جدّي الذي صرتم تعرفونه من خلال بعض الأمثال التي ينطق بها تعليقا على هذه المسألة أو تلك، روى لنا ذات مرّة حكاية رجل فقير، أو هو يبدو كذلك، رق الأجوار لحاله فبنوا له بيتا يقع أعلى ربوة تقع هي الأخرى وسط الحي. لم يأت اختيار الموقع لإمتياز أو لتبجيل ما، وإنّما فقط لأنّ الربوة ليست ملكا لأحد، كما لم يخطر ببال أحد أن يستولي عليها أو أن يستغلها لخاصة نفسه. أمّا البيت، فهو عبارة عن غرفة يتيمة، طويلة بلا عرض، لكن بها بابان، يفتح الأوّل شمالا والثاني جنوبا، وشبّاكان، يفتح الأوّل شرقا والثاني غربا. لم يكن في الأمر تخطيطا ولا نيّة مبيّتة، ولا استراتيجية مسبقة، بل إنّ الرجل اضطر إلى ذلك بعدما تبرّع له اثنان من كبار القوم في حيّه بالبابين والشبّاكين في نفس الوقت، فأمر البنّاء بتركيبها كلّها حتّى لا يُغضب أحدًا من أصحاب الفضل عليه، ثمّ انّ الرجل كان فقط في حاجة إلى سقف محل يستره من الفضوليين ويقيه برد الشتاء ولظى الصيف ويمكّنه من النوم. أمّا الاستقبال والاستضافة ومازاد عن ذلك من شؤون المنزل وغيرها من الحاجات فتتمّ خارجا، مادام »المخبّى عالأحباب عذاب«. استمرّ الحال على نحو عادي بعض الوقت، وتحديدًا إلى أن حصل للرجل حادث اضطره لملازمة البيت بما أنّه أصبح لا يقوى على أيّ عمل مضنٍ. وحيث أنّ ظروفه الماديّة تدهورت، اضطر إلى أن يرسل ابنته الصغيرة كلّ مرّة إلى أحد الجيران محمّلا إيّاها رسالة شفوية لا تزيد عن السلام والسؤال عن الأحوال. ولمّا لم تنفع هذه الطريقة حيث صعب على صاحبنا أن يعبّر عن حاجته عن طريق ابنته، مجنّبا إيّاها أيّ مكروه، ابتدع طريقة تجعله يجلس مباشرة وحسب الحالة، إمّا وراء هذا الشباك أو وراء ذلك الباب. وكلّما رأى أحدهم مارّا، مدّ رأسه إلى الخارج وحيّاه بحرارة وسأل عن أحواله واستدرجه للحديث عن الطقس والأمطار التي لم تنزل وغلاء الأسعار والساعات الخصوصيّة ومقابلات الكرة و»المترو« الجديد والحافلة المجنونة والفانوس المعطّب مرورًا بالتقاعد والتأمين على المرض والجامعة العربية والمجلس الاقتصادي والاجتماعي وقفزة وكوريا الجنوبية وصواريخ كوريا الشمالية نهاية ببطالة أصحاب الشهادات العليا وتدهور المقدرة الشرائية وهبوط أسعار النفط، حتّى إذا ما همّ العابر بمواصلة السير، أوحى له بحاجته أو بعض ما يحتاجه. في أحد الأيّام، جاءه أحد كبيري الحي وسأل عن أحواله ومدّ له مبلغا مهمّا من المال لم يتبيّن قدره بعد، حتّى أضاف الكبير بأنّه قابل للزيادة متى حصل منه على الخدمة التي يحتاجها. ردّ بسرعة: وماهي؟ بسيطة فماهي؟ أن تترك هذا الشباك مفتوحا باستمرار. وهو كذلك دائما. وأن تجلس وراءه باستمرار. وهذا ما أنا فاعله. وأن ترصد حركة فلان بالتفصيل. ولكنّه وليّ نعمتي. لم أطلب منك أن تؤذيه. وكيف أرصد حركته وأنا قليل الحركة؟ الحكمة أن لا تتحرّك بل أن ترى وتحصي. فماذا سأحصي؟ كم يدخل من مرّة وكم يخرج؟ كم عدد الأكياس؟ كم عدد »الكراتين«؟ من يزوره؟ رجال أم نساء؟ مواطنون أم أجانب؟ عرب أم فرنجة؟ يلزمني إدارة لمثل هذا العمل. على قدر المعلومات، أزيدك المال. اتفقنا؟ باشر الرجل عمله وشيئا فشيئا، أصبح ملمّا بكل ما يجري أمام عينيه. ولفرط ما توفّر عنده من معلومات، صار يفرّط في طلب المقابل وزاد فأصبح يتفنّن في صياغة المعلومات وتبويبها وتأويلها. استمرّ به الحال إلى يوم جاءه فيه كبير آخر وطلب منه فتح الشبّاك المقابل والجلوس أمامه ليقدّم له خدمة. سأله بلهفة: وماهي؟ بسيطة فماهي يا صاحب الفضل؟ أن تترك هذا الشباك مفتوحا باستمرار وأن تجلس وراءه باستمرار وأن تحصي عدد الغادين والرائحين والكراتين والعلب والسيارات والنساء والبنات. ولكنّي مطالب بالجلوس أمام الشبّاك الآخر الذي كلّفني به فلان ثمّ أنّ الرجل أحسن إليّ. لا اعتراض لديّ ثمّ إنّني لا أتمنّى له ضررا، فقط ما طلبت منك. ليس طلبا قليلا... سأدفع لك ما يلزم. ولكن... بل سأدفع لك المزيد. طيّب، ولكن. أنا من يشترط. وهل عندك شرط فماهو؟ لم يجب، بل وجم واستغرق يفكّر في الأمر واستقرّ قراره في الأخير على أن يفتح الشبّاك الأوّل عند الحاجة إليه وأن يغلق الشبّاك الثاني عند الحاجة إليه أيضا، بما أنّ فتح الشبّاك الأول يخدم أحد الكبيرين وغلق الشبّاك الثاني يخدم مصلحة الثاني. ولأنّه أصبح غير مستقرّ على شبّاك، فقد تناقصت أخباره ومعلوماته وتضاربت في بعض الأحيان، كما انكشف زيف بعضها بما أنّه كان يلجأ في مرّات كثيرة إلى اختلاقها. وازدادت الصعوبة بحكم قلّة الحركة وبالتالي عدم التوفيق بين الطلبين، فالأوّل، كما أسلفنا، يفرض عليه فتح الشباك حتى يرى ما يجري والثاني يفرض عليه اغلاق الشباك حتى لا يرى ما يحصل أمامه. المهم أنّ الصعوبة ازدادت على ما كانت عليه، والمداخيل تناقصت فيما أخذ شبح الأزمة يطرق أبوابه. فيالها من فضيحة في الحيّ لو علم الناس بمحتوى خدماته للكبيرين!! ويالها من كارثة لو علم الكبيران ان خفايا كلّ منهما وأسراره تنقل للآخر، أوّلا بأوّل! بعد طول تفكير، اهتدى إلى حلّ ظنّ أنّه كفيل بإنقاذه، وهو فتح البابين. همّ بفتح الباب الأوّل وما أن فعل حتّى مثل الكبيران أمامه، غير بعيد عنه، وهما جالسين يتحدّثان ويراقبان معا حركة شحن وتنزيل تنطلق من وراء الشبّاك المغلق، وتمرّ أمام الشبّاك المفتوح، لتذهب إلى حيث لا أحد يعلم. تابع الحركة لمدّة من الزمن، فهم بعدها أنّ الكبيرين يعملان معا، وأنّهما يصبّان في نفس المصلحة فأصابته اغماءه حادّة كادت تذهب به إلى الأبد. لما أفاق من تلك الغفوة، وجد جدّي مستمرّا في روايته إلى من تحلّق حوله.. نبهته إلى الاطالة التي يسقط فيها على غير العادة، فانتصب واقفا وهو يردّد »ينوء الجمل بما حمل ولا يئنّ، فيما يموت غمّا من يراقب النّاس، وكمدًا من يحسب عليهم الأنفاس«!