منذ قيامها، قبل أكثر من ستة عقود، مثلت إسرائيل بطبيعتها وسياساتها ومواقفها نوعا من دولة استثنائية، بمعنى فوق الدول العادية وفوق الأعراف والمواثيق الدولية وبمعزل عن ظروف قيامها الاستثنائية (الهجرة والقوة والدعم الدولي)، فإن إسرائيل التي تحتل أراضي الآخرين، منذ العام 1967، تصرّ على «حقها» بالاحتلال، فهي تعتبر أراضي الضفة الغربية، مثلا، جزءاً من الوطن أو «أرض الميعاد» (بتعابيرها التوراتية!) لا يجوز الانسحاب منه! وإسرائيل هذه هي الوحيدة بين دول العالم التي ما زالت تتهرب من تعريف حدودها الجغرافية، والأدهى أن «حدودها» البشرية، أيضاً، تخترق حقوق المواطنة في كثير من دول العالم، حيث ثمة جماعات تدين باليهودية! أيضا، وعلى رغم تجلي إسرائيل على شكل دولة استعمارية وعنصرية ودينية، في الوقت عينه، إلا أن التعامل معها يجري باعتبارها دولة ديموقراطية وحداثية! وعلى رغم كونها دولة محتلة وقوية وعدوانية، وتمارس السيطرة على شعب آخر، فإنه يتم التعامل معها باعتبارها دولة مستهدفة وضعيفة وتدافع عن ذاتها، بل إنها بات ينظر إليها في بعض الدوائر الأمريكيةوالغربية وكأنها ضحية لمقاومة الشعب الذي تحتله وتصادر أرضه وحقوقه! الأنكى من ذلك أن المجتمع الدولي، المتمثل بالدول الكبرى، يقوم بتقديم المكافآت والاعتذارات والتشجيعات لإسرائيل لدى أي تجاوب منها، ولو محدود، مع المطالب الدولية، وكأنها تنازلت عن حق لها(!) بدلا من أن تتعرض للمساءلة والمحاسبة جراء احتلالها (على الأقل) لأراضي الفلسطينيين (وغيرهم) منذ أكثر من أربعة عقود، وبدلا من أن تقوم هي بالتعويض عن الفلسطينيين جراء مصادرتها لأراضيهم ومياههم وحقوقهم ومستقبلهم. في الحقيقة فإن إسرائيل لم تستمد هذا الاستثناء من ميزاتها الخاصة أو من بعض عناصر القوة التي تتمتع بها، بقدر ما استمدته من الواقعين الدولي والإقليمي، الذين سمحا لها بل وشجعاها، في كثير من الأحوال، على التصرف وكأنها دولة عظمى، على المستوى الإقليمي على الأقل. وفي ذلك فقد استثمرت إسرائيل عوامل عديدة، أهمها: 1 اعتبارها من قبل الدول الغربية الكبرى امتدادا سياسيا لها في هذه المنطقة. 2 عقدة التعويض عن حقبة الاضطهاد الديني لليهود في بعض بقاع أوروبا، في النصف الأول من القرن العشرين؛ 3 تشتت الوضع العربي، وتخلف الأوضاع العربية السياسية والاجتماعية والثقافية، وبالتالي تخلّف إدارة الصراع مع إسرائيل على صعيد الرأي العام العالمي. وكما هو معلوم، وبرغم مرور أكثر من ستة عقود من الزمن على قيامها، فإن إسرائيل مازالت تسعى من أجل تأكيد استثنائها في عدة مجالات، أهمها: أولاً: تعريفها ذاتها باعتبارها دولة يهودية وديموقراطية. ومع اعترافنا بتميز النظام الإسرائيلي بالقياس لنظم المنطقة، فإن هذا التعريف ينطوي على تناقض، إذ لا يمكن أن تكون دولة ما ديمقراطية وهي تفتقد لعنصر المساواة بين مواطنيها، حيث أن غير اليهود لا يتمتعون بحقوق اليهود فيها. وإسرائيل هي الدولة الوحيدة التي لا تتطابق فيها حدود الهوية مع حدود المواطنة، بقدر ارتباطها بحدود الدين، الذي تحول إلى قومية، بالنسبة لها! ثانياً، دأبها على انتزاع اعتراف العالم بواقع كونها دولة يهودية، بدعوى أن «اليهودية» بالنسبة لها هي هوية ثقافية وقومية! ولا شك أن إسرائيل في كل ذلك تحاول تبرير ذاتها، عبر التحايل على قوانين تطور المجتمعات والقوميات. والواقع فإن تاريخ تطور الشعوب لم يعرف قومية أو أمة قامت على مجرد الانتماء الديني. ولو عمل العالم كله على هذا الأساس لتغيرت خارطته الجغرافية والسياسية، بحسب الخارطة الدينية، بكل ما لذلك من تداخلات وتداعيات، ولتحولت الأمم الحديثة، المتآلفة من اثنيات وطوائف وقوميات، إلى أمم طوائف! ثالثاً، محاولاتها التغطية على طبيعتها كدولة دينية يهودية بالادعاء بأنها دولة علمانية، أيضا، في محاولة للمراوغة في اتجاهين: داخلي، ويشمل استقطاب يهود العالم باتجاهاتهم العلمانية والدينية؛ وخارجي، باعتبار ذاتها جزءا من المنظومة الحضارية الغربية العلمانية الحداثية، في هذه المنطقة. رابعاً، حرصها على ضمان تفوقها في المجال العسكري واحتكارها التسلح النووي في المنطقة. وتدّعي إسرائيل أنها دولة صغيرة في محيط معادٍ لها ويستهدف وجودها. المعروف إن إسرائيل تخصص نحو عشرة بلايين من الدولارات لنفقات الدفاع (بنسبة 16 في المئة من الموازنة الحكومية و10 في المئة من الناتج السنوي المحلي)، في حين أنها تطالب بالحد من قدرات الدول العربية في مجال التسلح، علماً أن مخصصات الدفاع في الدول العربية، المجاورة لها لا تتجاوز 7.6 بليون دولار! وبينما تطالب إسرائيل بمنع تواجد أي نوع من أسلحة الدمار الشامل، في الشرق الأوسط (وفي مجمل العالم الإسلامي)، مهما كان حجمه أو قدرته، تبرّر هي لنفسها امتلاك أكثر من 200 قنبلة نووية، إضافة إلى الأسلحة الكيماوية والبيولوجية! خامساً، اعتبار ذاتها دولة ليهود العالم، مع ضمان حقها في تهجيرهم إليها، باعتبارها إياهم جزءاً من الشعب اليهودي خاصتها! وقد هاجر إلى إسرائيل منذ قيامها 3 ملايين يهودي، بتأثير الدعاية الصهيونية، وبضغط من الأوضاع السياسية أو الاقتصادية التي كانوا يعانون منها في أوطانهم الأصلية. وهكذا أباحت إسرائيل لذاتها التدخل في شؤون الدول الأخرى، ونصبت نفسها محامياً أو وصياً على الطوائف اليهودية في دول العالم، بدعوى أنها مركز اليهودية، وبأنها الملاذ الآمن ليهود العالم. والثابت أن ادعاءات إسرائيل هذه أحرجت الطوائف اليهودية في العالم، وخلقت لديهم شعوراً من الانتماء المزدوج. سادسا، تغطيتها احتلالها للأراضي الفلسطينية والسورية بالاعتبارات الأمنية، وبدعوى حماية وجودها. وهكذا فإن إسرائيل هي الدولة الوحيدة التي برغم احتلالها لأراض عربية، ومقاومة السكان الأصليين لها، طوال عقود من الزمن، ظلت تصر على الاحتفاظ بالأراضي المحتلة، بدعوى الحفاظ على أمنها وأمن مواطنيها؛ بمعنى أنها تبرر استعمارها! وحتى أن المجتمع الدولي، برغم كل ذلك، ظل يتعامل مع هذه الدولة ويتقبلها، ولم يصدر عنه أي قرار يلزمها بالانسحاب من هذه الأراضي، وفقا للباب السابع من ميثاق الأممالمتحدة. السؤال الذي يطرح نفسه الآن، إلى متى يستمر هذا الاستثناء لإسرائيل؟ وإلى متى ستبقى هذه الدولة المصطنعة تعاند حقائق التاريخ والجغرافيا والديمغرافيا؟ وماذا ينتظر العالم لوضع حد للتوترات التي تثيرها إسرائيل هذه في الشرق الأوسط، وعلى مستوى العالم؟