أكيد )لكن ليس ثابتا( بأن ما جرى من نقل للملكية في مؤسسة دار الصباح للصحافة والاعلانات والتوزيع منذ أسابيع هو الذي ساعد على وضع حد لإشكال قانوني دام عدة سنوات في مؤسسة دار انوار للصحافة والنشر. فبشكل مفاجئ وفي خطوة معاكسة )او هي تبدو كذلك( لما كان متداولا قبل أيام فقط، حصلت السيدة سعيدة البجاوي حرم العامري على التراخيص القانونية التي تخول لها إدارة، واصدار ونشر صحف دار انوار التي كان أسسها الراحل صلاح الدين العامري وهي "الأنوار" )1981 ( "الشروق )1984( و"لوكوتيديان )2001( . أما "المصور" الاسبوعية التي تصدر عن نفس الدار فهي مرخصة للسيد عمر الطويل المدير العام المساعد للدار . بذلك انحلت مشكلة ظلت شائكة لمدة عدة سنوات وخلصت السيدة العامري وابنها اسماعيل وكافة العاملين في المؤسسة من كابوس أقض مضاجعهم طيلة السنوات الماضية وأقعدهم عن تنفيذ العديد من التطويرات التي يفرضها عمر المؤسسة لتمكينها من نفس ثان تحقق به ارتقاء نوعيا جديدا يجب ان يفوق بالضرورة إرث باعثها المرحوم صلاح الدين العامري، رغم ان المؤسسة اجتهدت في ترتيب اوضاع العاملين لديها بأن سوت وضعيات العشرات منهم ومكنتهم من الترقيات والضمانات الاجتماعية القانونية، وفي خط مواز اقتنت آلة سحب جديدة. فأي كابوس هذا؟ إنه كابوس العمل منذ وفاة المؤسس، صاحب الامتياز، في اطار غير قانوني حيث ان القانون المعمول به في تونس يخول حق اصدار الصحف الخاصة ونشرها وتوزيعها للاشخاص الذين يحصلون بأسمائهم على رخص تسمح لهم بفعل ذلك، ومتى ماتوا، "ماتت" معهم "رخصهم"(على غرار رخص التاكسي واللواج وبيع السجائر) وبالتالي توقفت صحفهم عن الصدور. فقد كانت صحف الدار الثلاث )الانوار – الشروق – لوكوتيديان( مهددة بالتوقف في كل لحظة لو اشتكاها أحد أو تضررت منها جهة ما، وكان مبرر الايقاف متوفرا قبل البت في محتوى اي شكوى او اي ضرر مزعوم . لحسن الحظ ، ان شيئا من ذلك لم يحصل، لان الصحف المذكورة وخاصة منها الشروق أصبحت جزءا لا يتجزأ من المشهد الصحفي في البلاد ولانه من الصعب على أي طرف كان ان يذهب الى حد التسبب في ايقاف مثل هذه الصحيفة التي يجب التذكير أنها أحدثت عند نشأتها في 7 نوفمبر 1988 ، انقلابا بل نقلة نوعية في الساحة الصحفية التونسية التي اتسمت حتى ذلك الوقت بالرتابة والهدوء والجدية المبالغ فيهما بل وزادت "الشروق" فاحتلت موقعا خاصا لدى عموم التونسيين من خلال موقفها الداعم للعراق في حرب الخليج الاولى (1991) وتعرضها نتيجة ذلك الى حريق كاد يذهب بمطابعها دون رجعة. لذلك، كان لا بد في هذه الحالة، كما في حالة دار الصباح عندما توفى مؤسسها العميد الحبيب شيخ روحه وفي حالات اخرى لا استحضرها الان من "التعسف" على القانون والسماح بتواصل صدور "الصباح" في غياب صاحب الامتياز الوحيد فيها، باعتبار ان لا أحد يمكن له ان يتصور تونس خالية من جريدة الصباح. وقد اشترك في هذا "التعسف" كل الاطراف بما ان الجميع على قناعة تامة بأن هناك خللا في هذا القانون يجب معالجته ان لم يكن عاجلا فآجلا . ويذكر ان المرحوم صلاح الدين العامري أثار الموضوع أمام الرئيس زين العابدين بن علي شخصيا لما استقبل قبل عدة سنوات مجموعة من أصحاب المؤسسات الخاصة للصحافة، كما أثاره آخرون في أكثر من مناسبة لكن دون ان يترتب عن ذلك أي تغيير في النصوص القانونية . وحصول هذين الحالتين لم يحل دون تطبيق النص القانوني الذي مازال ساريا الى حد الآن في بعض الحالات ومنها حالة جريدة "لوفار" لصاحبها المرحوم عبد الجليل الباهي ، و"العهد" لصاحبها المرحوم نبيل البرادعي و"الاضواء" لصاحبها المرحوم بدر الحلفاوي، ولكن هذه الصحف لم يكن لها تأثير مماثل للصباح والشروق حتى يقع القبول باستمرارها عبر "التعسف" على القانون. ولا شك ان المشكل سيظل مطروحا ما لم يقع تكييف القانون باعتبار العدد الكبير لمالكي رخص الصحف الخاصة، اللهم إلا إذا توفر اتفاق غير معلن بأن تقع المعالجة حالة بحالة. فما الحل؟ الحل في نظري أن تسند رخص الصحف الخاصة، وحتى التي تسند للأحزاب والمنظمات وغيرها من الذوات المعنوية، الى شركات وان يكون من أعضاء هذه الشركات وجوبا عدد مناسب من الصحافيين المحترفين المباشرين للمهنة لمدة لا تقل عن عشر سنوات، ومن المستوجب في نظري آن يكون الصحافيون شركاء في رأس المال بأي قدر كان عبر شركة خاصة بهم على غرار ما هو معمول به في فرنسا، ويمكن توسيع الفكرة لتشمل شركة للفنيين والإداريين، وشركة للموزعين (بالجملة وبالتفصيل) حتى يشاركوا بصفة فعلية في ترويج الجريدة وتوزيعها بالشكل الملائم على أنهم جزءا منها يهمهم ارتفاع مبيعاتها، لا مجرد وسطاء يكتفون باقتطاع نسبة على النسخ التي يبيعونها ويكسبون باقي المداخيل من تأجير الصحف للقراءة او تكديسها للحصول عليها كفواضل . وربما تكتمل الصورة المثلى بادماج شركة للقراء على غرار ما هو معمول به في جريدة لومند الفرنسية، فقد انقذ قراء لومند صحيفتهم عدة مرات من الافلاس من خلال اكتتابهم في رأس المال وحمايتها من الاحتكار وبالتالي ضمان ديمومتها. ويمكن اضافة عنصر آخر ضامن لعدم الاحتكار وهو ان لا يزيد أكبر قسط من رأس المال المجمع عند شخص واحد عن 49 بالمئة، وان تكون شركة الصحافيين وحدها المؤهلة لامتلاك نسبة من الاسهم تزيد عن 50 بالمئة . تلك في نظري ضمانات لها حد غير معلوم من القوة، تدفع عن الجريدة – اي جريدة واي وسيلة اعلامية – كابوس الاحتكار والانفراد بالرأي والتوجه الدغمائي في مجال التحرير وكذلك اغتصاب حقوق العاملين فيها وإساءة معاملتهم. وهنا مربط الفرس فهذا موضوع أريد بالمناسبة أن أتوسع فيه دفاعا عن الصحافيين وكل العاملين في الصحف باعتبار ان ما يشهده القطاع الآن الآن وليس أمس، يندى له الجبين ويثير القرف والاشمئزاز. فعن أي صحافة حرة تتحدثون والعاملون - بعضهم الكثير لا محالة - يتقاضون فتات أجور ولا يعرفون للضمانات الاجتماعية طريقا ولا للباس المحترم وجهة حتى أنهم يرضون مقابل عمولات مخزية ومهينة للكرامة البشرية ان يرفعوا من شأن فلان ويحطوا من شأن علان. كيف تسألون عن انحدار الصحف وتشابهها وتقوقعها وجريها وراء السفاسف والخرافات وحكايات رأس الغول، والعاملون فيها يتقاضون مقابل أعمالهم "تحت الطاولة" أو "تحت الحيط" وفي أحيان كثيرة بالقطعة مقابل مئات المليمات نعم مئات المليمات وما رايكم في صحافيين يدفعهم رؤساؤهم الى تدبير الرأس من غادي لغادي " حتى يضمنوا معاشهم ودواءهم وسكنهم. لن أسمي حالة بعينها، ولكن أدعو بكل قوة الى ايلاء الموضوع أهمية قصوى، فما ارتقاء مستوى الصحافة والاعلام عموما إلا بأجور مرتفعة بل مرتفعة جدا حتى نوفر للصحافي كل الضمانات التي تحميه من الارتشاء والرشوة ومن الوقوع تحت تأثيرأي كان أو أي جهة محلية أو أجنبية وحتى نفرض عليه ان يرفع من مستواه الشخصي ومن مستوى المادة الصحفية التي يقدمها. وتجدني هنا مرحبا بالتغيير الحاصل في دار الصباح، فهو ، ويصرف النظر عما ينتظره منه القطاع كاملا من مراجعة لقانون انتقال الملكية ومن نقلة نوعية في المادة الصحفية والاخراج الفني وتنظيم لعملية التوزيع، يؤشر الى قفزة عملاقة في باب حسن معاملة الصحافيين من حيث الأجور ومحسناتها، ولا شك ان الارقام التي بلغنا صداها بعد كأجور أسندت لكبار المسؤولين، تكفي وزيادة لدفع بقية المؤسسات الى النسج على المنوال وحفز بقية المسؤولين في باقي الصحف على المطالبة بتنظيرهم بزملائهم في دار الصباح. واعتقادي ان الأوضاع التي يعاني منها العديد من الصحافيين وزملاؤهم من بقية العاملين في القطاع لا تحتمل التأجيل أكثر مما حصل الى حد الآن وان واجب النهوض بالقطاع وإرادة إصلاحه تفرض تدخل سلطة الاشراف، على الأقل وفي مرحلة أولى، لتأمين صرف أجور قانونية (على الأقل) للصحافيين مع ما يتبعها من ضمانات اجتماعية عبر الخزينة العامة. ومن رأيي ان يتكون جهاز بل مكتب، بل موظف تعهد له هذه المهمة، وتتمثل في التحقق من أن الصحافي فلان يجب ان يتقاضى الاجر المستحق حسب القانون الاساسي لمؤسسته او العقد المشترك وليس أقل، على ان تقتطع مبالغ الأجور من عائدات المؤسسات من الاعلانات العمومية التي توزعها وكالة الاتصال الخارجي . ولان انتاجات الصحافيين ومقالاتهم الجيدة وتحقيقاتهم هي التي تجلب الاعلانات والاشهارات، فمن باب أولى وأحرى، ومن باب الانصاف أن يعود لهم منها ما يجازيهم ويحقق لهم الأجور القانونية المتفق عليها نتيجة المفاوضات الجماعية في القوانين الاساسية والعقد المشترك، بدل ان تذهب عائدات الاعلانات لتمويل مشاريع ربحية لا علاقة لها بالصحافة من قريب أو بعيد، حتى إذا ما حصلت مشكلة للجريدة أو المؤسسة الإعلامية "نط" صاحبها في مشروعه الاستثماري المحاذي، وذهب بقية العاملين في خبر كان. عود على بدء تجدني في النهاية وبالعودة الى حيث انطلقت، أسأل – هكذا- لماذا لم يقع إنشاء مجموعة صحفية جديدة (يوميات وأسبوعيات) بأسماء جديدة وأشكال جديدة وتقنيات جديدة وصحافيين جدد. كان من المفروض في تقديري ان يحصل ذلك حتى تنشا في البلاد اولى المجموعات الصحفية للقرن الحادي والعشرين. ولو حصل ذلك فعلا، لانضافت لتونس صحف جديدة و روتاتيف جديدة( من مؤشرات النمو الفكري والثقافي عدد آلات الروتاتيف في هذا البلد أو ذاك) ولأمكن توفير فرص عمل ل200 كفاءة تونسية جديدة، وبشيء من حسن التدبير لأمكن وضع تصورات جديدة لصحافة تدخل بها تونس القرن الجديد وتقطع مع طاحونة الشيء المعتاد. وليتأكد المستثمرون ان الساحة مازالت قابلة وقادرة على استيعاب المزيد من العناوين.