تكمن أهمية الحلقات التي خصصتها مؤسسة التميمي للبحث العلمي والمعلومات للاستماع إلى شهادة المدعو احمد بن نصير التليسي في تسليطها الأضواء على حقبة زمنية وتاريخية غامضة في تاريخ تونس، لذلك انتظرنا منذ البدء وتمنينا أن تسهم هذه الشهادات في كشف الأشياء بمسمياتها بلا تنميق وبعيدا عن دبلوماسية الخطاب التي تعودنا بها في مثل هذه المنابر كلما كان موضوع الشهادة التاريخية على درجة من الحساسية والخطورة. وهل هناك اخطر وأعظم، من أن نتحدث عن مواطنين تونسيين تعرضوا للتعذيب في فترة الصراع البورقيبي اليوسفي على خلفية مناصرتهم لبن يوسف ومعارضتهم للحبيب بورقيبة أول رئيس للجمهورية التونسية. ولان المدعو احمد بن نصير التليسي الذي حولته مؤسسة التميمي إلى شاهد موثوق به على العصر ونصبت له الكراسي والطاولات ووفرت له الأجواء المناسبة حتى تتفتق قريحته ويستعيد بثبات مجريات أحداث مازلنا حتى اليوم نبحث عن تفاصيلها، قد كشف علنا وبوضوح انخراطه المباشر في إطار المسؤولية التي كانت مناطة بعهدته في تعذيب الوطنيين اليوسفيين والزج بهم في غياهب السجون، فقد شكل اعترافه هذا دون شك سابقة نوعية في تاريخ الحركة الوطنية ستجعل من التليسي أول مسؤول يصف نفسه بالجلاد ويقر بوجود انتهاكات و تعذيب بلا رقيب ولا حساب، واني استغرب بشدة في هذا السياق محاولة البعض تجميل ماجاء على لسان التليسي والخروج به من دائرة التأريخ للتاريخ إلى وصف لا يتجاوز حدود التنظير رغم أن مؤسسة التميمي قائمة بالأساس على التأريخ وليس على الدجل وتوثيق شهادات السذج التي يمكن أن ينطق بها طفل في العاشرة من عمره! أقول هذا الكلام لان فداحة ما اقترفه التليسي بحق مواطنين تونسيين أصبح منذ الإدلاء بشهادته مفصل من مفاصل تاريخ تونس المعاصرة ويجب التعامل معه على هذا الأساس والبناء عليه، وأولى الخطوات الواجب إتباعها الشروع في قراءة قانونية صرفة لكل كلمة جاءت على لسان التليسي تتعلق بالتعذيب والتجاوزات والانتهاكات المادية والمعنوية التي تعرض لها مواطنون تونسيون ورجل القانون الأستاذ القدير محمد رضا الاجهوري كان محقا حين طالب بضرورة محاكمة التليسي المتهم حسب رأيي قبل التعذيب الذي أتى عليه الأستاذ الاجهوري بالتحايل على التاريخ والتاريخ الممنهج للتعذيب!! إن مجرد العودة إلى اعترافات الشاهد على عصر الانتهاكات والتعذيب احمد بن نصر التليسي يثير عديد الإشكاليات القانونية التي أتى عليها الأستاذ الاجهوري بإحكام لكنني سأضيف شيئا مهما وهو: ماذا لو تقدم احد الضحايا ممن هم على قيد الحياة بادعاء قضائي ضد المدعو التليسي اعتمادا على مبدأ الاعتراف سيد الأدلة أو أن المتهم بريئا حتى تثبت إدانته! في حين نجد أن التليسي قد أدان نفسه بكل الفصول واللغات وعلى منبر يعتمد التسجيل الصوتي والمرئي والمدون ولم يترك لنفسه منفذا واحدا لتبرئته. وهذا ما يجعل شهادة التليسي تتجاوز كونها لحظة مكاشفة واستحضار لأحداث مضت، إلى تأكيد حدوث جرم بحق مواطنين تونسيين وهذا الجرم لا يخضع لمنطق النسبية أو التقادم أو التجاذب أو الاختلاف، انه جرم واضح وعقوبته واضحة وإجراءاته أوضح وهي استدعاء التليسي لمواصلة الإدلاء بشهادته أمام النيابة العمومية انتصار لضحايا التعذيب واحترام لعلوية القانون وحفاظا على مكانة الأفراد في مجتمع يؤمن شديد الإيمان بحقوق الإنسان. وعلى عكس ما أوحى به السيد عبد الحميد مصباح في تفاعله مع شهادات التليسي على أعمدة جريدة الصباح التونسية وذلك حين حذر من مغبة الاستهداف القضائي للتليسي وغيره ممن لهم شهادات تاريخية خوفا من طمس «تفاصيل أحداث تاريخية في غاية الأهمية بالنسبة إلى جيلنا وبالنسبة للأجيال القادمة» أو قوله أيضا «والاستفادة من أمثال التليسي ممن لهم شهادات تجيب عن أسئلة لا احد سواهم قد يجيب عنها». فانا اعتبر ذلك لا يصب إلا في خانة دعم أصحاب المغالطات التاريخية ممن يفتقدون الأهلية المعرفية والمرجعية والقانونية والأخلاقية لإنصاف التاريخ بشهادات تستجيب لمقاييس الثبات والدقة والموضوعية كما انه سيفتح الباب أمام كل من هب ودب لارتداء جبة التأريخ والمتاجرة بالتاريخ!وليس أدل على ذلك من أن التليسي نفسه صاحب الاعترافات الشهيرة بالتعذيب قد تراجع عن اعترافاته بمجرد أن بلغه رأي الأستاذ الاجهوري في حلقاته. فكيف لنا إذن أن نستأنس بشهادة هذا الشاهد على العصر وان نعتمدها أكثر من ذلك أساسا في التاريخ لمرحلة من مراحل تونس المعاصرة اصطلح على تسميتها بمرحلة التعذيب؟ إن مكمن الخطورة في شهادات التليسي على منبر الذاكرة الوطنية بمؤسسة التميمي لا يتوقف فقط عند اعترافه الصريح بممارسة التعذيب ضد ذوات بشرية لأسباب سياسية بحتة، وإنما تتعدى ذلك إلى المس من رمز وطني هو الزعيم الراحل الحبيب بورقيبة الذي حوله التليسي بشهادته المشكوك فيها أصلا إلى المحرض الاول على التعذيب والمشرف عليه والمتحكم في ملابساته، وهذه الحقيقة استغرب كيف غابت عن كل الرموز والمناضلين الوطنيين الذين عايشوا بورقيبة بمن فيهم اشد منتقديه ولم ينتبه لها سوى المناضل احمد التليسي. وهذا ما يجعلني في الأخير اشد في كل ما جاء على لسان التليسي والتعاطي معه كونه فبركة تاريخية باستثناء حقيقة واحدة ساطعة وهي اعترافاته بتعذيب الغير وهذه تهمة لا تحتاج إلى إثبات ولا تسقط بالتقادم وتحتاج فقط إلى فتح تحقيق بشأنها!!