في نهاية كل سنة دراسية وخاصة بعد الإعلان عن نتائج الباكالوريا يتبلور السؤال الذي يعني الجميع، ويستقر في أذهان الفائزين وأهاليهم. إنه سؤال المستقبل: ماذا أختار لمواصلة تعليمي؟ هل أختار الشعبة التي تنتهي بي الى سوق الشغل بلا صعوبات وأجد عملا بلا عوائق، أم المهمّ من التعليم هو أنّ أكون متعلما ومثقفا وكفى؟ أسئلة تبدو عادية، وهي كذلك، إلا أن الاجوبة لن تكون عادية ولا هي سهلة التناول لأن المسألة تعني المستقبل. هذا هو الموضوع الذي تهتم به المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم «الألكسو» لانه يعني كل العرب، ولانه يندرج في مجال إختصاصها، ولأنه أيضا من مشمولات الخطة العربية لتطوير التعليم في الوطن العربي وهي الخطّة التي صادق عليها وزراء التربية في مؤتمراتهم التي تنضوي تحت اشراف هذه المنظمة العربية العتيدة. وفي هذا النطاق لم تنفك المنظمة باعتبارها مخبرا للتجارب والأفكار تعمل بجهد فائق لإعداد الدراسات التي تساعد الحكومات العربية على وضع برامجها التعليمية والتربوية. والحكومات العربية تحتاج فعلا الى البحوث في هذا المجال خاصة في السنوات الاخيرة التي تميّزت بتسارع التطوّر في المجالات التقنية والتكنولوجية والاتصال مما جعل التربية والتعليم موضع نظر دائم وتحقيق متواصل بحثا عن الجودة والكفايات اللازمة. والسؤال الكبير المطروح على الدول العربية هو السؤال نفسه الذي يحمله المواطن العربي مهما كان مستواه الفكري والثقافي: بماذا نطالب المدرسة اليوم؟ آخر دراسة تولّت المنظمة إعدادها بالتعاون مع خبراء تونسيين تؤكد في دباجتها أن المدرسة عموما والثانوية على وجه الخصوص مطالبة اليوم بالدرجة الاولى بتحقيق الاهداف التالية: تكوين عقول قادرة على طرح الاشكاليات وايجاد الحلول لها وعلى بناء المعرفة واستنباطها وتخزينها واستثمارها في مشاريع ذات علاقة بالحياة العامة. تأهيل التلاميذ للاندماج في سوق الشغل. ضمان تربية وتعليم يتسمان بالجودة، لكلّ الافراد مهما كانت وضعياتهم الاجتماعية والاقتصادية والعرقية والصحية. إرساء مفهوم المسؤولية لدى مختلف المتدخلين في القطاع التعليمي وإنماء مستوى التمهّن لديهم (من المهنة). ومن خلال هذه الاهداف نلاحظ أن التكوين في الثانوي وفق الدراسة لا يضع سوق الشغل في الصدارة على أهميته فالاهم وقبل كل شيء تكوين العقول القادرة على طرح الاشكاليات وعلى بناء المعرفة فإذا تحقق هذا الهدف الكبير والنبيل يصبح الشغل حينها اساسيا ولذا جاء في المرتبة الموالية. ولتحقيق الهدف الاول كان لا بدّ من اعداد المدرسة القادرة على تكوين عقول التلاميذ القادرة على طرح الاسئلة والاشكاليات وبناء المعرفة والابتكار فيها. ومن هنا يكون البحث في مسألة «الكفايات» اللازمة لخرّيجي التعليم الثانوي (بالباكالوريا او الثانوية العامة) الذي يتنزل في إطار ما أفرزته العولمة التي أزاحت الحدود الجغرافية بين البلدان والامم او هي تعمل على تحقيق ذلك بسرعة فائقة وأفرزه التقدم الملحوظ في مجالي التكنولوجيا ووسائل الاتصال في مختلف مناحي الحياة بما فيها الحياة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والسياسية وقد أفضى ذلك الى مساءلة النّظم التربوية في كل البلدان ومن جملتها البلدان العربية على قاعدة أن لا مكان لمن لا يسعى الى مواكبة التطور والعمل بقدر الإمكان على المساهمة في دفعه الى الأمام. وتقول الدراسة في مقدّمتها في ظل هذه الظروف التي يعيشها العالم كان لابد من مراجعة غايات التعليم ووظائف المدرسة وتوجهاتها والقيام باصلاحات النظم التربوية في اتجاه اعتماد مفاهيم جديدة منها مفاهيم الانتاج والمنافسة والجودة والزمن والجهد والربح وهي مفاهيم اقتصادية واجتماعية بالاساس فظهرت متزامنة مع ذلك انماط جديدة لادارة النظم التربوية منها اللامركزية واللاتمركز وانتشار التعليم الخاص. من هذا المنطلق اصبحت المؤسسة المدرسية تتحرّك نحو التخلي عن كونها مؤسسة لتلقّي المعرفة من اجل المعرفة واضحى التعليم كائنا عالميا مطالبا بالاستجابة لمتطلبات سوق الشغل. ولهذا فإن المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم ضمن خطتها لتطوير التعليم تسعى الى تقديم الخبرة للمساعدة على إصلاح التعليم الثانوي على قواعد جديدة ومنها قاعدة الكفايات اللازمة لخريجي التعليم الثانوي العام بالوطن العربي وذلك بالاستناد الى المرجعيات التالية: خطة العمل المستقبلي للألكسو (2010/2005) تونس مارس 2005 استراتيجية تطوير التربية العربية (2006) بتونس. خطة تطوير التعليم في الوطن العربي. المؤتمرات الوزارية لوزراء التربية والتعليم العرب. ويهدف هذا المشروع الى رصد الكفايات لخريجي التعليم الثانوي العام في الوطن العربي وتقديمها في شكل دليل موجّه الى العاملين في حقل التربية والتعليم وبخاصة في التعليم الثانوي العام وذلك لعدة اغراض لعلّ من أهمّها: المساعدة في وضع التعليم الثانوي العام في مستوى توجّّهات في مسار التقدّم الذي يشهده التعليم في البلدان التي حققت أشواطا في هذا المجال في ضوء المستجدات العالمية. المساعدة على رسم السياسات التعليمية والاستراتيجيات للتعليم الثانوي العام بما يتوافق مع انتظارات المجتمعات ومتطلبات نموّها، وهذا ما يجعل المؤسسة التعليمية في خدمة التنمية المستديمة للافراد وللمجتمع. الاستئناس بهذا المشروع في إعادة بناء المناهج التعليمية للتعليم الثانوي العام وفق أسس جيدة تخضع لفلسفة مدخل الكفايات ولمقتضيات العمل به. تطوير الطرائق التربوية المستخدمة في التعليم الثانوي العام بالاستئناس بالدليل لحماية المدرسين والمشرفين التربويين من الانزلاق في مداخل أخرى تختلف عن مدخل الكفايات. والكفاية لها تعريفات كثيرة، منها تعريف المفكر «تشومسكي» الذي يعتبر فيه الكفاية اللغوية نظاما ثابتا من المبادئ يمكّن من انتاج عدد لا نهائي من الجمل لها معنى في لغة معيّنة. اما المفكر «دينو» يرى ان الكفاية تتمثل في تكوين التلميذ ليكون قادرا على القيام بعمل عقلي معرفي. في حين أن الفيلسوف «جيلي» يرى الكفاية نظاما من المعارف المفهوميّة الذهنية والمهاريّة التي تتشكل في خطط اجرائية تمكن من التعرف على اشكالية محددة وتمكن أيضا من حلها بفعالية. وفي النهاية هي خبرة داخلية في شكل كل منهج يتكون من معارف ومهارات واتجاهات تتفاعل فيما بينها وتستنفر لانجاز مشروع او حلّ وضعية مشكلية مركّبة. وعلى إثر تسلّم معالي الدكتور محمد العزيز ابن عاشور، المدير العام للالكسو مهامّه الجديدة في شهر فيفري الماضي بعد انتخابه بالاجماع على رأس هذه المنظمة العتيدة واصل دفع المشروع العربي للاصلاح التربوي من منظور جديد اصبح الملاحظون يطلقون عليه الرؤية الجديدة للالكسو، وهي ذات مرجعيات صلبة وتوجهّات عقلانية. فهو يرى ان الالكسو تسعى للمساهمة في نحت شخصية عربية حديثة تكون قادرة على مواكب العصر معتزة بأصولها وبلغتها وآدابها مطلعة على تاريخ الحضارة في الوطن العربي اطلاعا صحيحا بعيدة عن الافراط في المحافظة على ما جاء به السلف دون الوقوع في الانسلاخ الذاتي متعلقة بمبادئ الانفتاح والوسطية وحبّ المعرفة مستضيئة بنور العقل متجنّبة السلوك العاطفي فتكون هذه الشخصية العربية المنشودة واعية بضرورة الاستفادة من التجارب العالمية في مجالات الثقافة والتربية والعلم ومستعدة للحوار مع الآخرين والانصات الى آرائهم قادرة على الاسهام في مسيرة التنوير والتقدم. ويقول: إن تأكيد مجال الثقافة يكون بالتوازي مع الاهتمام بالتربية والعلوم باعتبارهما عنصرين أساسيين في عمل المنظمة بل وفي مصير الذات العربية في عصر العولمة فالبرامج المتعلقة بها تحظى بأولوية تامّة تنفيذا لقرارات سامية من لدن قادة الدول ناهيك بخطة تطوير التعليم في الوطن العربي وبرنامج النهوض باللغة العربية في التوجه نحو مجتمع المعرفة في نطاق ادارة التربية فضلا عن البرامج العلمية والتطبيقية رفيعة المستوى التي تقوم بها ادارة العلوم.