«ماتت زوجتي ولم يمت حبي لها، الحياة في نظري انتهت والفرح لن يجد طريقه الى قلبي بعد اليوم، اختطف مني القدر أحلى شيء في حياتي زوجة لا مثيل لها في هذا الوجود..» تنقطع العبارات بمحدثنا الطاهر وتخنق الغصّة صوته وتمتلئ عيناه بدموع يحبسها كبرياء الرجال ثم يواصل «توقفت الحياة يوم وفاتها وانهار كل شيء من حولي وأنا أراها تذبل يوما بعد يوم بعد ان فتك بجسمها الجميل المرض الخبيث».. الطاهر ضابط سام متقاعد تحدث بحرقة وألم لوقت طويل عن زوجته التي فقدها منذ أقل من شهر حتى خلنا ان الوفاء لذكرى الزوجة لم يملكه غير هذا الرجل وقد كان يقصّ علينا أدق التفاصيل.. لقاءهما الأول وقصة حبّهما الكبير منذ أيام الدراسة عندما كان يقرأ عليها أبيات الشعر وتقابله بإبتسامة يعشقها وبهدوئها المعتاد ويمعن في الحكايات والقصص وتسمعه بشغف واهتمام دون أن تقاطع كلامه وكأنه يقول الحقيقة المطلقة رغم أنها تعرف انه كان يضيف ويختلق بعض الحكايات قصد إضحاكها.. يقول الطاهر وهو يتحدث عنها بحشرجة تعتري صوته «كنت أحبها عندما تضحك وعندما تغضب.. لم نكن نحسب أن تقسو الحياة علينا بهذا الشكل فكرنا في كل شيء إلا المرض.. كانت حياتنا عادية وسعيدة جدا.. عشت معها الحلو والمرّ وأنجبنا الأطفال وسهرت على تنشئتهم على أسس صحيحة».. هذه المرأة الفاضلة سخرت حياتها لزوجها ولأبنائها لم يكن يهمّها شيء في الدنيا سوى أسرتها الصغيرة.. هي جامعية ومن عائلة مثقفة وعريقة.. كثيرة الصمت وجدية في طبعها.. متّقدة الذكاء ومؤمنة الى حدّ كبير يقول الطاهر «كنّا نلتقط منها بعض عبارات لهجة الوطن القبلي الجميل لنستفزّها فتدافع بإبتسامة عن لهجتها ويذهب ابني الأكبر لإرضائها وقد كان يناديها هتلور نسبة الى هتلر فهي لا تقبل أي إخلال في المحافظة على نظافة البيت وإتمام الفروض المدرسية».. يتوقف الطاهر هنيهة ويواصل بعد تنهيدة عميقة «هي إمرأة من الزمن الجميل.. هي المرأة التي عرفت ولا أريد أن أعرف بعدها أي أنثى أخرى.. قضيت معها 26 سنة و5 أشهر و10 أيام و5 ساعات واختطفتها مني يد المنون وقد شاء القدر أن تصاب بنفس المرض الذي أصاب والدتها وتعالج في نفس المصحّة».. بداية المأساة وفي يوم لم ينساه الطاهر طوى به الزمن أيام السعادة وبدأت المأساة حين أعلمته انها مصابة بالسرطان بدأت المعاناة والألم وبين الأمل تارة واليأس تارة أخرى تسلّح الطاهر بصبر وجده أكبر لدى زوجته المؤمنة وراح يجوب بها بين الأطباء والمستشفيات وينفق عليها دون حدود آملا في أن تنقشع هذه الغمامة وتعود البسمة لأبنائه.. الرحلة بدأت من مستشفى مختص في علاج مثل هذه الأمراض.. يقول الطاهر «رأيت مشاهد مؤلمة.. طوابير من المعذبين يترقّبون أدوارهم منذ الفجر لعلّهم يلتقون بأحد الأطباء الذين لا يأتون قبل العاشرة صباحا.. دخلت وزوجتي وتحدثنا الى الطبيب واطلع على ملف زوجتي وقال ان الحالة ليست سيّئة ويمكن التغلّب عليها ووضعوني بين خيارين اما أن أعالج في المستشفى وهذا يأخذ وقتا طويلا أو أن ألتجئ الى مصحة ولم أبخل على رفيقة دربي بالخيار الثاني.. راسلت أعلى هرم في السلطة فكانت الإجابة أسرع مما توقعت إذنا بالتكفّل بحالة زوجتي وعند بلوغنا المصحّة استقبلنا الجميع ببشاشة فيها الكثير من التكلّف وعندما التقينا بالطبيب المسؤول بشّرنا بالشفاء وتغيّرت ملامحه عندما دخلت الكاتبة فسلّمته ملف زوجتي وثارت ثائرته عندما عرف ان الدفع لن يكون نقدا ولكن عن طريق «الكنام» وهو ما يأخذ وقتا.. هذا السلوك حزّ في نفس زوجتي وهمّت بالخروج باكية وهي تقول «لا انت ولا غيرك سيشفيني فالله وحده قادر على شفائي».. وحاولتُ تدارك الموقف وبعد طول إنتظار خضعت للعملية.. عملية لم تدم أكثر من 20 دقيقة خرج بعدها الطبيب ليقول لي ان أمر المرض قد انتهى وقد استغربت قائلا «لماذا لم يتمّ إزالة كامل الرحم» وأكّدت الى أنني في حاجة الى أم لأولادي وليس لزوجة ولكن الطبيب برّر لي قائلا هي أنثى وليس من المعقول أن نزيل لها رحمها فهذا يؤثر في نفسيتها ولنترك الأمر للعلاج التكميلي. الوداع الأخير كل يوم كان يمرّ على زوجة الطاهر كان يزيد من معاناتها وخوف أبنائها من أن ترحل عنهم وتترك فراغا لا يسدّه غيرها كانت تخضع للعلاج الكيميائي وبدأت تظهر آثاره على جسمها وشعرها ولكن الطاهر لم يرد تصديق فكرة الفراق رغم أن حبيبته كانت تموت في اليوم ألف مرّة وهو عاجز على أن يفعل أي شيء.. وجاء اليوم الذي أعلن فيه الطبيب خبرا للطاهر نزل عليه نزول الصاعقة وهو أن المرض لم يعد بالإمكان السيطرة عليه.. هذه المرحلة يتذكّرها الطاهر ويقول «اقتربت ساعة الأجل.. واستحضرت بيت شعر وأنا أمسك بيدها فحركت يدها اليسرى متلذذة بقولتي.. دمعت عيناي وحاولت إخفاء دموعي عنها.. أغفاني النعاس وأفقت في جوف الليل على طرق في الطابق العلوي.. تفقدت زوجتي فوجدتها تحملق في السماء.. احتضنتها وطلبت مني أن أوصي إبنتي وإبني بأن يأتياها بالديبلوم ولم تقل لي الى أين سيأتيان لها بهذا الديبلوم.. ونقلتها سيارة الإسعاف وعند آذان الفجر سمعت قرآن المساجد وقبلها بقليل لفظت أنفاسها الأخيرة.. دفنتها ودفنت روحي معها