"خضرة" العجوز اليهودية التي تجلس كل صباح في شارع الشاذلي قلالة بالعاصمة تونس ترتشف قهوتها لا يعنيها جدل الدستور حول "الهوية العربية الاسلامية" و لا "التطبيع مع اسرائيل" و لا حتى "خطر السلفية" و هي التي تخلط في هذه الكلمة الأخيرة السين بالشين .. و بين رشفة قهوة و أخرى تضحك ملء شدقيها كاشفة عن بقايا أسنان عمل فيها الزمن و السجائر فعلهما .. خضرة مثل غالبية بنات و أبناء جلدتها من اليهود التونسيين الذين مازالوا يعيشون بيننا تعتبر نفسها جزءا من هوية هذه البلاد وأكثر حبا لها ربما من بعض الملتحين والمخمورين .. وحينما تسألها عن إمكانية حمل حقائبها في صورة خطر داهم ترد عليك "أنت مهبول" (مجنون باللهجة التونسية) .. أنا سأبقى هنا .. وسأموت و ادفن مع أجدادي في مقبرة الحاخام " بورجل" في شارع خير الدين باشا في قلب تونس. قد لا تعكس الحواجز و الأسلاك الشائكة وعناصر الجيش والشرطة المحيطة بالكنيس اليهودي الكبير بشارع الحرية بالعاصمة بعضا من هدوء " خضرة " و راحة بالها غير أن العديد من مسؤولي الطائفة اليهودية لا يخفون بعضا من خشيتهم من المستقبل وما تخفيه الأيام لهم و خاصة في ظل الاعتداءات و أحداث العنف التي لم يسلم منها حتى المواطنون المسلمون أنفسهم من قبل مسلمين آخرين من مواطنيهم . يهود .. تونسيون أولا "لا شك أن هناك أجواء لا تساعد على التعايش تقف وراءها أطراف ترفض مقولة التسامح و تريد أن تجعل من هوية الشعب ذات لون واحد و بالتالي فهي آليا تقصي الأخر" يقول "جاكوب ليلوش" رئيس جمعية " دار الذكرى" اليهودية التي تأسست بعد قيام الثورة و التي وضعت من ضمن اهتماماتها " صيانة التراث اليهودي التونسي والحفاظ عليه ولم لا إحياء مكون الثقافة اليهودية التونسية التي تمتد إلى ثلاثة الاف عام " يقول " ليلوش". ويعيش في تونس في الوقت الحالي حوالي ألف وخمسمائة يهودي موزعين على العاصمة وجزيرة جربة التي ينتصب فيها ضريح القديسة اليهودية الغريبة التي يحج لها الاف اليهود من مختلف انحاء العالم كل سنة. لا شك أن " جاكوب ليلوش " و أمثاله في الطائفة اليهودية و غيرها من الأقليات التي تضمها البلاد يقر بغلبة معطى الهوية العربية الإسلامية للبلاد و لكنه يعتقد أنها هوية و كما يقول " فسيفسائية و متنوعة الروافد و لا يمكن أن نحصرها في عنصر بعينه " و لا يتردد " ليلوش " في القول انه إذا كان لا بد من المحافظة على الفصل الأول من الدستور الذي يقول " بالإسلام كدين الدولة " فانه لا بد من المحافظة كذلك على الفصل الخامس من ذات الدستور الذي يقول بضمان الجمهورية " لحرية الفرد حرية المعتقد " لليهود و لغيرهم . سياسيا لا يرى" ليلوش" أن هناك طرفا سياسيا بعينه يمكن أن يكون صوتا ليهود البلاد فكل حزب يضمن الحريات العامة و الخاصة يمكن أن يكون ممثلهم في انتخابات المجلس التأسيسي. و حول التخوفات من الإسلاميين يقول " ليلوش" نحن لا نخاف أحدا .. لا من النهضة و لا من أنصار حزب التحرير و لا من غيرهم " و يضيف " لأنهم إذا كانوا مسلمين حقيقيين فإنهم سيحترموننا كمواطنين تونسيين لان القرآن يأمرهم باحترامنا و إذا كانوا غير ذلك فلا مكان لهم في هذه البلاد لأنه لا علاقة لهم بالإسلام "! و يقدم" جاكوب ليلوش " نفسه بكونه "سليل عائلة عمرها ثلاثة الاف سنة سكنت حلق الوادي في الضاحية الشمالية للعاصمة أي أنها جاءت إلى تونس قبل مجيء المسيحيين و المسلمين و الفرنسيين" . اغراءات اسرائيل و في حديقة مطعمه في مدينة " حلق الوادي " يجلس" جاكوب " بين طاولات شبه خاوية تقريبا من الزبائن وهي الطاولات ذاتها التي كانت تعج بالعشرات من السياح و المهاجرين اليهود التونسيين القادمين من اتجاهات الدنيا الأربعة من اجل متعة "صيف حلق الوادي" غير أن الأوضاع الأمنية الهشة في السنوات التي اعقبت الثورة منعت المئات من يهود المهجر من العودة إلى البلاد و هي الأوضاع ذاتها التي حدت في شهر ماي الماضي من الطابع الاحتفالي الجماهيري لمهرجان "الغريبة " اليهودي السنوي بجزيرة جربة والذي كان يحضره حوالي ستة الاف يهودي تونسي من مختلف أنحاء العالم. و لكن إذا لم تكن هناك رحلات قادمة إلى تونس حاملة ليهود المهجر التونسيين فهل هناك رحلات خارجة من تونس تحمل اليهود التونسيين إلى الخارج خشية من تدهور الأوضاع الأمنية ؟ مسؤول في الجالية فضل عدم ذكر اسمه يقول "لم نسجل إلى غاية اليوم أي حالات هجرة غير أن بعض مبعوثي وكالة الهجرة اليهودية القادمين من بلدان أوروبية لم يتوقفوا عن إغراء بعض الفقراء من اليهود التوانسة و تخويفهم من البقاء في البلاد ". رئيس الطائفة اليهودية بتونس " روجيه بسميث " كان قد نفى في وقت سابق "أي رغبة لليهود التونسيين في ترك بلادهم " وقد طلب " بسميث " في ذلك الوقت من الحكومة الإسرائيلية التوقف عن أساليبها الاغرائية من اجل تهجير اليهود التوانسة إلى إسرائيل وعرض مساعدات مادية سخية لتشجيعهم على الهجرة و اعتبر بسميث وقتها " أن اليهود التوانسة هم تونسيون أولا وأخيرا " . في هذا الملف بالذات أي في العلاقة بإسرائيل يقول الباحث التونسي في الجالية اليهودية التونسية محمد العربي السنوسي " من المهم القول ان العدد الكبير من اليهود التوانسة الذين خرجوا في موجات الهجرة السابقة كانت وجهتهم الأساسية فرنسا وعدد قليل منهم من اختار إسرائيل كوجهة أولى ". و حول إمكانية حصول عملية "هجرة جماعية ليهود تونس عن البلاد" يقول السنوسي" لم نصل بعد إلى مرحلة الهجرة الجماعية من البلاد في الوقت الحالي و لا أتوقع أن تحصل في هذه الفترة على الأقل هجرة يهودية إلى خارج البلاد لان غالبية يهود البلاد هم من كبار السن الذين يرون أن مصيرهم ارتبط بهذه البلاد". ويضيف السنوسي ان "التجربة التاريخية أثبتت أن موجات الهجرة العديدة لليهود التونسيين كانت لأسباب اقتصادية أكثر منها لأسباب سياسية" و يوضح السنوسي أن " الأعداد الكبيرة من اليهود التي خرجت عقب تجربة التعاضد (المرحلة الاشتراكية في تونس) كانت أكثر من الأعداد التي هاجرت بعد أحداث العنف التي ارتكبت ضد بعض اليهود عقب حرب جوان 1967 و التي شهدت حرقا لجزء من كنيس الحفصية في المدينة العتيقة للعاصمة". اليهودي الاخير من جهته يقول "جاكوب ليلوش" لم ألاحظ في محيطي أي في مدينة "حلق الوادي" أية رغبة من يهود المدينة و البالغ عددهم حوالي 50 شخصا الهجرة من البلاد " غير أن " ليلوش " يقر بأمر مهم و هو " أن الجالية اليهودية التونسية و إذا تواصلت الأوضاع على ما هي عليه مرشحة للاندثار و " يفسر قائلا " بان 75 بالمائة من اليهود التونسيين البالغ عددهم حوالي 1500 شخص والمتركزين بين جزيرة جربة و العاصمة معدل اعمارهم هو ال 65 سنة وبالتالي فإن الشيخوخة تغلب على الطائفة اليهودية وهي غير متجددة شبابيا و بالتالي فان "الذوبان التاريخي" يتهددها إذا لم تتخذ الحكومة التونسية الحالية و القادمة خطوات من اجل تجديد هذه الجالية و تشجيع مواطنيها التونسيين اليهود المقيمين في الخارج على القدوم و الاستقرار و الاستثمار بالبلاد ". بالرغم من كل شيء فان " جاكوب ليلوش " يقول انه متفائل " بأجواء الحرية التي تعيشها البلاد و هي الأجواء ذاتها إذا ما نجحت التجربة الديمقراطية التي من شانها أن تشجع العديد من يهود المهجر و خاصة الأجيال الجديدة منهم على العودة و الاستقرار بالبلاد " و لا يتردد " ليلوش" في التشكيك في أجواء الحرية التي كان يعيشها اليهود أيام الرئيس السابق و يقول " انه في أيام بن علي لم يكن بإمكاني أن أؤسس هذه الجمعية التي أسستها اليوم " و يبين انه لما كان يلتجئ إلى إدارة من الإدارات من اجل قضاء أمر ذي صبغة عامة فان الجواب الذي كان يتلقاه على الدوام " ليس من مصلحة اليهود و مصلحتك أن تظهر كيهودي في الصورة " أي باللغة العامية التونسية و كما يقول " جاكوب " نسيهم في روحك ". لا شك أن الرئيس السابق ساهم بالنسبة للعديد من مسؤولي الطائفة اليهودية في إظهارهم " كمواطنين غير عاديين " عن طريق تكثيف الحراسة الأمنية على مراكزهم و معابدهم و هي الصورة ذاتها التي كان يستعملها النظام السابق للرأي العام الغربي و للسياح الأجانب من اجل إثبات انه " حامي حمى يهود تونس " و هي صورة أضرت كثيرا بصورة "اليهود التونسيين " أمام مواطنيهم من " المسلمين التونسيين". و عن تصريحات الحاخام الأكبر " حاييم بيتان " والتي ساند فيها ترشح الرئيس السابق لانتخابات 2014 فإنها لا تعدو كونها بالنسبة للعديد من مسؤولي الجالية اليهودية " تصريحات سياسية " و فضلا عن كونها لا تعبر عن مجمل اراء الطائفة فإنها يمكن أن تدرج ضمن الاف المناشدات التي أعلنها مواطنون و شخصيات متدينة مسلمة و علمانية و غيرها و التي جاءت في نفس السياق الخاص الذي عاشته البلاد في تلك الفترة . بعيدا عن تبريرات الرسميين و هموم و مخاوف السياسيين فان الجمهور الأعظم من الطائفة اليهودية في تونس له اهتمامات أخرى على غرار " خضرة " العجوز اليهودية في شارع " الشاذلي قلالة " التي تردد كلما سئلت عن رأيها في السياسيين انهم كلهم بالدارجة التونسية " باهيين " (جيدين) و لكنها تردد مقولة للحاخام السابق " حاييم مدار "التي يقول فيها "ان يهود تونس عياشة و لا تهمهم السياسة ". فخضرة مثل غيرها من فقراء اليهود التونسيين الذين يعيشون على الكفاف و على صدقات الجمعيات اليهودية لا تعرف معنى كلمة "هوية " و لا "تطبيع" و إذا كانت الكلمة الأولى تذكرها بجباية "الهلوية" التي تقطع من أموال أغنياء اليهود لتعطى لفقرائهم فان الكلمة الثانية تذكر سمعها المتعب ب"صاحب الطابع " في الحلفاوين حيث كان المسلمون و اليهود يتعايشون بسلام .. أو " بشلام " كما تنطقها عجوز السبعين.