يتم يوم السبت 25 جويلية إحياء أربعينية الشاعر والمناضل النقابي ومناضل الهجرة والممثل والمقاوم المرحوم المولدي زليلة شهر «خميس» والذي اشتهر بشكل خاص من خلال أغنية مازالت ترددها الاجيال وهي اغنية «بابور زمّر». وبالمناسبة، يعود زميلنا في صفاقس الاخ مصدق الشريف بالذاكرة الى سلسلة من اللقاءات كان أجراها مع الراحل العزيز حيث نشأت بينهما علاقات وطيدة استمرت لعدة سنوات. وقد اخترنا حديثا سبق للزميل ان نشره بمجلة «حقائق» في عددها 935 الصادر في 27 ديسمبر 2003. كان مصدق الشريف قد كتب في حينه: «عمي خميس» هو المولدي زليلة ولد بأولاد يان بجزر قرقنة في 27 ديسمبر 1917، درس بالكتاب ثم بالمدرسة «العربية الفرنسية» وتحصل على الشهادة الابتدائية سنة 1934 ثم تحول الى العاصمة، وبعد التقلب في عديد المهن تطوع لخدمة الجندية في جيش الباي مرتين، الاولى سنة 1937 والثانية في 1945 ظنا منه انه سيخدم القضية الوطنية. ولما اظهر الباي تجاهلا لمعاناة البلاد في الداخل وترفعا على ما يجري في الشرق العربي اصبح المولدي زليلة يحث على التمرد والعصيان وتمت محاكمته غيابيا بالاعدام في 1948. فتمكن من الفرار الى الشام وانضم الى الجيش السوري مدة تناهز عاما وشهرين واكب خلالها احتلال فلسطين مما كان له شديد الوقع على تجربته النضالية. بعد عودته لتونس انخرط في الحزب الشيوعي ثم انشق عنه وانضم لمجموعة «آفاق» وكان من النخبة التي شاركت في بعث جريدة «العامل التونسي» ثم هاجر الى فرنسا وكان من رواد الحركات والمنظمات المدافعة عن المهاجرين فساهم في بعث جريدة «المهاجر» بمدينة «قرونوبل» كما شارك في بعث فرقة مسرحية لتفضح الممارسات العنصرية في حق العمال المهاجرين. «حقائق» ابحرت لتدخل بيت العم خميس بأولاد يان بجزيرة قرقنة وتحاورت معه كرجل عرف بتجربته الثرية في عالم السياسة وكشاعر انحاز الى الحق والحرية واختار حزب الفقراء والجائعين والمضطهدين يدافع عن قضاياهم وهو المنشد في قصيدته «قلمي»: «قلمي هدية للي محرومين من الحرية لا يرتجي في فخر ولا مزية ولا بالتشهير أنا وأنا» وللطاغي وللجبار قلمي اذية ثعبان أحمر سامّات سنانه.. و «عم خميس» نحات ورسام تجد في منحوتاته ورسومه ما في عم خميس وماضي البلاد. واي ماض! انه ماضي المرأة التي كانت تطحن الشعير والقمح وماضي سيدي المؤدب المتسلط في الكتاب على صغار الاطفال، وجماعة تحت السور امثال مصطفى خريف، علي الدوعاجي، الهادي العبيدي، محمد بن فضيلة، أبو القاسم الشابي، الطاهر الحداد ومناضلين من تونس مثل محمد علي واحمد التليلي وخارجها تشي يفارا وهوشي منه. من بعيد تستقبلك دار «عم خميس» المميزة لا بالهوائي فوق سطحها أو أعمدة اسلاك الهاتف وما لف لفها من مظاهر المدينة الحديثة وانما بالرسوم التي شكلت على حيطانها، فعلى يمينها صورة الزعيم الوطني والنقابي فرحات حشاد وعلى اليسار صورة امرأة قرقنية ريفية خدوم ومعطاء.. وسط حديقة صغيرة اشتملت على جميع انواع الزهور: فل، ياسمين، قرنفل، نعناع الخ... ولجنا المنزل الذي كان بابه مفتوحا وعم خميس يتوسط فناء الدار جالسا على كرسي يتأمل الشمس التي تسربت اشعتها الى الداخل. غمرنا بالترحاب وبعدها بادرناه بالسؤال. «عم خميس» كما يحلو للذين أحبوك ان يسموك حياتك كانت محمومة بالنشاط السياسي والنقابي والصحافي من اجل العدل والحرية والكرامة، فكيف استطعت ان تنسحب وتعيش هذه العزلة؟ قبل ان أجيبك لو تسمح اذكرك بالمناسبة التي كانت سببا في تسميتي «عم خميس» كنا اثني عشر عضوا نمثل الهيئة المديرة لجريدة العامل التونسي وكنا من مشارب مختلفة من أفاقيين ويساريين ونقابيين وكنت انا من بين الجماعة العامل الوحيد فكلهم كانوا من النخبة المتعلمة والموظفة، واستطعت ان اجمع بينهم وهذا هو سبب التسمية «العامل التونسي» ثم اصر الاحد عشر عضوا ان يكون لي اسم «حركي» ورغم معارضتي الملحة واصراري على ان امضي مقالاتي باسمي «المولدي زليلة» فأنا وهذا ليس من باب الادعاء والشهرة لطالما اصدرت مناشير قبل ذلك باسمي وكنت مؤمنا انه لا داعي للخوف او التستر وفي الاخير حسم الامر صديقنا الاخ محمد صدام وهو استاذ في الرياضيات وسماني «خميس» استنادا الى مجموعتي الشعرية التي اصدرتها في باريس تحت عنوان «عم خميس في باريس» وقد كانت هذه القصائد تصف حالة الفلاحين زمن التعاضد واختياري لهذا العنوان لما اكنه من تقدير ومحبة «لعمي خميس ترنان» رحمه الله. اما فيما يخص حياتي والتي وصفتها بالمحمومة على المستوى السياسي والنقابي والثقافي والصحفي فأنا قد هاجرت الى فرنسا في 20 نوفمبر 1957 وقبل الهجرة كنت اكتب في جريدتي الصباح و «le petit matin» واتذكر اني غادرت البلاد والخلاف بين اليوسفيين والبورقبيين على اشده وبالمناسبة لم اكن مع بورقيبة ولا مع صالح بن يوسف ولم اتمكن من الخروج الا بعد ان تدخل «ولد بلادي» من قرقنة العامل انذاك بوزارة الداخلية فأقنع السلط بأن خروجي من تونس افضل من البقاء فيها لكثرة انتقادي للحكومة في كل مكان وخاصة في مقهى الفرجاني (مقهى بالحاج عمار) ومقهى القاهرة. امتطيت الباخرة كما قلت لك يوم 20 11 1957 كتبت وقتها قصيدة «يا بور زمّر» كلها على متن الباخرة وقد كان لي نشاط متنوع في فرنسا اكتب النصوص المسرحية واقوم بعرضها بمعية زوجتي في جامعة فانسان وقد ساعدني على ذلك انني كنت اشتغل بالليل في الكنتوار القومي للصيدلة بفرنسا فأستغل النهار في النشاط السياسي والثقافي. وبالمناسبة فإن الاخوة محمد ادريس وتوفيق الجبالي وصالح السويعي قد اخذوا التجربة المسرحية من تلك العروض في البداية واتذكر ان اول عرض كان تحت عنوان «قاسم عزاز» وقد شهدت سنة 1971 تحولي الى قرونوبل وانضممت الى جماعة العامل التونسي بقرونوبل برئاسة الجيلاني الجدي واشتغلت هناك واسسنا جريدة المهاجر. وجريدة العامل التونسي؟ لم تصدر منها الا ثلاثة او اربعة اعداد بعد خروجي منها. اما فيما يخص حياتي في الحاضر فإنه يبدو لك انني اعيش في عزلة وهذا غير صحيح تماما فأنا مطّلع على كل كبيرة وصغيرة تقع سواء في تونس او خارجها شرقا وغربا والشيء الذي جعلني على هذه الحالة سواء من ناحية مواكبة الاحداث او ما اتمتع به من صحة جيدة والحمد لله هو الزيارات اليومية التي يقوم بها اصدقائي لبيتي سواء من تونس او خارجها هذا فضلا عن مختلف الاجناس من السياح وأؤكد لك انني ارغب في استقبال الشباب لأن الشباب عماد الامة ومستقبلها وانا اتعلم منه لأنني لست سجينا لتجربتي الطويلة فهي لا تخلو من اخطاء. ولا يجب ان يكون «الفكر واقفا» واعتبر ان سلامة جسمي وانا اشرف على التسعين اسبابها سلامة عقلي الذي يتحاور ويتصارع مع كل الاجيال وها انت قد وجدت بجانبي شابا في العشرين من عمره وفي كلمة انا لا أؤمن بطلاق الاجيال. فضلا عن انك اصدرت ديوانا بعنوان «بابور زمر» سنة 1982 فقد قرأنا لك بعض الاقاصيص هنا وهناك كالبير، الولد الكافر والولد الفرد الخ، فلماذا لم تفكر في اصدار مجموعة قصصية؟ ان ما نشر في بعض المجلات والصحف يعتبر قليلا قياسا بما املكه من قصائد واقاصيص ونصوص مسرحية كتبت سواء قبل هجرتي لباريس او اثناءها او بعدها وهي باللغة العربية والفرنسية. وهل تكتب بالفرنسية؟ كتاباتي بالفرنسية مواضيعها اعمق مما كتبته بالعربية.. الا اني لم افكر في نشرها لأن النشر في اعتقادي وهذا موقف عندي لا يتزحزح يجلب لي المادة والشهرة وهذان شيئان لا يتماشيان مع فكري السياسي والنضالي فأنا لا أحب المادة والشهرة ثم اني اترك مسؤولية التجميع والنشر للأجيال القادمة حتى تقوم بذلك. عم خميس وانت في هذه السن متّعك الله بالصحة والعافية ماذا في جرابك من امال واحلام واعمال تود انجازها؟ اني اعتبر ان سبب تخلفنا وما نحن فيه من وضعية سيئة في جميع المستويات هو بسبب فهمنا الخاطئ للدين اذ اننا نترك كل الامور لمشيئة القضاء والقدر وان السماء هي التي ستغير حالنا من السيء الى الحسن وهذا تدمير للعقل الانساني الذي كرمنا الله به ودعانا للعمل وحالتنا اليوم هي شبيهة بحالة فرنسا قبل 1789 اذ ان الشعب الفرنسي لم ينهض ولم يبلغ ما عليه اليوم من علم وتقدم الا بعد ان فصل الدين عن الدولة واقام الدولة اللائكية ونلاحظ اليوم كيف اصبحت الكنيسة تقف الى جانب الحق وتناصر قضايا الحرية والمهاجرين بعد ان تطور موقعها وتخلصت من مساندة الحاكم باعتباره خليفة الله على الارض له السلطة المطلقة وكل قراراته معصومة من الخطإ، وفي اعتقادي الجازم ان العمل وتحرير العقول من المسلمات هو السلاح. فهذا ما امل ان ارى عليه ابناء الوطن العربي والامة قاطبة كما ارجو ان تعطى الفرصة لكل من يريد ان يعبر عن موقفه بالوسيلة التي يختارها (رسم نحت شعر مقالة تظاهرة سياسية و ثقافية) لأن ذلك يؤدي حتما الى الطريق التي تعتقنا من براثن الاستعمار والتبعية فكل تجربة ونضال يومي احترمه وبالمناسبة فإني أحيي المجهود الذي يقوم به مركز «سرسينا» للدراسات الجزرية من ندوات ولقاءات فكرية حول الجزر والشخصيات الوطنية كحشاد، وعزمه على بعث متحف يجمع فيه ما حاول الاستعمار طمسه والقضاء عليه، كما ادعو الى فسح المجال امام هذه الطاقات المسكونة بحب الوطن.