سنحاول الإجابة عن سؤال يؤرق كل تونسي : من يحكم تونس اليوم ؟ أ- فوق الطاولة : * على معنى أحكام الدستور التونسي الجديد، السلطة متشظية بين عدد من دوائر القرار: مركزها "القصبة" وأطرافها المكوكية تتوزع بين "قرطاج"، "باردو" ومختلف الهيئات القضائية والدستورية... * على معنى المخيال الجمعي العام تتمحور السلطة حصرا فى شخص الحاكم بأمره، القائد المنقذ القابع "بقصر قرطاج" وذلك لما يستبطنه "قرطاج" من حمولة سيكولوجية وتاريخية جمعية مكثفة.. فممارسة السلطة بأبعادها المادية وتمثلاتها الاعتبارية عند العامة وقسما من النخب تخضع لمعادلة بسيطة لا غير : (السلطة = قرطاج)... * على معنى الحراك القطاعي والاجتماعي، فشروط أهلية ممارسة السلطة من عدمها يتوقف على الإشارات المرورية لحراس معبد "بطحة محمد علي"... ب- تحت الطاولة: * على معنى يوميات 14 جانفي 2011 والى يوم الناس، إحداثيات معادلة السلطة اختلفت بالكامل ... فاختزال المشهد السريالي/ الانتقالي الراهن فى صراع فرض الإرادات المعلنة والخفية بين مراكز القرار والنفوذ المعروفة (قرطاج، القصبة، باردو وبطحة محمد على) تحجب عنا إمكانية التعرف عن حكام تونس الحقيقيين.. الماسكين أكثر من غيرهم بقواعد اللعبة،، المتمترسين داخل بيوتنا عبر شاشات التلفاز وموجات الأثير، نتفاعل مع تغريداتهم وتدوينتهم الفايسبوكية، نصطف خلفهم أحيانا ونشتمهم أحيانا أخرى لكننا لا نقدر على الانفصال عنهم، إنها سلطة الإعلام يا صديقي وما أدراك ما الإعلام ... * بالأسماء المستخرجة من سجل الحالة المدنية هم على التوالي : محمد بوغلاب، لطفي لعماري، مايا القصورى، زياد كريشان، حمزة البلومى، خليفة بن سالم، نوفل الورتانى وبرهان بسيس قبل أن يفضل على عادته الاحتراق بنار السياسة مجددا الخ * بالأسماء الاعتبارية : "موزاييك"، "شمس أف م" وعددا من الإذاعات الجهوية إلى جانب المحطات التلفزية "نسمة" و"الحوار التونسى" على وجه الخصوص ::جميعها عبارة عن غرف عمليات للتوجيه والتحكم الاعلامى عن بعد، تشتغل بلوحة قيادية تتضمن على مجموعة من البرامج الحوارية، الإخبارية والترفيهية الواسعة الانتشار وفق مؤشرات قياس نسب المشاهدة والاستماع المعتمدة فى المجال السمعي والبصري... فكيف يمكن أن نفهم السقوط المدوي للعديد من الوجوه السياسية (منها رؤساء حكومات سابقون)، أو النقابية أو الحقوقية البارزة وصعود نجوم بمواصفات خطابية وأوزان إعلامية جديدة ؟ ألم تطبخ الحملات الانتخابية الأخيرة تخطيطا وتنفيذا داخل أفران مكاتب التحرير والاستيديوهات المغلقة ؟ ألا يعدّ تسويق عدد من الوجوه السياسية الحاكمة والمعارضة سلبا أو إيجابا صناعة إعلامية بامتياز؟ وكيف تمرّر القرارات الكبرى الموجعة السابقة والمرتقبة إلاّ بعد مرحلة إطلاق بالونات اختبار إعلامية لجس وقياس مختلف ردود الفعل ؟ ألا تعدل نفس هذه القرارات فى العمق وفق ما يؤشر إليه بارومتر المزاج الاعلامى العام ؟ ألا تنصب المحاكمات والمرافعات على الهواء مباشرة لتتوزع على إثرها بطاقات الإدانة وشهادات البراءة بالجملة ؟ الخ الخ بالتأكيد الإجابة واضحة، فالإعلام بسطوة أذرعته وأيقوناته الفاعلة تصنع القرار وحتى صناع القرار، توجه القادة والعامة على السواء، تحكم تونس بمفهوم السلطة المطلق ... إنه بيت الطاعة الجديد الذي لا مناص منه فى عالم معولم تسيطر عليه بالكامل الميديا بتمثلاتها ووسائطها المتعددة، وفى بلد يعيش مرحلة انتقال دون وجهة، انتقال نحو المجهول داخله وخارجه مفقود ...