: عندما كتبت قبل يومين عن مأساة الأستاذ نصر الدين بن حديد , كتبت متفاعلا مع رجل لم تجمع بيني وبينه الا هموم الانسان الذي يقرأ بعين مبصرة وقلب مازال يحمل في رهفة وصلابة هموم الوطن والمواطن ... ادخرت ودافعت دموعي وألمي حين قرأت ماكتبه عن دموع ابنه التي اشتكت الى الله في براءة اقتلاعه مع أفراد عائلته من محل سكناه من قبل جهة تونسية نافذة ... المشهد الحزين والذي دارت وقائعه سنة 2003 ميلادية والذي انتهى الى تضجر مفتوح على الشبكة الافتراضية بعد أن حررت رسالة في الغرض مع نهايات شهر جويلية 2007 الى شخص رئيس الجمهورية التونسية..., مثل هذا المشهد يدخل ضمن فضاء قضاء المظالم بحسب الاصطلاح الاسلامي , وضمن فضاء القضاء الاداري بحسب الاصطلاح القانوني المعاصر , اذ أن الخصومة فيه تكون بين مواطن بسيط وبين اخر يتحصن بموقعه داخل مؤسسات الدولة . غير أنه عندما تتعطل اليات القضاء في مثل هذه النزاعات بحكم وجود خلل أو تداخل بين الادارة والحزب الحاكم أو الحزب الحاكم وأجهزة الدولة , فان الجهاز القضائي يجد نفسه في مواجهة الخوف من بطش العنصر الحزبي الحامل لصفة مافوق المواطنة أو الحصانة من التتبع العدلي نتاج تترسه وتدرعه بالموقع الحزبي والوظيفي . مثل هذا التداخل المتشعب بين امتيازات الأحزاب الحاكمة والمؤسسات الرسمية للدولة لايمكن أن يفت في عضده تهذيبا وتشذيبا وتفكيكا ايجابيا الا سلطة قضائية مستقلة ومهابة , واعلام وطني مستقل وحر يشكل سلطة معنوية وأدبية في مواجهات الخروقات الادارية المحتمية بالموقع السياسي لابسلطة الحق والقانون . وثمة عامل اخر لايقل أهمية عن عاملي استقلال القضاء وحرية الاعلام , وهو عامل تطوير الأجهزة الأمنية وتمتيعها بثقافة قانونية وحقوقية عالية تجعلها محصنة ضد الخروقات أو التسخير المجاني من قبل بعض المتنفذين أو المتمترسين بالثقة الرئاسية أو الحكومية أو الحزبية . ان اصلاح الجهاز القضائي بشكل مستمر والحرص على تكريس استقلاليته كسلطة مرجعية لدى المواطن واسناد المناصب العليا فيه الى العناصر الكفوءة والأمينة مع تحصين الجهاز الأمني بالعناصر المتعلمة والخلوقة ذات الثقافة القانونية العالية , يضاف الى ذلك ممارسة الاعلام ورجاله لدورهم في تشكيل سلطة رقابية على الخروقات والتجاوزات داخل الجهاز الاداري والمؤسساتي مع الحرص على نقل سليم وصحيح لنبض الشارع والمواطن بأمانة ..., كل ذلك يعد مقدمة حقيقية لرفع مظالم كثيرة عن مواطنين بسطاء لم تنصفهم العولمة ولم يسعفهم الحظ حين وجدوا أنفسهم في منطقة عربية تحمل تراثا مثقلا بميول وطباع الاستبداد . ولا أريد ان أغفل ضمن نفس السياق عن التنبيه الى موضوع استراتيجي هام تحدثت عنه المعارضة التونسية بصفة موسمية حين خرجت من الاستحقاقات الانتخابية بنتائج ضحلة أملتها القوانين الانتخابية الصارمة كما ضعف الوجود والكينونة في مواجهة حزب حاكم له من خبرات الحكم ومقدراته المادية والادارية والبشرية ماعجزت أحزاب حديثة طامحة ومناضلة عن مواجهته في قلة من الوسائل والامكانيات - ولانغفل طبعا عن عدم وجود استعداد للقبول بالاخر المعارض في هياكل الدولة التونسية الحديثة نظرا لما تشكله السلطة من مغانم ومغريات- . ماتحدثت عنه المعارضة في بعض المناسبات ونسيته في مناسبات أخرى , هو ضرورة الفصل بين الصفة السياسية لرئيس الجمهورية التونسية على اعتباره مسؤولا أولا في الحزب الحاكم وبين الصفة الاعتبارية والوطنية والدستورية على اعتبار أنه رئيسا لكل التونسيين والتونسيات مهما اختلفت ألوانهم أو تشكيلاتهم السياسية أو مواقفهم في تقييم الشأن العام . ماينبغي أن يفهمه الاخوان المناضلون في التجمع الدستوري الديمقراطي - مع كل التقدير والاحترام- هو أن الرئيس التونسي يمثل مؤسسة عليا للبلاد لايمكن احتكارها لمشاريع اللجنة المركزية أو الديوان السياسي للحزب , بقدر ماأنه يعد سلطة اعتبارية وأدبية وتنفيذية عليا تحظى بالقبول العام وتسعى لخدمة المشاريع الكبرى للدولة وتحرص على حماية المصلحة الوطنية العليا للبلاد والمجتمع , وهو مايجعل من هذه المؤسسة مرجعية موقرة في الفضاء السياسي والحقوقي والشعبي كما يجعلها في منأى عن الأجندات الحزبية المتصارعة . ان قضايا الأفراد ومشكلات المواطنين حين تتعطل بين جنبات البيروقراطية الادارية وبين جنبات تقاليد الرشوة والنفوذ السياسي والأداء الحزبي المتعصب واستعمال السلطة خارج اطار القانون , يمكن أن تواجه باعلام حر وديمقراطي يكشف للمسؤول الأول للدولة ومن يمثله من مسؤولين تفترض فيهم الأمانة مايحصل من تجاوزات أو تعديات على حقوق المواطنين , وهو مانفترضه اليوم في اعلامنا التونسي الوطني وليس في الفضاء الاعلامي المعارض فقط أو في الفضاء العنكبوتي . ان المظلمة التي أصابت الأستاذ نصر الدين بن حديد أو أصابت أستاذ مادة الفلسفة محمد مومني بتسريحه من الوظيف ,أو هي تصيب منذ سنوات الأستاذ عبد الله الزواري عبر ابعاده عن أهله وذويه بنفيه الى جهة جرجيس أو هي تصيب هذه الأيام الدكتور والصديق الفاضل الطبيب احمد لبيض عبر حرمانه من السكن مع أبنائه بعد أن تيتموا بفقدانهم للأم , ان هذه المظالم ومظالم أخرى يتعرض لها العالم الفيزيائي البروفسور منصف بن سالم وعائلته الكريمة , أو مشائخ أفاضل دفعوا ضريبة الرأي من عيونهم وابصارهم وصحتهم كما هو حال الأستاذ الحبيب اللوز ....ان هذه المظالم وغيرها من العشرات أو المئات لابد لها من اعلام وطني وحر يتجاوز الرقابة الذاتية والهواجس السياسية من أجل ايصالها الى صانعي القرار ومن ثمة وضعهم أمام حالة شفافة من نبض الشارع . قضايا كبرى وووطنية جادة لم نرد أن تبقى رهينة أو حبيسة الصدور او الرقابة الذاتية أو الهواجس الأمنية والسياسية المفتعلة , بل أردنا لها الخروج الى عالم الأنوار لتعزز حوارات صادقة وشفافة بين جنبات السلطة الرابعة والفضاء العنكبوتي والصحف الوطنية في انتظار أن تصبح واقعا اصلاحيا تونسيا بامتياز . حرره مرسل الكسيبي* بتاريخ 15 سبتمبر 2007 - 3 رمضان 1428 ه . *كاتب واعلامي تونسي- رئيس تحرير صحيفة الوسط التونسية :