بعد من عباءة التّاريخ الّتي ألبسوني إيّاها في المدرسة منذ عهد «عصفور طلّ من الشّبّاك»، أيّام كنّا نقول هل أتاك حديث الإنتفاضة؟ واليوم أنفلونزا الخنزير قد أخرجتني للحظات من باب الحلم وأدخلتني من الباب الكبير في واجهة النّظام العالميّ الجديد المعتّق. كان يجب عليّ من زمان أن أعتنق ثقافة «الكامومبار» و»الكافيار» والسّاعات السويسريّة الفخمة. ثقافة سهلة جاهزة للإستهلاك... يكفي أن تضغطي زرّا على الشّبكة العنكبوتيّة لتحمّلي ألف صفحة تحدّثك عنها. رزق اللّه تلك الشّبكة! السّاعة الآن منتصف النّهار وأحد عشرة دقيقة. منذ مدّة لم أجتمع وأهلي على طاولة طعام واحدة. دقائق ويدعونني للغداء لنمارس طقوس إعداد المائدة ونتبادل أحاديث الأكل الخفيفة. أرى أنّني قد تعلّمت فنّ الزّحلقة وتدحرجت من شبكة العنكبوت إلى نظام آخر لا يعترف بمحرّكات البحث و المواقع الباردة. النّظام هنا، يفتح لك نافذة حبّ ويقدّم لك روابط عائليّة دافئة. حتّى إذا استقام له أحيانا أن يخرج لك رسالة تحذير فهو يعود و يعتذر. يبقى أكل أمّي كخبز الوطن. حتّى لو اضطررنا لأكله مالحا أحيانا، نظلّ نحنُّ إليه ويؤذينا الحنين فنعود... ها أنا أضع أحد «سيديهاتي» القديمة وألبّي نداء الصّوت الجهوريّ القادم من المطبخ... على باب غرفتي يشيّعني صوت فيروز مترنّما مدغدغا مسكرا:»موش فارقة معاي... مش قصّة هاي»... (بيناتنا، حمدت اللّه على أنّنا لا نملك تلفزيونا في بيتنا الصّغير يا عزيزتي)