تونس تشارك في معرض ليبيا للإنشاء    غرفة القصابين: معدّل علّوش العيد مليون ونص    نيويورك: الشرطة تقتحم جامعة كولومبيا وتعتقل عشرات المؤيدين لغزة    تونس: الإحتفاظ بعنصر تكفيري مفتّش عنه    علم تونس لن يرفع في الأولمبياد    جبل الجلود تلميذ يعتدي على أستاذته بواسطة كرسي.    مهرجان سيكا جاز: تغيير في برنامج يوم الافتتاح    الفيلم السّوداني المتوّج عالميا 'وداعًا جوليا' في القاعات التّونسية    سامي الطاهري يُجدد المطالبة بضرورة تجريم التطبيع    دعما لمجهودات تلاميذ البكالوريا.. وزارة التربية تدعو إلى تشكيل لجان بيداغوجية جهوية    الطبوبي في غرة ماي 2024 : عيد العمّال هذه السنة جاء مضرّجا بدماء آلاف الفلسطينين    عاجل: وفاة معتمد القصرين    انطلاق فعاليات الاحتفال بعيد الشغل وتدشين دار الاتحاد في حلتها الجديدة    بنزرت: وفاة امرأة في حادث اصطدام بين 3 سيارات    اليوم: طقس بحرارة ربيعية    تونس: 8 قتلى و472 مصاب في حوادث مختلفة    البطولة العربية السادسة لكرة اليد للاواسط : المغرب يتوج باللقب    الهيئة العامة للشغل: جرد شركات المناولة متواصل    اليوم: تونس تحيي عيد الشغل    جولة استكشافية لتلاميذ الاقسام النهائية للمدارس الابتدائية لجبال العترة بتلابت    نتائج صادمة.. امنعوا أطفالكم عن الهواتف قبل 13 عاماً    اليوم.. تونس تحتفل بعيد الشغل    اتفاق لتصدير 150 ألف طن من الاسمدة الى بنغلاديش سنة 2024    الليلة في أبطال أوروبا... هل يُسقط مبابي «الجدار الأصفر»؟    الكرة الطائرة : احتفالية بين المولودية وال»سي. آس. آس»    «سيكام» تستثمر 17,150 مليون دينار لحماية البيئة    أخبار المال والأعمال    وزارة الفلاحة تضبط قيمة الكيلوغرام من التن الأحمر    لبنان: 8 ضحايا في انفجار مطعم بالعاصمة بيروت وقرار عاجل من السلطات    موظفون طردتهم "غوغل": الفصل كان بسبب الاحتجاج على عقد مع حكومة الكيان الصهيوني غير قانوني    غدا الأربعاء انطلاقة مهرجان سيكا الجاز    قرعة كأس تونس للموسم الرياضي 2023-2024    اسقاط قائمتي التلمساني وتقية    تأخير النظر في قضية ما يعرف بملف رجل الأعمال فتحي دمّق ورفض الإفراج عنه    تعزيز أسطول النقل السياحي وإجراءات جديدة أبرز محاور جلسة عمل وزارية    غدا.. الدخول مجاني الى المتاحف والمواقع الاثرية    هذه تأثيرات السجائر الإلكترونية على صحة المراهقين    قفصة: تواصل فعاليات الاحتفال بشهر التراث بالسند    وزيرة النقل في زيارة لميناء حلق الوادي وتسدي هذه التعليمات..    تحذير من برمجية ''خبيثة'' في الحسابات البنكية ...مالقصة ؟    ناجي جلّول: "أنوي الترشّح للانتخابات الرئاسية.. وهذه أولى قراراتي في حال الفوز"    الاستثمارات المصرح بها : زيادة ب 14,9 بالمائة    عاجل/ "أسترازينيكا" تعترف..وفيات وأمراض خطيرة بعد لقاح كورونا..وتعويضات قد تصل للملايين..!    مختص في الأمراض الجلدية: تونس تقدّمت جدّا في علاج مرض ''أطفال القمر''    يوم 18 ماي: مدينة العلوم تنظّم سهرة فلكية حول وضعية الكواكب في دورانها حول الشّمس    مدينة العلوم بتونس تنظم سهرة فلكية يوم 18 ماي القادم حول وضعية الكواكب في دورانها حول الشمس    إحداث مخبر المترولوجيا لوزارة الدفاع الوطني    أمير لوصيف يُدير كلاسيكو الترجي والنادي الصفاقسي    إصطدام 3 سيارات على مستوى قنطرة المعاريف من معتمدية جندوبة    خبراء من منظمة الصحة العالمية يزورونا تونس...التفاصيل    ربع نهائي بطولة مدريد : من هي منافسة وزيرة السعادة ...متى و أين؟    التوقعات الجوية اليوم الثلاثاء..أمطار منتظرة..    فرنسا تعزز الإجراءات الأمنية أمام أماكن العبادة المسيحية    الخليدية .. أيام ثقافية بالمدارس الريفية    زيادة في أسعار هذه الادوية تصل إلى 2000 ملّيم..    القواعد الخمس التي اعتمدُها …فتحي الجموسي    خطبة الجمعة .. أخطار التحرش والاغتصاب على الفرد والمجتمع    منبر الجمعة .. التراحم أمر رباني... من أجل التضامن الإنساني    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



سبع سنوات على «هجوم السفارة الأمريكية» بتونس: ماذا حدث يوم 14 سبتمبر 2012؟
نشر في حقائق أون لاين يوم 14 - 09 - 2019

* رابط المقال الأصلي المنشور بموقع "صواب الرأي" بتاريخ 09/14/2019


في ساعة متأخرة من مساء الحادي عشر من سبتمبر 2012، نهض مايكل موريل، نائب السابق لمدير وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية، من مقعده في أحد مطعام العاصمة الأردنية عمان الهادئة بعد عشاء تخللته الكثير من الأحاديث وتبادل المعلومات مع محمود الرقاد، مدير المخابرات العامة الأردنية، والجنرال مشعل محمد الزبن، قائد الجيش الأردني. توجه موكب الضابط الأمريكي سريعاً إلى الفندق، مستعداً لرحلة ستأخذه إلى السعودية صباح اليوم التالي. لكن خطباً ما كان يتشكل في الأفق ويوشك أن يتجلى في شكل مأساة.

يروي موريل تفاصيل تلك الليلة قائلاً: «لم يمض وقت طويل قبل أن يوقظني من نوم هادئ طرق واحدة من مساعدي على الباب، التي قالت لي إن حادثة أخرى حدثت، هذه المرّة في مركز وزارة الخارجية في بنغازي، وأن ضباط أمن وكالة الاستخبارات المركزية استجابوا من أجل مساعدة. قالت لي مساعدتي إن أحد ضباط وزارة الخارجية قد قتل وإن مكان وجود السفير غير معروف. وقالت إن الجميع قد نقل إلى قاعدة وكالة الاستخبارات المركزية في بنغازي ويعتقد أنهم بأمان، مشيرة إلى أن رئيس محطتنا في طرابلس كان يرسل ضباط أمن كتعزيزات من طرابلس إلى بنغازي. ثم، في وقت مبكر من صباح اليوم التالي، خبطت مساعدتي على بابي مرة أخرى لتقول لي إن قاعدة وكالة المخابرات المركزية تتعرض الآن لهجوم عنيف. ارتديت ثيابي سريعًا وذهبت إلى موقع قيادتي، الذي يقع في نفس طابق غرفتي(...) من السفارة في الأردن، اتصلت بمدير وكالة الاستخبارات المركزية ديفيد بترايوس وقلت له إنني اعتقدت أن عليّ قطع رحلتي. فوافق. أغلقت الهاتف وقلت لموظفينا إننا ذاهبون إلى الوطن».

على أبواب سبتمبر من كل عام تحبس الولايات المتحدة ومصالحها وسفاراتها حول العالم أنفاسها. منذ العام 2001، تحول سبتمبر إلى كابوس يلاحق أمريكا. ورغم مضي أكثر من عقد على ذلك الحادث المريع، ومقتل أسامة بن لادن إلا أن واشنطن مازالت حريصةً على اتخاذ كافة أشكال الحيطة والحذر من أن يغامر جهادي هنا أو انتحاري هناك لإحياء ذكرى «غزوة الطائرات». عند نهايات صيف العام 2012 لم تنسى المخابرات الأمريكية والأمن الديبلوماسي، أن يعمما على مصالحهما في العالم تحذيرات روتينية.

ويتحدث مايكل موريل، في شهادته: «بينما كانت تلوح ذكرى 11 سبتمبر في الأفق، وكان الوضع الأمني في أنحاء كثيرة من العالم العربي في حالة تغير مستمر، في أوائل سبتمبر 2012، بعثت وكالة الاستخبارات المركزية إلى جميع محطاتها وقواعدها في جميع أنحاء العالم برقية تحذر من هجمات محتملة. لم يكن هناك أي معلومات استخبارية معينة بشأن هجمات مخطط لها؛ نرسل تلك البرقيات بشكل روتيني كل عام في ذكرى 11 سبتمبر، ولكننا لم نرغب أن يكون موظفينا وزملائهم في حكومة الولايات المتحدة أكثر يقظة. كنا قد أرسلنا أيضًا برقية إضافية إلى القاهرة لأننا قد التقطنا معلومات استخباراتية محددة من وسائل الاعلام الاجتماعية بأنه قد تكون هناك مظاهرة عنيفة كرد فعل على فيلم غامض صنع في الولايات المتحدة يعتقد العديد من المسلمين أنه يهين النبي محمد. شجعت منشورات وسائل الاعلام الاجتماعية المتظاهرين على اقتحام سفارتنا وقتل الأميركيين. اتضح أن سفارتنا في القاهرة قد وصلها بشكل مستقل التقرير نفسه حول وسائل الاعلام الاجتماعية واتخذت الاحتياطات بالفعل. ولم تكن السفيرة ومعظم موظفيها في سفارة القاهرة، يوم 11 سبتمبر 2012، عندما اخترق الغوغاء جدران مجمع السفارة، وأشعلوا الحرائق، وأنزلوا الأعلام الأمريكية، ورفعوا لافتات سوداء إسلامية. وانتشرت أخبار ما فعله المحتجين في القاهرة بسرعة في وسائل الإعلام العربي، بما في ذلك بنغازي». (1)

ويواصل موريل تقدير الموقف الأمني الإقليمي متحدثاً حول الأوضاع في ليبيا: «ما حدث بعد رحيل معمر القذافي كان وجود دولة فاشلة تركت مجالًا للجماعات المتطرفة لتزدهر. وفي نهاية الأمر، هل أصبح الشعب الليبي أفضل حالًا بعد ثورتهم من قبلها؟ لستُ متأكدًا من ذلك. بالتأكيد ما حدث في ليبيا كان نعمة لتنظيم القاعدة في أنحاء شمال أفريقيا ونزولًا في منطقة الساحل التي تضم أجزاء من موريتانيا ومالي والنيجر. افتقرت الحكومة الوليدة التي حلّت محل للقذافي لأي قدرة ولو بدائية على الحكم وفرضت المليشيات التي تحمل مختلف الأيديولوجيات سلطتها على أجزاء واسعة من البلاد. بسبب هذا النقص في الحكم، خلال فصلي الربيع والصيف من عام 2012، تدهور الوضع الأمني في جميع أنحاء ليبيا. فهِم محللو وكالة الاستخبارات المركزية هذا الوضع بدقة، وكتبوا عشرات من تقارير المخابرات التي تصف بالتفصيل كيف أصبح الوضع في ليبيا أكثر خطورة. أحد تلك التقارير ظهر في يوليو تحت عنوان: "ليبيا: تنظيم القاعدة يقيم مأوى له". وقد تم تبادل هذه التقارير على نطاق واسع في جميع أنحاء السلطة التنفيذية ومع أعضاء وموظفي لجان الاستخبارات في الكونجرس». (2)

كان واضحاً أن تقدير الموقف الذي صاغته المخابرات الأمريكية حينذاك، يتخلص في توقع هجمات انطلاقاً من مصر أو ليبيا، ولم تكن تونس ضمن دائرة الخطر. والغريب أن محطة المخابرات المركزية في السفارة الأمريكية في تونس لم تلتقط منشورات التحريض والدعوات للتظاهر أمام السفارة، ومنشورات التحريض على الانتقام والغضب التي اجتاحت وسائل التواصل الاجتماعي في تونس حينذاك. كانت وسائل التواصل الاجتماعي تغلي غضباً وخطب المساجد والدروس والمشائخ في الساحات، وكل وسائل التعبئة وخطابات التحريض توحي بأن أمراً ما سيحدث.

فوق الصفر...تحت بنغازي
في تونس لم يكن الوضع أفضل حالاً. على عكس الأمريكيين، كانت لدى الأجهزة الأمنية التونسية معلومات بإمكانية وجود تخطيط لاعتداء سيطال السفارة الأمريكية في أعقاب، بث الفيلم الأمريكي على الإنترنت. يروي العقيد في الحرس الوطني التونسي، سليم البرناوي، شهادته عما كان يدور في أروقة الجهاز القوي، الذي كانت السفارة تقع في دائرة نفوذه الأمني قائلاً: «كنا نواكب توارد التقارير الاستخباراتية في البلاد. السفارة الأمريكية كانت دائما من السفارات الأكثر تهديداً. وقد بلغتنا حينها معلومات بوجود إمكانية اعتداء أو توجه نحو السفارة الأمريكية قبل يوم 14 سبتمبر فأعلمت بها رؤسائي. اتصلت برئيسي المباشر وقلت له لدي معلومات بشأن هذا الموضوع ويجب أن نتخذ الإجراءات المناسبة لذلك، وأن نستعد بالعديد والعتاد ووسائل النقل المناسبة، فقال لي "سنرى" وفي الحقيقة لم يقع ذلك التجاوب الكبير منه أو تلك الإجابة الحاسمة التي كنت أنتظرها». (3)

منذ ساعات الصباح الأولى، يوم 14 سبتمبر، تجمع العشرات من السلفيين في محيط جامع الفتح وسط العاصمة تونس. بدا واضحاً أن جمعة غاضبةً سيشهدها معقل التيار السلفي الجهادي. مع مرور الوقت غصت جنبات الجامع بالمصليين رجالاً ونساءً. وما إن سلم الإمام حتى دوت الهتافات في صحن الجامع ب «موت لأمريكا» وارتفعت الشعارات. عندما وصلتُ إلى محطة الجمهورية، على بعد أمتار قليلة من الجامع قادما من مكاتب الصحيفة التي كنت أعمال فيها، كان المتظاهرون قد سلكوا شارع القرش الأكبر يريدون الوصول إلى طريق السيارة الكبيرة «طريق المرسى»، التي تربط الضاحية الشمالية بوسط العاصمة. بدت لي المسيرة قليلة العدد وأغلب من ساروا فيها من النساء وكثير من الأطفال. لكن مع وصول الجمع في الطريق على مستوى مونبليزير، بدأت تفد سيارات صغيرة وعربات كبيرة مخصصة لنقل البضائع، حاملةً على ظهرها العشرات من الشباب، والذين بدت على مظهرهم الخارجي علامات «التسلف» بلحى كثة وأقمصة قصيرة وأحذية رياضية ضخمة، يحملون حقائب ظهر صغيرة وكبيرة، اكتشفنا لاحقاً أنها تحمل الهراوات الغليظة والحجارة وزجاجات المولوتوف.

كانت الشاحنات والسيارات تأتي من أكثر من محور وتقترب من منطقة العوينة، غير بعيد عن مقر قيادة أركان الجيش. من الجهة الغربية، من أحياء الطيب المهيري ودار فضال وسكرة وحي السلامة، ومن الجهة الشمالية من الكرم الغربي وحلق الوادي وأحياء الضاحية الشمالية ومن الجنوب من العاصمة والضواحي الغربية. كانت الطريق الرابطة بين الضواحي الغربية والعاصمة تغص بالشاحنات الصغيرة المليئة بالشباب، تمر أمام دوريات الشرطة دون أي خوف، وبسلاسة غريبة تصل إلى طريق المرسى متجهة نحو السفارة. فيما غص المحور الشمالي بجموع قادمة من منطقة الكرم الغربي، وكانت تتقدمها وجوه معروفة في الساحة الاحتجاجية التونسية حينذاك، من أعضاء «رابطة حماية الثورة»، وكان «ريكوبا» العضو الشير في الرابطة محمولاً على الأعناق مكبراً ومردداً شعارات الموت لأمريكا. وكأن شخصاً واحداً من وراء الستار قد أعطى إشارة الانطلاق لكل هذه الجموع كي تلتقي في النقطة ذاتها وفي الوقت نفسه. كان لافتاً، أنه وعلى طول الطريق الرابطة بين السفارة ووسط العاصمة لم يوجد أي حاجز أمني لمنع المتظاهرين من التقدم. كانت بضع عربات تحمل شعار الحرس الوطني تتابع سير المظاهرة من الجهة المقابلة دون أي ردة فعل. وهنا يقول العقيد في الحرس الوطني، سليم البرناوي، إن: «الجموع التي خرجت من جامع الفتح في العاصمة بعد صلاة الجمعة واتجهت نحو السفارة، قد جاءت تعليمات من وزارة الداخلية بمواكبتها (متابعة سيرها) دون منعها. الخطر الذي كان قائماً، يومها، لم تكن في مقابله أي استعدادات أمنية واضحة. فقط بضع سيارات وعربات وأعوان في مواجهة جموع من الغاضبين قادمين من أكثر من محور». (4)

تواصلت المواجهات بيت قوات الأمن والمتظاهرين، الذين كان بعضهم ملثماً، حتى الساعة الثانية والنصف، عندما بدأت قطاعات من وحدات التدخل التابعة للشرطة بالانسحاب من المكان. عند هذه اللحظة ازداد حماس المتظاهرين، وسط الصياح وصخب الشعارات والتكبير. لم يتبقى في ساحة المعركة سوى عدد قليل من قوات الأمن، الأمر الذي جعل المواجهة تنتقل من محيط السفارة إلى سورها الخارجي، الذي تسلقه المتظاهرون قفزوا على داخل مرأب السيارات وعمت الفوضى المكان. كان مشهداً مذهلاً وغريباً. وكانت السماء قطعة واحدة من الدخان المنبعث من إطارات السيارات الأمريكية ذات الدفع الرباعي الفارهة.

قبل يوم الواقعة قدم جهاز المخابرات التونسية تقريراً قدر فيه الموقف، محذراً من «إمكانية تحول المظاهرة إلى أعمال عنف تستغلها عناصر سلفية لإلحاق الأذى بالسفارة الأمريكية». وعلى ضوء ذلك وضعت وزارة الداخلية خطة أمنية لتأمين السفارة ومنع المظاهرة من الوصول إلى محيطها. كانت الخطة كالاتي: الساعة السابعة صباحاً يتم نشر وحدة من الخيالة في محيط السفارة، الساعة الثانية عشر ظهراً يتم نشر عناصر من وحدة حماية الشخصيات والمنشئات، الساعة الثانية ظهراً يتم نشر وحدات التدخل، وعند الساعة الرابعة تتدخل قوات مكافحة الإرهاب. وزير الداخلية، علي العريض، نفسه، أكد بعد الحادثة أن: «معلومات قد تواترت ووصلت إليهم بوجود تهديدات يمكن أن تطال المصالح الديبلوماسية وخاصة الأمريكية، في أعقاب بث الفيلم المسي للرسول، وعقدت عدة جلسات على مستوى أعلى المدرين العاميين في سلك قوات الأمن الداخلي وبمشاركة ممثلين من الجيش الوطني واستعرضت كل المعطيات المتوفرة لدينا، واتخذنا خطة عامة على كامل تراب الجمهورية، فالمعلمات التي كانت لدينا بأن التحركات ستعم كل البلاد. كما اتخذنا اجراءات خاصة بتونس العاصمة، اذ فيها عدد كبير من النقاط الحساسة، اتخذت لها خطط تمركزت فيها عدة وحدات، كل وحدة لها دور وسلطة معينة، واتخذت خطة استثنائية بالنسبة لسفارة الولايات المتحدة الأمريكية، وقد تمت معاينة مدى تطبيق هذه الخطط يوم 13 سبتمبر وصباح 14 سبتمبر» (5). لكن كل ذلك كان محض حطة على الورق، وكان للميدان حديث أخر.

ويفسر أحد ضباط الوحدة التي كانت تخوض مواجهات في محيط السفارة مع المتظاهرين، ثم ما لبثت أن انسحبت فجأةً ذلك، أمام قاضي التحقيق قائلاً: «في تلك الأثناء وردت علينا معلومات تفيد بتعرض مركز المرور المتواجد على مستوى الطريق السريعة رقم 9 والقريب من السفارة الأمريكية إلى الاقتحام من قبل المتظاهرين وقد طلب منا التوجه على عين المكان وتأمين الأسلحة المتواجدة بالمركز المذكور، وعليه فقد توجهنا رفقة مجموعة من أعوان الأمن إلى المركز، وهناك شاهدنا مجموعة من المتظاهرين بصدد محاولة قلع أبوبا المركز لاقتحامه فقمنا برشقهم بالغازات المسيلة للدموع لتفريقهم ثم دخلنا داخل مركز الشرطة وحملنا الأسلحة الموجودة معنا» (6)

لكن أسئلة عديدة تطرح نفسها بشدة هنا. لماذا لم ترسل وزارة الداخلية وحدات إضافية لتأمين مركز المرور القريب من السفارة بدلاً من أن تستدعي الوحدات التي تخوض مواجهات مع المتظاهرين، مع مقر قيادة الحرس الوطني، القريب من المكان، مدجج بالأسلحة ويعج بالوحدات القادرة على حسم الموقف؟ هل كانت الجماعات السلفية قد أعدت سلفاً خطة لاقتحام المركز والاستيلاء على الأسلحة؟ وهل كان الأمر الصادر من غرفة العمليات المركزية للوحدات بالانسحاب من محيط السفارة والتوجه لتأمين المركز كان مجرد سوء تقدير، فسح المجال لاقتحام السفارة، أم أمراً أريد به أن يحصل الذي حصل؟

في السياق، يقول العقيد في الحرس الوطني، سليم البرناوي: «شخصياً، قمت بوضع خطة لمجابهة أي اعتداء متوقع، بحكم أنني مشرف على وحدات التدخل، إحدى وحدات قوات الحرس الوطني، والمكلفة بمواجهة الشغب والتظاهرات العنيفة. فوضعت الضباط وضباط الصف والأفراد الذين يعملون تحت إمرتي في الإطار، وأوقفت منح الإجازات، لحشد كل الإمكانيات البشرية. لكن الهجوم وقع يوم 14 سبتمبر، حينها كنت قد تبلغت يوم 12 سبتمبر، أي قبل يوميين فقط بقرار إقالتي مع 16 ضابطاً من زملائي في الحرس الوطني. هل كان قرار الإقالة مرتبطاً بالهجوم أم لا؟ لا أدري؟ يبقى ذلك برسم التاريخ. لكن ما أستطيع أن أؤكده أن الاحتياطات الأمنية التي كانت متخذة – على الأقل في جهاز الحرس الوطني – لمجابهة أي هجوم أو اعتداء متوقع على السفارة الأمريكية، كانت لا تدل على وجود أي شعور أو توقع بوجود خطر داهم على السفارة. كان مؤكداً بأن لدى وزارة الداخلية معلومات وتقارير بأن مئات من العناصر السلفية تريد الوصول إلى محيط السفارة ومحاصرتها واقتحامها، ولم يقع اتخاذ أي إجراءات لمنع ذلك. لم يكن هناك تراخ أمني من القيادات الأمنية ولا من رجال الأمن على الأرض، ولكن التعليمات والأوامر من القيادة السياسية في الوزارة هي التي لم تأتي. فما وقع كان يمكن تفاديه ببساطة لو أخذت التحذيرات التي وردت قبل أيام بجدية». (7)

المخابرات العسكرية من جهتها على إطلاع مسبق بوجود تهديدات في الأفق، تستهدف السفارة الأمريكية على خلفية بث الفيلم الأمريكي. وكانت تتابع الكثير من العناصر السلفية المنتظمة في صفوف جماعة أنصار الشريعة أو الناشطة في مجموعات صغيرة غرب العاصمة. ويقول وزير الدفاع، عبد الكريم الزبيدي متحدثاً عن الأيام التي سبقت الحادثة: «المعلومة التي بلغتنا في الوزارة في بداية الأمر تتعلق بمسيرة سلمية وانه لوحظ قبل يومين أو 3 ايام من الحادثة أن المسيرة لن تكون سلمية بسبب تجمهر أعداد غفيرة مشاركة في المظاهرة أمام السفارة الامريكية. ولوحظ أيضاً وجود نوع من العنف يسود المسيرة وترديد عدة شعارات مناهضة للأمريكان، وقد أجبرنا ذلك على عقد اجتماع تنسيقي مع قيادات وزارة الداخلية لدعم جهود قوات الأمن الداخلي عبر توفير أجهزة لا تملكها. وقد تمّ إعلام وزارة الدفاع في الاجتماع التنسيقي أن المسيرة ستكون سلمية وذلك عن حسن نية وقد طلبوا مساندتهم وتعزيزهم ببعض العناصر العسكرية لتأمين مدخل السفارة. بعد يوم نُظمت مسيرة ثانية أمام السفارة الأمريكية وكان عدد المشاركين فيها أكثر بكثير من عدد المشاركين في المسيرة الأولى. فأجبرت على مهاتفة رئيس أركان جيش البر رشيد عمار، وقلت له إن طلبات قوات الامن خلال الاجتماع التنسيقي الاول لا تفي بالغرض. وقد استشارني عمّار حول إمكانية طلب اجتماع تنسيقي ثان مع وزارة الداخلية وقد وافقت فوراً على ذلك. وقد تم بالفعل تنظيم اجتماع آخر تنسيقي وقد أصر كوادر الداخلية على نفس مطالب الاجتماع الأوّل مقتصرين على طلب تأمين مدخل السفارة الأمريكية بالأسلاك الشائكة فحسب. لأفاجئ يوم 14 سبتمبر، وتحديدا على الساعة الثالثة بعد الزوال بمكالمة من وزير الداخلية علي العريض يعلمني فيها بأن الوضع أصبح خطيراً في السفارة الامريكية». (8)

كل الخطط سقطت في سويعات قليلة. مع حوالي الساعة الثالثة والنصف أخذت الأحداث منعرجاً خطيراً. السفارة الضخمة تحولت إلى قطعة من نار. كان عدد من الموظفين والسفير جاكوب والس في الداخل، في مكان شبه امن، يراقبون من النوافذ السميكة العناصر الملثمة هائجة تحرق كل ما يقع تحت أيديها. فجأة سقط العلم الأمريكي، وتسلق السارية شاب سلفي، واضعاً الراية السوداء مكانه. كان مشهداً غريباً. حتى أطلت بنادق الحماية الخاصة للسفارة من بين الثغرات في حائط البناية الداخلية. كان واضحاً وجود عناصر أمنية أمريكية في الداخل وقد صوبت فوهات أسلحتها نحو الفناء المحترق. فيما توجهت مجموعات أخرى إلى الجهة المقابلة من الطريق السريعة، حيث توجد على بعد أمتار المدرسة الأمريكية، واقتحمتها لتبرم في جنباتها النيران وتحولها أثراً بعد عين.

وعلى خط أخر كان السفير والس على تواصل مع وزارة الخارجية الأمريكية في واشنطن، واضعاً إياهم في صورة ما يقع. وعلى تواصل مع الخارجية التونسية. ويتحدث كاتب الدولة للخارجية المكلفة بالشؤون الأوروبية عن وقائع ذلك اليم قائلاً: «كنت الوحيد في وزارة الخارجية. اتصل بي السفير الأمريكي جاكوب ولس، وأخبرني بالهجوم على السفارة وظل معي على الهاتف إلى حين إنقاذه وكان يصف لي ما يحدث. اتصلت بوزير الداخلية وكاتب الدولة بوزارة الداخلية، كانت الهواتف مغلقة. حين انقطعت المكالمة مع السفير اعتقدت أنه تمت تصفيته. عندها اتصلت بحمادي الجبالي ومصطفى بن جعفر والمرزوقي، حدثتهم جميعاً بما يخبرني به السفير، الذي أعدت الاتصال به عن طريق هاتف سكرتيرته. ثم اتصلت بنا وزير الخارجية الأمريكية هيلاري كلينتون اتصلت بنا في وزارة الخارجية». (9)

لم يمضي وقت طويل حتى اتصلت وزير الخارجية هيلاري كلينتون بالرئيس منصف المرزوقي للمرة الثانية ليتدخل، وكانت تخشى أن يتكرر لبعثتها ما حصل في بنغازي قبل يوميين. بصوت متهدج قالت كلينتون للمرزوقي: «عليكم أن ترسلوا التعزيزات حالاً، سفارتنا في خطر» (10). الرئيس المرزوقي نفسه، قال إن: «القيادات الأمنية كانت لا ترد على الاتصالات الهاتفية، وكبار المسؤولين الأمنيين قد أغلقوا هواتفهم، كان أمراً غير مفهوم. الجيش كذلك رفض تنفيذ الأوامر عند الهجوم وقائد الجيش رشيد عمار رفض تنفيذ أوامر بحماية السفارة وقد طلب مني عمّار أمراً كتابيّا لتحريك الجيش، وهو ما تمّ فعلاً، عندها أخبرني أنّ المسألة تتطلّب وقتاً، في المقابل كانت الأحداث تتصاعد في محيط السفارة» (11). مباشرةً، استدعى المرزوقي، العقيد سالم سيك سالم، مدير الأمن الرئاسي، وطلب منه التدخل وتأمين السفير جاكوب والس وموظفي السفارة وإجلائهم من مقر السفارة.

في المقابل ينفي وزير الدفاع عبد الكريم الزبيدي شهادة المرزوقي، الذي يحاول، بحسب الزبيدي، تضخيم دوره في الحادثة، ويقول: «بعد أن اتصل بي وزير الداخلية، على العريض، وشرح لي الوضع، اتصلت بالجنرال رشيد عمار مرة اخرى وأمرت بإرسال وحدات عسكرية كتعزيز للقوات الأمنية، وقد قامت هذه الوحدات بواجبها على أحسن وجه عكس ما يروج له الرئيس السابق المنصف المرزوقي بأن الأمن الرئاسي وحده هو من أنقذ الموقف. فالجيش الوطني لعب دوراً كبيراً لإرجاع الأمور إلى نصابها والسيطرة على الوضع خلال أحداث السفارة. وقد اتصل بي رئيس الجمهورية المنصف المرزوقي وقال لي حرفيا: هل لديك علم بما يحصل من أمر خطير في السفارة الامريكية؟ .وقد اكتشفت خلال المكالمة أن المرزوقي لا يعرف صلاحيات الجيش الوطني في حالة الطوارئ، ثم أعلمته بكل ما حصل من اجتماعات تنسيقية مع وزارة الداخلية بخصوص ما حدث في السفارة الأمريكية وقلت له أيضا ان وزير الداخلية علي العريض اتصل بي لمزيد التنسيق.كما أعلمته بأن قيادات الجيش أعطت التعليمات للوحدات العسكرية لكي تتدخل للسيطرة على الوضع، وتواترت الاتصالات ومنها اتصال من وزير الدفاع الأمريكي وأعلمته بأن كل شيء تم على أحسن ما يرام». (12)

كانت المخابرات العسكرية قد زرعت أكثر من عنصر داخل المتظاهرين. أحدهم كان يرتدي قميصاً بلحية كثة رافعاً عقيرته بالصراخ والشعارات، والثاني كان يحمل هوية صحافية وكاميرا، يصور كل شاردة وواردة. في المقابل كان عناصر من مخابرات الأمن منتشرين في المكان يصورون ويدونون الوقائع. وكان لهذه التقارير التي رفعت لاحقاً أثر جذري في مسارات التحقيق القضائي ومصائر المعتقلين.

مع حوالي الساعة الخامسة والنصف بدأت المواجهات تخف شيئاً فشيئاً. أخذت قوات مكافحة الإرهاب مواقعها داخل السفارة وفي محيطها، فيما واصلت وحدات التدخل وقوات الجيش تمشيط المنطقة وبدأت جموع المتظاهرين بالانسحاب، وتشتت جمعهم في محاور مختلفة، لكن بعضهم وقع في أيدي قوات الأمن. وفيما كانت الأجهزة الأمنة والعسكرية تمسح اثار العدوان أصدرت وزارة الداخلية بياناً، كان أول إعلام رسمي عما جرى ويجري في محيط السفارة الأمريكية وداخلها قالت فيه: «تجمّع ظهر اليوم الجمعة 14 سبتمبر 2012 عدد من المتظاهرين من مختلف المشارب في محيط سفارة الولايات المتحدة الأمريكية بتونس للاحتجاج على الفيلم الأمريكي المسيء للرسول الكريم عليه الصلاة والسلام والمستفز لمشاعر المسلمين. وكانت الوحدات الأمنية بالتنسيق مع الجيش الوطني اتخذت مجموعة من الإجراءات الاحتياطية حتى تتم الاحتجاجات في ظروف سلمية وبعيدة عن محيط السفارة. وقد تعمّدت في البداية مجموعات من المحتجين بينهم عدد من المتشددين دينيا رشق أعوان الأمن الداخلي بالحجارة وقطع الحواجز الأمنية، فتدخلت الوحدات لتفريقها حفاظا على أمن السفارة والأمن العام بمحيطها. وقد أبدت هذه المجموعات التي تزايد عدد أفرادها بمرور الوقت إصرارا على اقتحام مقر السفارة وتولت الاعتداء على الوحدات الأمنية بمختلف المقذوفات من حجارة وقوارير مولوتوف وقضبان حديدية وآلات حادة. ورغم جهود وحدات الأمن الداخلي معززة بالجيش الوطني للحيلولة دون محاولات الاقتحام فقد تمكنت مجموعة من المحتجين من تسوّر السياج الخارجي للمبنى والدخول إلى حديقة السفارة. وقامت هذه العناصر بإتلاف بعض التجهيزات داخل الساحة كما تسلق عدد منهم بعض البنايات وأنزل العلم الأمريكي واستبدلوها براية سوداء. كما تم تسجيل إضرام النار في عدد من السيارات والشاحنات (أوليا ً68 سيارة و02 شاحنات و01 رافعة) علاوة على محاولة الدخول بالقوة إلى مقر السفارة وتهشيم بلّور عدد من نوافذه، كما تم حرق جزء من مبنى المدرسة الأمريكية بالعوينة. وقد تصدّت قوات الأمن والجيش لهذه الاعتداءات وحاولت تجنّب اللجوء إلى استعمال الرصاص الحي والاعتماد أساسا على الغاز المسيل للدموع، وفي الحالات القصوى تم استعمال الرصاص في الهواء ثم في حالات استثنائية باتجاه الأرجل لتفادي سقوط ضحايا، لاسيما أمام حدّة الهجمات التي قامت بها هذه المجموعات وخطورتها على الأعوان وعلى مبنى السفارة والديبلوماسيين المتواجدين داخلها. وقد تواصل التدخل الأمني في عمليات كر وفر بين وحدات الأمن والجيش والمحتجّين إلى أن أمكن تفريقهم في وقت متأخر من عشية اليوم. وفي معطيات ليست نهائية سجّلت وفاة شخصين في صفوف المهاجمين وجرح 22 عون أمن و28 من المعتدين إلى جانب حرق سيارة أمنية وإيقاف 28 من المعتدين. وما تزال التحريات والإجراءات متواصلة». (13) وبعد ساعات قليلة قامت الوزارة بتحيين المعلومات، بشكل نهائي، حيث أدى الهجوم إلى: «إصابة 66 رجل أمن، حالة أربعة منهم خطيرة، عدد غير محدّد من الجرحى في الجيش الوطني، حرق سيارة أمنية. أما في صفوف المهاجمين: فقد تم تسجيل أربع وفيات: حالتان ناجمتان عن طلق ناري، وحالتان عن حادث مرور خلال المواجهات، و28 جريح، ثلاثة منهم بسبب طلق ناري في الأطراف السفلى، 75 موقوفاً». (14)

مؤامرة أم تقصير!
ينما كانت قوات الأمن تقوم بتمشيط محيط السفارة الأمريكية وتعتقل بشكل عشوائي العشرات من الشباب، وكل ما تقع عليه اليد في منطقة البحيرة والعوينة، ظهر راشد الغنوشي، رئيس حركة النهضة غاضباً على إذاعة إكسبرس المحلية، منتقداً بشدة التعامل الأمني، واصفاً إياها بالتقصير الشديد، الذي يجب أن يحاسب. ولم تمضي سويعات حتى داعت قيادات الحركة البارزة إلى المقر المركزي في مونبليزير، لاجتماع طارئ، تواصل حتى ساعة متأخرة من الليلة الفاصلة بين 12 و13 سبتمبر 2012. كان صوت المؤامرة غالباً وسائداً. بدا أغلب القادة متيقنين بوجود مؤامرة من طرف قيادات وأجنحة داخل وزارة الداخلية، تركت الأمور تسير نحو الكارثة دون أن تتدخل، كي يحصل ما حصل. فقط صوت أقلي من قيادات محسوبة على رئيس الحكومة حمادي الجبالي ووزير داخليته علي العريض، نفت وجود مؤامرة في الموضوع. كان الاجتماع عاصفاً وتعالت فيه الأصوات متهمةً الحكومة والعريض بعدم السيطرة على وزارته كما يجب. كانت الاتهامات واضحة ليلتها، في اتجاه القيادات الأمنية بوزارة الداخلية، وكانت أكثر وضوحاً عندما صاح أحد الحاضرين بأن كمال لطيف قد فعلها. في قصر قرطاج، كان الرئيس المرزوقي وفريقه يقدرون الموقف الحاصل بنفس المنهجية وفي الاتجاه نفسه.

لكن عليّ العريض دافع عن نفسه بشراسة في المجلس التأسيسي وفي داخل مؤسسات حركته. كان العريض يريد أن يثبت للجميع أنه مسيطر على وزارته، منذ أن أمسك بزمامها، لكن الاتهامات داخل الحركة وخاصة من الجناح القريب من الرئيس المرزوقي ومن الجناح المتشدد القريب من السلفيين، اتهموه دائماً بمحاباة قيادات أمنية من النظام السابق. مباشرة ظهر الناطق باسم وزارته خالد طروش رافضاً «التشكيك في مدى نجاعة الآليات الأمنية». كان تكتيك فريق العريض في الدفاع يستند على الكشف عن أن ما وقع كان أفضل ما يمكن أن يحدث، وأن الأجهزة الأمنية نجحت في تقليص الخسائر بشكل كبير. كان هجوم بنغازي، عزاءً للعريض وأجهزته. فالأمريكيون انغمسوا حينها في لملمة جراحهم العميقة في بنغازي وتناسوا – من باب التهوين – خدوشهم في تونس. ظهر خالد طروش في وسائل الإعلام قائلاً: «كل المعطيات المتوفرة لدى الداخلية كانت تنبئ بخروج مظاهرات احتجاجية سلمية بعد صلاة الجمعة وفي مناطق مختلفة من الجمهورية، وهو أمر كان متوقعاً وغير مقتصر على العاصمة. الاحتياطات اتخذت لكن حجم المظاهرة وعنفها تجاوز التوقعات. تقييمنا نحن الذين كنا حاضرين ميدانياً يمكنني من أن أؤكد أننا تجنبنا الأسوأ وتجنب الأسوأ في هذه الحالات يعني نجاح العملية. لا معطيات تثبت انتماء المهاجمين للتيار السلفي أو جماعة أنصار الشريعة». (15)

كانت تصريحات طروش بشأن خلفيات المتهمين بالهجوم صادمةً وسخيفة في الوقت نفسه. كان الجميع يعلم تماماً هوية المهاجمين. فيما كان المتحدث باسم وزارة الداخلية، الجهة الأكثر علماً في البلاد، يحاول تدوير الزوايا. في المقابل كان رئيس الحكومة، حمادي الجبالي أقل وثوقاً من العريض في نفي المؤامرة، وتالياً أقل وثوقاً في قدرات الأجهزة الأمنية. بدى متشنجاً ومرتبكاً، خلال مقابلة تلفزيونية، في أعقاب الحادثة قال فيها: «وزارة الداخلية تفتقد إلى التجهيزات الكافية التي تمكنهم من مجابهة مثل تلك التحركات، فقبل موعد المظاهرة لم يتوفر للمصالح الأمينة سوى 48 عربات فقط لنقل افراد مكافحة الشغب ما دفعهم إلى الاستنجاد بحافلات النقل العمومي التي كانت معرضة للتحطيم والتكسير كما يوجد قصور في سريان المعلومات والمعطيات أثناء تلك المواجهات. القوات الأمنية تلقت طعنة من الخلف من طرف المنظومة السياسية على جميع المستويات، من خارج وزارة الداخلية ومن داخلها». كان حديث الجبالي غامضاً ومبهماً، خاصة عندما تحدث عن طعنة من خارج الوزارة وخاصة من داخلها! (16)

وفيما كانت المواجهات تدور في فناء السفارة ومحيطها، كانت فرقة من وحدات مكافحة الإرهاب تحاول اعتقال سيف الله بن حسين – أبو عياض – من بيته في ضاحية حمام الأنف جنوب العاصمة. يقول بن حسين في شهادة لاحقة: «خلال عملية الهجوم على السفارة قامت قوات الأمن بمداهمة يبت عائلتي. كانوا يريدون اعتقالي لإيجاد جو من الاحتقان داخل التيار السلفي وتحدث الفوضى ولجر شبابنا إلى الصدام. لأن ليس عليّ العريض فقط من يسير الداخلية، ونحن متأكدون من ذلك. لماذا رفضت وحدات التدخل يوم 14 سبتمبر تأمين السفارة بقيت في ثكناتها مشترطة أن تستعمل مباشرة الرصاص الحي؟ هناك شق استئصالي في وزارة الداخلية لم يتمكن عليّ العريض منه» (17). ويظهر هنا أن جناحاً داخل حركة النهضة وعلى رأسه رئيسها راشد الغنوشي والرئيس المرزوقي وفريقه الرئاسي وقيادة أنصار الشريعة كانوا جميعاً، يحملون يقيناً صافٍ بأن «وراء الهجوم على السفارة الأمريكية أيادي غير بريئة، وأن قيادات أمنية ذات ولاءات أخرى تركت الحبل على الغارب، وفسحت المجال للمتظاهرين الغاضبين ليقع ما وقع، كي تحرج حكومة الترويكا مع الداعم الأمريكي، وتساهم في إسقاطها». ودون مواربة وبوضوح كانت أصابع الاتهام تتجه نحو القيادات الأمنية العليا في وزارة الداخلية، ومن ورائهم جميعاً الرجل المثير للجدل، كمال لطيف. هكذا كانت الأمور تقال في المجالس الداخلية للحركة النهضة.

وإن كان تركيز حركة النهضة على تورط لطيف وجناحه داخل وزارة الداخلية، في الحادثة، فإن الرئيس المرزوقي يعتقد بتورط وزارة الدفاع في المؤامرة. فبعد ساعات قليلة من الهجوم ظهر الناطق الرسمي باسم رئاسة الجمهورية، عدنان منصر في تصريحات للمجلة الأمريكية «تايم» قال فيها: «إن رئيس الجمهورية المؤقت أرسل المئات من رجال الأمن الرئاسي لتفريق المتظاهرين من أمام السفارة الأمريكية فيما عجزت قوات الأمن والجيش على التحكم في الانفلات الأمني». كانت تصريحات المرزوقي وفريقه، اتهامات غير مباشرة لوزير الدفاع وقائد الجيش بالتقصير، الأمر الذي دفع بالزبيدي لوضع استقالته يوماً بعد الهجوم على طاولة رئيس الحكومة محملاً كل المسؤولية لوزارة الداخلية: «كنت أنوي تقديم استقالتي يوم 15 سبتمبر 2012 بعد يوم واحد من أحداث السفارة الأمريكية، بسبب الإجراءات المتأخرة التي تم اتخاذها لحماية السفارة. فوزارة الداخلية لم تتصل بوزارة الدفاع إلا بعد ساعة ونصف من وقوع تلك الأحداث وهو ما يطرح تساؤلات كثيرة» (18).

لم يتوقف صراع المرزوقي – الزبيدي عند وقائع الهجوم على السفارة، بل تطور إلى قضية أشد خطورة، وهي عملية «إنزال قوات المارينز». بدأت القصة عندما ظهر الرئيس المرزوقي على شاشة الجزيرة القطرية بعد حوالي خمس سنوات من الحادثة قائلاً: «من الغد اتصل بي وزير الدفاع عبد الكريم الزبيدي متحدثاً عن إمكانية السماح بإنزال عسكري أمريكي» (19). حديث المرزوقي المقتضب حول الإنزال الأمريكي فصلها مدير ديوانه الرئاسي عماد الدايمي في شهادة نشرها لاحقاً قال فيها: «كنت مع الرئيس المرزوقي عندما اتصلت به هيلاري كلينتون في حدود السادسة وكانت في حالة كبيرة من الارتباك وطمأنها بأن الامن الرئاسي بصدد التدخل وان الامور ستتجه الى الحل. وطلبت منه ارسال فيلق للتدخل ورفض ذلك مؤكدا أن الامن الرئاسي سيؤمن السفارة والسفير ولا حاجة لأي دعم خارجي. قرابة العاشرة مساء اتصل بي الوزير عبد الكريم الزبيدي وأعلمني بأن هناك طلب لوصول طائرتي شحن أمريكيتين قادمتين من ألمانيا وطلب مني ارسال فاكس من الرئاسة يسمح بنزولهما. استغربت سلوك الوزير نظراً لأنها المرة الاولى التي يطلب فيها مثل هذا الطلب، وفهمت أن الموضوع غير عادي. دعوت المستشار العسكري العميد الوشتاتي وكلفته بالتقصي في الموضوع. وأعلمنا الرئيس الذي حرص بشدة على التثبت من ألا تكون العملية لانزال قوات كومندوس والحال أنه أبلغ كلينتون بالرفض القاطع للطلب. عاودت الاتصال بالزبيدي وطلبت منه تفاصيل الرحلتين وشحنة الطائرتين. أعلمنا رسميا أن الطائرات تضمان 16 عون لحراسة السفارة من الداخل لتعويض الاعوان المصابين والمصدومين وتعزيز الحماية. كما تضمان عددا من السيارات لصالح السفير وطاقمه بعد احتراق أغلب سيارات السفارة. وعلى أساس معطيات الوزير أرسلت اليه فاكس قلت فيه أن مصالح رئاسة الجمهورية، بناء على طلب وزارة الدفاع، لا ترى مانعاً في الاذن للطائرتين بالنزول، على ان يتم القيام بكل الاجراءات المعهودة ... واتصل الوزير مجددا ليطلب الغاء جملة "بناءً على طلب وزارة الدفاع" وأصررت على أن تبقى نظراً لأن الطلب جاء من الوزارة فعلا. وتم الامر كذلك». (20)

لكن شهادة الدايمي جاءت مليئة بالتناقضات في مستوى التفاصيل. فوفقاً لشهادة المرزوقي فإن هيلاري كلينتون اتصلت به مرتين، الأول عند الساعة الحادية عشر صباحاً والثانية عند الساعة الثانية ظهراً، فيما يتحدث الدايمي عن اتصال ثانٍ في الساعة السادسة، مع أنه يؤكد ملازمته للرئيس طيلة ذلك اليوم. وفي نقطة ثانية أشد تناقضاً وغرابة، يتحدث الدايمي عن دعوته للمستشار العسكري للرئيس العميد إبراهيم الوشتاتي للتقصي والتدقيق في طلب وزير الدفاع الزبيدي للإذن بإنزال عسكري أمريكي، مع أن الرئيس المرزوقي لم يعين العميد الوشتاتي مستشاراً عسكرياً له، إلا في 22 سبتمبر 2012، وفقاً بلاغ رسمي لرئاسة الجمهورية، أي بعد حوالي أسبوع من هجوم السفارة الأمريكية !!

لكن الزبيدي يقلب شهادة الدايمي رأساً على العقب. فرداً على المرزوقي وفريقه يقول: «اتصل بي مدير ديوان رئيس الجمهورية عماد الدايمي وأعلمني بأن رئيس الجمهورية يخبرني بأن مسؤولين أمريكيين منهم وزيرة الخارجية الامريكية هيلاري كلينتون والبنتاغون طالبوا بإلحاح كبير بإنزال عسكري امريكي بالأراضي التونسية. فأعلمته برفضي الطلب، لأن القوات الأمنية والعسكرية تمكّنت من السيطرة على الوضع ولأن وزارة الدفاع لا تقبل مثل هذا التدخّل، فقال لي “كيفاش نعملو؟” فأجبته “لا… لا. قلت للدايمي ليست لي بك أية علاقة وعلى رئيس الجمهورية أن يتصل بي بصفة مباشرة، وإن كان يريد فعليه أن يرسل مكتوباً وحتى بن علي كان يتصرف هكذا مع وزارة الدفاع. فرد عليا” هذا حنين الى الماضي” فقلت له “سمّ هذا ما شئت ... وقد أعلمته بأن أفريكوم أرادوا أكثر من مرة الدخول إلى تونس وأنه منذ انبعاث هذا الجهاز كان الامريكان يحلمون بالتمركز بتونس وإن كل الدول المجاورة رفضت مطالبهم بما في ذلك الجزائر والمغرب وإن تونس لن تقبل بالتّفريط في أي شبر من أرضها. وقلت له ان المارينز يريدون النزول في تونس والبقاء فيها بلا رجعة. ثم اتصل المرزوقي بالجنرال رشيد عمار وأكد له إن الامريكان طلبوا منه إنزال بعض عناصر المارينز في تونس، ليعلمه عمار بان له ” وزير هو مرجع نظره”. وقد طلب رشيد عمار بدوره من المرزوقي أمراً كتابيا. على الساعة الحادية عشرة ليلاً اتصل بي مدير ديواني في وزارة الدفاع وأعلمني انه تلقى مكتوباً يفيد بأن العشرات من عناصر الدعم الامريكي سيصلون الى تونس. وقال لي إن المكتوب تضمن إعلاما بأن هناك دعما لوجستيا وبشرياً أمريكيا سيصل إلى تونس، فطلبت منه حرفيا أن يكتب أنه وردت على وزارة الدفاع الوطني وثيقة على الساعة الحادية عشرة ليلا و9 دقائق تضمنت تلك المطالب الامريكية. بالفعل قد حطت طائرة بتونس وبها عناصر المارينز وكان عددهم يقدر بالعشرات وقد وصلوا تحديداً على الساعة الثانية صباحاً من اليوم الموالي الذي تلا أحداث السفارة الامريكية. وقد أمرت الوحدات العسكرية بتدقيق وتفتيش وجرد كل عتاد المارينز وخصوصاً أسلحتهم، وقد استقبلهم في ثكنة العوينة أين حطت طائرتهم الهادي بلعباس الذي كان يشغل وقتها منصب كاتب دولة لدى وزارة الخارجية وينتمي في نفس الوقت لحزب المؤتمر من أجل الجمهورية. ثم بعدما باءت محاولات مدير الديوان الرئاسي ورئيس الجمهورية في اقناعي بقبول دخول قوات المارينز في تونس بالفشل، تم الاتصال بي من قبل مستشار رئيس الحكومة حمادي الجبالي وقد سألني ما إذا كانت هناك امكانية لانزال مارينز بتونس وقد أجبته “إن نزل عسكري أمريكي واحد بتونس سأقدم استقالتي. وقد أعلمني مستشار رئيس الحكومة بأن عدد عناصر المارينز الذين سيحلون بالبلاد يقدر ب 300 عنصر تقريبا مؤكدا انه تم “تلطيف” العدد إلى العشرات وتغيير صفتهم من “مارينز” الى حراس لحماية السفارة لإنقاذ الموقف والتمويه. وفي صباح اليوم الموالي وجدت الوثيقة التي أعدتها رئاسة الجمهورية. ثم دعا المرزوقي لاجتماع عاجل حضر فيه رئيس المجلس التأسيسي مصطفى بن جعفر ووزير الداخلية علي العريض وزير العدل نور الدين البحيري والجنرال رشيد عمار. وقد قلت في كلمة خلال الاجتماع إنه من غير المعقول اتخاذ قرارات تهم أمن البلاد بلا تنسيق بين مختلف الاطراف المتداخلة وقد ذكرت المرزوقي أمام الجميع بأنني رفضت إنزال “المارينز” في تونس ليلة الواقعة التي جدث بالسفارة الامريكية». (21)

في السياق نفسه، يؤيد قائد الجيش، الجنرال رشيد عمار شهادة رئيسه المباشر، عبد الكريم الزبيدي قائلاً: «المرزوقي وحاشيته هم من طالبوا باستقدام المارينز إلى تونس عقب أحداث السفارة الأمريكية. وقد أعلمت وزير الدفاع عبد الكريم الزبيدي أنني سأمر بإطلاق النار على كل طائرة إنزال أمريكية تدخل جنوداً أمريكيين إلى تونس. فالقيادي في حزب المؤتمر وكاتب الدولة لشؤون الأمريكيتين آنذاك، الهادي بلعباس، كاد يستوطن السفارة الأمريكية في تونس في تلك الأيام». (22)

لكن هادي بن عباس، الذي استقبل، وفقاً لشهادة وزير الدفاع عناصر المارينز في المطار العسكري بالعوينة والقريب من السفارة الأمريكية – بحسب شهادة الجنرال عمار -قد نفى في اليوم التالي للحادثة أن يكون المارينز قد دخلوا تونس أصلاً، مشيراً في تصريحات لإذاعة شمس المحلية أن «كل ما في الامر هو أن الولايات المتحدة الأمريكية طلبت تعزيز الأمن الداخلي لها وتمَّ في هذا الصدد إعطاءهم كل الضمانات وتوفير الحصانة الخارجية.فقد تمّ تعويض 16 عون حراسة أمريكي أُرهقوا ب 16 آخرين حلّوا بتونس لتعويضهم. فالإيحاء بفكرة أن هناك مارينز كانوا سيلتحقون بتونس خطير ولابدّ من المسؤولية خاصّة فيما يتعلّق بالأمور الأمنية وعلاقتنا مع الولايات المتحدة الأمريكية أو أي بلد أخر أجنبي».

في الحقيقة لم يكن صراع الطرفيين حول دخول قوات المارينز الأمريكية، والمتسبب فيه، صراعاً حول الدفاع عن سيادة البلاد، بقدر ما كان ابعاداً للحرج من الرأي العام، شديد الحساسية من أي تدخل أجنبي، وخاصة أمريكي، فما بالك إن كان تدخلاً عسكرياً. وفي الحقيقة أيضاً، كان الطرفان، قيادة الجيش من جهة ورئاسة الجمهورية من جهة ثانية، يتنافسان على إرضاء الطرف الأمريكي. بدا المرزوقي شديد السعادة لأن قوات الأمن والجيش لم تسبق قوات الأمن الرئاسي لإنقاذ طاقة السفارة وإجلاء السفير. في المقابل بدا الجنرال عمار غاضباً لأنه لم يحز ذلك «الشرف العظيم».

شهادة المرزوقي، الجدلية حول الأحداث، والتي جاءت متحاملةً على وزير الدفاع، عبد الكريم الزبيدي، وقائد الأركان، رشيد عمار، كان لها خلفيتها السياسية. لم تكن الغيرة على السيادة الوطنية بيت القصيد في تلاسن الطرفيين. كان الصراع حول السيطرة على المؤسسة العسكرية محتدماً حينذاك، بين جناح في السلطة يقوده حمادي الجبالي داعماً لرشيد عمار، وجناح ثان يمثله المرزوقي، يريد تصعيد قيادات عسكرية موالية له. والغريب أن في جناح المرزوقي كان هناك قيادات نافذة في حركة النهضة مناهضة للجبالي وتريد إعادة هيكلة قيادة الجيش، بل إن الشيخ راشد الغنوشي وإلى ذلك الوقت لم يكن راض تماماً على رشيد عمار ويرى فيها تهديد محتمل ضد حكومة الترويكا وحركة النهضة.

«تفاقم الصراع بين المرزوقي والجبالي، بسبب اختلاف الاستراتيجيات الشخصية تجاه الجيش. ففي حين كان المرزوقي يرغب في إبعاد شخصيات حقبة بن علي، مثل الجنرال عمّار ووزير الدفاع آنذاك الزبيدي، رفض الجبالي ذلك، بحجة أن الحفاظ على الجيش كما هو، كان محورياً لاستقرار البلاد. التنافس بين الجبالي والمرزوقي دفع كل مسؤول تنفيذي، إلى تعيين مستشارين عسكريين ومجالس استشارية لمساعدتهم على إدارة الجيش، وإضفاء الطابع المؤسسي على القنوات اللامركزية لتنظيم القوات المسلحة. بدلاً من تفعيل مجلس الأمن القومي -والذي كان سيرأسه المرزوقي بموجب القانون، أنشأ الجبالي وترأس مجلس الأمن. كان هذا المجلس يتألف من وزراء الدفاع والداخلية والخارجية وكبار ضباط وزارة الداخلية وأرفع ضابطين في الجيش، رئيس أركان القوات المسلحة -رشيد عمّار في ذلك الوقت-والمدير العام للأمن العسكري -يومها كان كمال العكروت. وكان الرئيس غائباً عن مجلس الأمن، ولم يكن ممثّلاً فيه. عندما بدأت حكومة الترويكا عملها للمرة الأولى، كان رشيد عمّار لايزال يمثّل مركز القوة في الجيش. بدا عمّار متحالفاً مع الجبالي، فشعر المرزوقي بأنه معزول نسبياً عن دائرة صنع القرار. احتلّ هذا الشعور موقع الصدارة في صيف العام 2012 في قضية رئيس الوزراء الليبي السابق، البغدادي المحمودي(23)، والتي هدد المرزوقي، في أعقابها، بالاستقالة بسبب شعوره بالغضب إزاء تهميشه بهذه الصورة، بيد أنه جرى إقناعه بالبقاء في منصبه بعد تلقّي اعتذار من رئيس حركة النهضة راشد الغنوشي. كما اتهم المرزوقي الجنرال رشيد عمّار، الذي زعم أنه كان على علم بعملية التسليم لكن لم يبلغه. هذه الحادثة زادت من انعدام ثقة المرزوقي بالجبالي وعمّار وأقنعته بالتصدّي في الوقت نفسه لهيمنة الجبالي على عملية اتخاذ القرار وسيطرة عمّار على الجيش». (24)

«بدأ المرزوقي بإنشاء منصب المستشار العسكري في سبتمبر 2012، -وعين فيه العميد إبراهيم الوشتاتي -وبذلك أضفى لأول مرة طابعاً مؤسّسياً على دور الجيش في مكتب الرئيس. وبينما كان المرزوقي بالفعل رئيس المجلس الأعلى للجيوش فقد بات يشعر بضرورة التفاعل مع ضباط آخرين. كان هدف المرزوقي ببساطة أن يظل على علم بالمسائل العسكرية، بيد أن ذلك تسبّب بحصول احتكاك مع الجنرال عمّار، الذي وفقاً لما ذكره المتحدث الرئاسي، "أراد أن تكون له سلطة التحكم بالمعلومات عن الجيش" التي تُعطى إلى الرئيس. وبناءً على نصيحة من الوشتاتي عمد المرزوقي إلى إحياء مجلس الأمن القومي، الذي لم يكن يجتمع، بعد العام 1991، سوى مرة واحدة أو مرتين في السنة. ضم مجلس الأمن القومي جميع أعضاء مجلس الأمن الذي يرأسه الجبالي بالإضافة إلى الرئيس، الأمر الذي مكّن المرزوقي من استعادة صوته في السياسة الدفاعية. ووفقاً إلى مسؤولين في الإدارة، فقد كان مجلس الأمن القومي ينعقد بصورة شهرية تقريباً في عهد المرزوقي. كما زاد الرئيس عدد ضباط الجيش في المجلس، ربما بهدف إضعاف نفوذ عمّار أكثر. وزيادة على عمّار وعكروت، دعا المرزوقي بشكل روتيني الجنرالات الثلاثة الكبار التالين كذلك: رؤساء أركان القوات البحرية والجوية والمفتش العام للقوات المسلحة. في أعقاب تشكيل الجبالي مجلس الأمن، وقيام المرزوقي بتعيين مستشار عسكري للرئيس وإحياء مجلس الأمن القومي، أصبحت عملية اتخاذ القرار في المسائل العسكرية مشتّتة أكثر فأكثر». (25)

كان رئيس الحكومة حمادي الجبالي في حالة صراع شبه مكشوف مع الرئيس المرزوقي، حول الصلاحيات الأمنية وحول السيطرة على أجهزة الدولة القوية. لكنه في المقابل كان يخوض صراعاً خفياً مع وزير الداخلية، ورفيقه في الحركة، عليّ العريض. منذ تشكيل حكومته، نهاية العام 2011، أصر الجبالي على وضع وزير الداخلية السابق، الحبيب الصيد، وزيراً للداخلية. لكن المرزوقي هدد حينذاك بفض التحالف مع النهضة معتبراً الصيد من أزلام النظام السابق. تراجع الجبالي، عن ذلك، لكنه وضع الصيد مستشاراً له مكلفاً بالشؤون الأمنية برتبة وزير. كان حمادي الجبالي، بخلقه لهذا المنصب، يريد مركزة السلطة في قصر القصبة، من خلال إعطاء صلاحيات للمستشار الأمني هي في الحقيقة للقيادات الأمنية في وزارة الداخلية. لكن العريض كان له حساب أخر. كان يريد أن يمسك بالجهاز الأمني منفرداً.

ويروي الحبيب الصيد عن تلك الفترة قائلاً: «كان عملي، من المفترض، أن يكون مقتصراً على التنسيق بين قوات الأمن الداخلي والجيش الوطني. فيما كان رئيس الحكومة وأعضاء أخرين من حركة النهضة يريدون إعطاء دو كبير للمستشار الأمني لدى رئيس الحكومة، ويريدون عدة أشياء كان يجب أن تقع ضمن صلاحيات وزارة الداخلية ووزارة العدل، أن تكون ضمن صلاحيات ومسؤوليات المستشار الأمني. كانوا يريدون تشكيل هيكل كبير، على مستوى رئاسة الحكومة، يعتني بالجيش والأمن. حينذاك، لم يكن عندي أي علم بالخلاف العميق بين حمادي الجبالي وعلي العريض. لكن بعد فترة بدأت أحس بذلك، من خلال الاجتماعات التنسيقية اليت نعقدها مع وزارة الداخلية، وكنا نأخذ فيها قرارات وبرامج، ضمن المجلس الأعلى للأمن – الذي شكله الجبالي – لكنها لم تكن تطبق». (26)

في الحقيقة، كان الصراع بين الجبالي والعريض حول السيطرة على الأجهزة الأمنية والجيش، يخفي صراعاً أخر بين جناحيين داخل حركة النهضة. كان صراعاً حول الحركة ومراكز القوى فيها، يدور حول ولاءات ذات طابع جهوي. بين تيار إسلامي ينتمي لجهة الساحل، يشعر بأنه أقلي على مستوى القاعدة، لكنه يملك مواقع في القيادة، في مقابل تيار أخر ينحدر من الجنوب، وخاصة الجنوب الشرقي، يقوده العريض، يرى أنه أغلبي وبإمكانه السيطرة على مفاصل السلطة داخل التنظيم. كانت جلسات مجلس الشورى والمكاتب التنفيذية داخل الحركة، في تلك الأيام، عاصفةً إلى أبعد الحدود. حتى أن أعضاء في مجلس الشورى، صاحوا في وجه الجبالي، أمين عام الحركة ورئيس الحكومة حينذاك: «نحن وضعناك في الحكم ونحن من نقرر من تعيين. ماذا تفعل !!». كان الجبالي يشعر بأنه رئيس حكومة بلا حول ولا قوة، كان يريد الخروج من سلطة مونبليزير، لكنه أخرج من السلطة ومن الحركة.

اليوم التالي
بعد ساعات قليلة من الهجوم على السفارة، ظهر الرئيس التونسي، منصف المرزوقي، على التلفزيون الرسمي موجهاً كلمة مقتضبةً للشعب، وخاصة للإدارة الأمريكية والرأي العام الدولي، قال فيها: «إنّ أعمال الشغب والعنف التي قامت بها الجماعات السلفية في السفارة الأمريكية تجاوزت كل الخطوط الحمراء. أحمل الحكومة المسؤولية كاملة لوقف هذا الخطر الداهم الذي أصبح لا يهدّد فقط الحقوق والحريات التي اكتسبها الشعب التونسي وإنّما أيضا على العلاقات الدوليّة وصورة تونس في الخارج ومصالحها الحيوية». (27)

رئيس حركة النهضة، راشد الغنوشي، هو الأخر ظهر في وسائل الإعلام وقد صب جام غضبه على السلفيين. ودعا الدولة التونسية إلى اعتماد الحزم بعد الهجوم على السفارة الأميركية. وقال الغنوشي في مقابلة مع وكالة الأبناء الفرنسية: «في كل مرة تتجاوز فيها أحزاب أو مجموعات بطريقة واضحة الحرية، يجب اعتماد الحزم والإصرار على فرض النظام، هؤلاء الناس يشكلون خطراً ليس فقط على النهضة وإنما على الحريات العامة في البلاد وعلى أمنها». (28)

لكن أحداً من قوى السلطة لم يتحدث في العلن عن صراع أجنحة في وزارة الداخلية أو مؤامرة حصلت يوم الهجوم، كما كانوا يتحدثون في مجالسهم واجتماعاتهم المغلقة. لكن أبو عياض، أمير أنصار الشريعة، اتهم بشكل واضح الأجهزة الأمنية بأنها تقف وراء الحادثة. وقال في أول خطبة له بعد الحادثة: «لماذا وقع إخلاء السفارة فجأة من الحراسة التي كانت مضروبة عليها؟ إنها لعبة سياسية من أجل أن يقع ما وقع. إن من دعا إلى الخروج الجمعة الماضية لم يكن تيار السلفية الجهادية فحسب، بل جميع شرائح المجتمع التونسي. فالحكومة والأحزاب المتصارعة على الحكم، يحاولون الضرب على وتر السلفية والعنف، بهدف تأجيل الانتخابات المقررة مبدئيا في مارس 2013. هناك لعبة سياسية، يريدون أن يوجدوا حلاً لإشكالية يوم 23 أكتوبر/تشرين الأول القادم، لكن لن تكون اللعبة على أكتافنا». (29)

في إشارة منه إلى نزاع الشرعية، الذي اندلع صيف العام 2012، بين حكومة النهضة والمعارضة. فقوى المعارضة كانت ترى أن تفويض النهضة للحكم بعد استحقاق العام 2011 لا يتجاوز سنة واحدة لصياغة الدستور، فيما كانت النهضة وحلفائها يرون أن التفويض ليس محدداً بعهدة معينة. حيث كان مفترضاً أن ينتهي المجلس الوطني التأسيسي -المنبثق من انتخابات 23 أكتوبر 2011 والمكلف بصياغة الدستور الجديد، من صياغة الدستور في نفس اليوم من العام 2012. وكانت هذه النقطة محل صراع كبير حينذاك، وتحدٍ مصيري للحركة الإسلامية.

شعر السلفيون أنهم طعنوا في الظهر من النهضة. بدا أبو عياض عنيفاً في رده على الحركة، لكنه كان دائماً يشير إلى وجود جناح داخل النهضة يقوده وزير الداخلية علي العريض، يريد التخلص منهم، وفي الوقت نفسه يحاول استمالة جناح أخر داخل الحركة الحاكمة لكسب مزيداً من مساحات التحرك والوقت، فقد كان يعمل في السرية لمراكمة السلاح والاستعداد للمعركة القادمة. لكن الغنوشي، الذي هاجم، من خلال إحدى أكبر وكالات الأنباء الغربية السلفيين واتهمهم بالعنف، أبقى الباب موارباً ولم يقطع شعرة معاوية معهم نهائياً. وفي المقابلة نفسها قال مجيباً عن سؤال، حول الاعتقالات التي طالت عناصر وقيادات سلفية في أعقاب هجوم السفارة: «أن نعتقل منهم بالجملة بتهمة الانتماء إلى التيار السلفي الجهادي، فذلك غير قانوني. هؤلاء ليسوا فوق القانون والقانون يسري عليهم كما يسري على غيرهم. لسنا في حرب مع أفكار أو تنظيمات نحن في حرب مع من يتجاوز القانون سواء كان اسلامياً أو علمانياً. فهذه المجموعات السلفية، ليست منتوجا نهضوياً بل منتوج بن علي، أعطتهم النهضة الحرية كما أعطتها لغيرهم». (30)

مع أن الغنوشي نفسه قال قبل سنتين فقط من ذلك التاريخ، وتحديداً في العام 2010، عندما سئل عن الشباب السلفي في تونس، وحركة الصحوة السلفية، التي نشأت وتطورت فيما كانت النهضة غائبةً في المنفى: «هؤلاء أبناؤنا. لو نظرت لهذا الجيل الجديد من الصحوة، وفركت تحت جلودهم لوجدت اواحد منهم قريباً نهضوياً، خالاً أو جداً أو عماً. فالصحوة الحالية في البلاد لا يمكن قطعها عن الحركة الإحيائية التي قادتها النهضة في الثمانينات، فالحركات لا تولد من عدم». (31)

حاولت حركة النهضة والمنصف المرزوقي كل من جانبه، في أعقاب هجوم السفارة، الدخول على خط الخلافات السلفية – السلفية، والمفاصلة بين تيار سلفي يمكن أن رافداً للتحالف الحاكم، وتيار سلفي متمرد يجب عزله بالقدر الكافي، من خلال خطة كبيرة لإخلاء البلاد منه، ودفعه للهجرة بعيداً نحو بؤر ملتهبة في المشرق العربي وأقله إلى الجارة ليبيا.

بموازاة خطة التخلص من السلفيين المتمردين، وتدجين السلفيين المهادنين، اجتمع رئيس حركة النهضة راشد الغنوشي برئيس الحكومة، حمادي الجبالي، ووزير الداخلية علي العريض وعدد من القيادات البارزة، المتخصصة في الشأن الأمني، بينهم رضا الباروني وسيد الفرجاني، لتقيم الموقف. كان رأي الغنوشي أن خرقاً أمنياً في وزارة الداخلية يجب أن يرتق. وأن كمال لطيف مازال يملك جناحاً قوياً في الوزارة. لم يكن رأي الغنوشي بعيداً عن الواقع. كان للطيف عيون وأذان وأيدي طويلة في وزارة الداخلية وفي الكثير من شبكات ومصالح الدولة. فقد استقر لدى قيادة الحركة يقيناً بأن القيادات الأمنية المحسوبة على الرجل، قد ورطت حكومة الترويكا في كارثة السفارة لإسقاطها، واستشعرت، أنها لو تركت الأمر يمر دون حساب فإن «المؤامرة» القادمة ستأتي برأسها. لذلك قررت أن «تقطع الرأس كي تجف العروق».

تواصلت الاجتماعات بشكل يومي داخل حركة النهضة بشأن الملف ذاته، وكان السؤال كيف يمكن تقليم أظافر لطيف. كان الغنوشي يطالب فريقه، بأن يتم إيقاف هذه الخرق بأسرع وقت وباعتماد مسالك ذات غطاء قانوني، لا تحرج الحركة وتحقق المطلوب. اشتغل الجهاز الخاص بشكل دؤوب على الملف، وقد ظهر مصطفى خضر، مسؤول الجهاز في تسجيل صوتي ضمن ملف قضية اغتيال محمد البراهمي، لاحقا، يتحدث مع ضابط في الأمن وأحد عناصر الجهاز الخاص، حول قضية الإرسالات المشفرة، التي أثيرت في العام 2011 واتهم فيها كمال لطيف بالتآمر على أمن الدولة. لكن الحل جاء من وزير العدل، نور الدين البحيري، على الرغم من علاقته الكبيرة بلطيف في السابق.

المستشار الخاص لوزير العدل، سيد الفرجاني، الرجل الخطير والذي كان مشرفاً على ملف «التفاوض الإبتزازي» مع رجال الأعمال المقربين من النظام السابق، أشرف على تنسيق ملف كمال لطيف (32). عاد إلى قضية العام 2011، وتواصل مع رجل الأعمال المثير للجدل شفيق جراية والمحامي الشريف الجبالي، الضابط السابق في وزارة الداخلية وعدد من الضباط السابقين في الأجهزة الأمنية المناوئين للطيف لاستعادة مسار التقاضي، ولجر أكبر عدد من رجال لطيف داخل وزارة الداخلية إلى المحاكم هذه المرة والتخلص منهم دفعة واحدة.

فبعد أن مكثت قضية التآمر في أدراج قاضي التحقيق منذ جويلية 2011، في عهد حكومة الباجي قائد السبسي، صديق لطيف. فجأة وبعد أيام قليلة من أحداث السفارة الأمريكية، قام قاضي التحقيق المكلف بالملف في 17 أكتوبر 2012، بإصدار قرار في اطّلاع وكيل الجمهورية على أوراق البحث. وبعد يومين فقط من ذلك، أقال رئيس الحكومة حمادي الجبالي، مدير عام الأمن الوطني، محمد نبيل عبيد، أحد المحسوبين على كمال لطيف داخل الوزارة، اعتماداً على معلومات رفعتها حركة النهضة بأن عبيد قد أغلق هاتفه خلال الهجوم على السفارة. كما أضيف إلى ملف التحقيق في قضية التآمر، المتهم فيها كمال لطيف «أنّ كلّا من نبيل عبيد المدير العامّ للأمن الوطني حينها وتوفيق الديماسي المدير العام السابق للأمن العمومي والمدير العام للمصالح المشتركة، حبنها، قد أغلقا هواتفهما الجوّالة أثناء أحداث السفارة الأمريكية يوم 14 سبتمبر 2012 حوالي الواحدة بعد الزوال إلى حدود الساعة الثالثة ظهراً». (33)

وفي 22 أتوبر 2012 أدلى المدير المركزي السابق للاستعلامات العامة بوزارة الداخلية، سامي جاء وحدو، بشهادته أمام قاضي التحقيق التي قال فيها : «كمال اللطيف نجح في تكوين شبكة من العملاء داخل وزارة الداخلية الذين يعملون لمصلحته الخاصة وينفذون برامجه الامنية والسياسية، فكافأهم بتعيين المخلصين منهم في مراكز أمنية عالية صلب الوزارة من ذلك أنه تمكن بعد ثورة 14 جانفي مباشرة من إقصاء عدد هام من الإطارات الأمنية، التي لا تدين بالولاء له كما كان له دور في عزل وزير الداخلية في عهد المخلوع رفيق بلحاج قاسم وتعيين فرحات الراجحي والحبيب الصيد، وكان له الدور الفصل في تعيين المديرين العامين خلفاً لمن تم عزلهم مباشرة بعد الثورة ليتمكن من التحكم في مفاصل الوزارة إذ كان وراء تعيينات سابقة على غرار نبيل عبيد مديراً عاماً للأمن الوطني وتوفيق الديماسي مديراً عاما للأمن العمومي وتوفيق بوفريحة مديراً للعمليات الفنية ولسعد دربز مديراً عاماً لتعاونية الأمن ورشاد محجوب مديراً لإقليم تونس وعماد الدغار مديراً للاستعلامات وتوفيق بوعون مديراً للأمن السياحي وعماد عاشور مدير أمن الدولة ومالك علوش رئيس الإدارة الفرعية للأمن السياحي ومراد السباعي مدير الشرطة العدلية وصابر العجيمي رئيس الإدارة الفرعية للأبحاث الاقتصادية والمالية وياسين التايب مدير المصالح الفنية الأسبق ومدير عام التفقدية العامة حالياً، وغيرهم من الإطارات الأمنية. هذه العلاقات مع قياديين أمنيين مكنت اللطيف من التحكم في ملفات الفساد ومسك ملفات أمنية على رجال أعمال واستغلها في ابتزازهم للحصول على أموال طائلة كما مكنته من الاطلاع عن كثب على مختلف القرارات الحساسة ومتابعة سير دواليب الدولة بما مكنه من التحكم في الحياة السياسية من خلف الستار وتحريك الأحداث عبر أحزاب له السيطرة على قياداتها». (34)

ثم تتالت الأحداث. فالقضية التي مكثت في الأرشيف أكثر من سنة ونصف، أخذت منعرجاً خطيراً في ظرف أيام قليلة. ففي 19أكتوبر 2012، طلبت النيابة العمومية بالمحكمة الابتدائية بتونس من قاضي التحقيق المتعهّد بالملف توجيه تهمة التآمر الواقع لارتكاب أحد الاعتداءات ضدّ أمن الدولة الداخلي طبق الفصل 68 من المجلة الجزائية ضدّ كلّ من عسى أن يكشف عنه البحث وإصدار البطاقات القضائية اللازمة بعد سماع عدد آخر من الشهود.

وفي 25 أكتوبر 2012، قام قاضي التحقيق بإصدار قرار بتحجير السفر على كمال اللطيف ومواصلة الابحاث في القضية. وفي 2 نوفمبر أصدر قاضي التحقيق بالمكتب الخامس بالمحكمة الابتدائية بتونس بطاقة جلب ضد لطيف. وقامت قوات أمنية بمحاصرة بيته لتنفيذ بطاقة الجلب. وفي أثناء ذلك، ظهر راشد الغنوشي في مقابلة تلفزيونية على قناة الحوار المحلية متوعداً لطيف بالمحاسبة، قائلاً: «كمال لطيف ليس بعيدا عن المحاسبة وستطاله عاجلاً أم أجلاً. الحكومة الحالية هي أول حكومة بادرت بمواجهة لطيف ووجهت له التهم بالاعتداء على أمن الدولة، وفي الوقت الذي وجهنا له الاتهام صمتت الحكومات التي سبقتنا عن محاسبته».


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.