سعيد :الفلاحة جزء من الأمن القومي والواجب يقتضي تذليل كلّ الصّعوبات أمام صغار الفلاّحين    ‌الخارجية السعودية: نأسف لما قامت به دولة الإمارات من ضغط على قوات الانتقالي الجنوبي    كأس أمم إفريقيا.. ملامح الدور ال16 تتشكل بتأهل 14 منتخبا    طقس الثلاثاء: أمطار متفرقة وانخفاض طفيف في الحرارة    وفاة خالدة ضياء زعيمة المعارضة وأول رئيسة وزراء في بنغلاديش    ترامب: "حزب الله" يتعامل بشكل سيئ وسنرى ما ستسفر عنه جهود نزع سلاحه    مرطّبات ولحوم وأسماك فاسدة قبل ساعات من رأس السنة.. هيئة السلامة الصحية تكشف حصيلة رقابية مقلقة    سامي الطرابلسي: سنواجه تنزانيا من أجل الفوز وليس التعادل    رئيس الجمهوريّة :الفلاحة جزء من الأمن القومي التّونسي، والواجب الوطنّي المقدّس يقتضي تذليل كلّ الصّعوبات خصوصا أمام صغار الفلاّحين    «صاحبك راجل» في القاعات المغربية    قطاعا الزيت والاعلاف محور لقاء سعيد ببالشيخ وبن عمر والعياري    لدى لقائه وزير النقل.. رئيس الدولة يؤكد بأن ما يحصل في مجال النقل الجوي غير مقبول اطلاقا    جلسة عامة في البرلمان يوم الاربعاء 31 ديسمبر 2025 للنظر في عدد من مشاريع القوانين..    حفل زفاف تيك توكر شهير يتحول لمعركة في مصر    مهازل متواصلة في جامعة كرة القدم انتخابات الرابطة «المحترفة» في خبر كان    مهرجان القنطاوي بحمام سوسة .. شكاوى واتهامات وإيقاف جلسات؟    اعترفت باستشهاد مجموعة من قياداتها من بينهم ابوعبيدة... «حماس» تعلن عدم التخلي عن السلاح    مع الشروق :«أرض الصومال»... خنجر جديد في الجسد العربي    الضحية طبيب نفسي تونسي مشهور في فرنسا .. يقتل والده ويدفنه في حديقة المنزل    لغز «التسفير» يتواصل أمام الاستئناف    انطلاق أشغال ملتقى الأعمال السعودي التونسي بالرياض    طقس الليلة    سوسة: حجز أكثر من طن من المنتوجات البحرية غير صالحة للاستهلاك    "كان" المغرب 2025.. مصر تكتفي بالتعادل أمام أنغولا وتتصدر مجموعتها    وزير الاقتصاد: تونس تكرّس حرية الاستثمار وتضمن حماية حقوق المستثمرين    البنك الوطني للجينات: تركيز ثلاث مدارس حقلية بكل من ولايات سوسة وصفاقس وبنزرت    الدورة 40 لمعرض تونس الدولي للكتاب: تواصل قبول الأعمال المرشحة لجوائز الإبداع الأدبي والفكري وجائزتي النشر إلى يوم 30 جانفي 2026    بقرار قضائي.. هيفاء وهبي تعود إلى الغناء في مصر    منذ بداية ديسمبر: استشهاد 25 فلسطينيا في غزة بفعل الأحوال الجوية..    كيفاش تقرى fiche de paie متاعك؟    دواء معروف طلع ينقص الرغبة في التدخين والكحول... نتائج مفاجئة من دراسة جديدة    ليلة رأس العام بداية من ال 8 متع الليل: ميساج بش يوصل ل 3 ملاين تونسي    حوالي 40 بالمائة من المساحة المحترثة مخصصة للزياتين وتونس تساهم عالميا ب30 بالمائة من التمور    دبي تستضيف حفل جوائز الفيفا للأفضل العام المقبل    وزير التربية يعلن 2026 سنة مطالعة    مدرب تنزانيا: مستعدون لخوض "حوار كروي قوي" ضد المنتخب التونسي    رياض دغفوس : المتحوّر "K" المتفرّع عن فيروس H3N1 لا يشكّل خطورة أكبر من غيره ويجب الالتزام بالإجراءات الوقائية    مدرب تنزانيا :'' أنا فرحان برشا بالتجربة وبالأيامات اللي عديتها في تونس''    تتزعمها ستينية: تفاصيل تفكيك شبكة دعارة..#خبر_عاجل    إدمان قطرات الأنف؟...سرّ خطير علر صحتك لازم تعرفه    عاجل: تركيا.. اعتقال ملكة جمال ومغني راب في قضية مخدرات    التسجيل مازال مفتوح: دورة فيفري 2026 للتكوين المهني تنتظركم    عاجل: شحنات لحوم مبرّدة ملوثة كانت ستباع للتوانسة ...تفاصيل تكشفها غرفة القصابين    ديوان البحرية التجارية والموانىء ينتدب تونسيين    هام/ 6 مؤشرات أساسية لتطمئن على صحة قلبك..    مصنفان بالخطيران جدا ... "مونتيتي" و"الزبراط" في قبضة عدلية سيدي حسين    برشا ماتشوات اليوم: اليك شكون ضدّ شكون الوقت والقنوات الناقلة مباشرة    QNB ينظم ورشة مالية لتلاميذ مدرسة "الشاذلي خزندار" الابتدائية بالزهراء    عاجل/ وفاة طفلة دهستها حافلة قرب شلالات بني مطير..التفاصيل الكاملة للحادث..    عاجل: هذا اللاعب سيحرم من المشاركة في ماتش تونس ضدّ تنزانيا    جدل واسع بعد حفل رادس : تذاكر مرتفعة وشكاوى من سوء التنظيم    شوف شنوا تاكل باش تقوي مناعتك في الشتاء    القيروان: اعتداء جديد على سائق تاكسي فردي يثير مخاوف مهنيّي القطاع    مع الشروق .. التاريخ يبدأ من هنا    استراحة الويكاند    نصيحة المحامي منير بن صالحة لكلّ تونسية تفكّر في الطلاق    أفضل دعاء يقال اخر يوم جمعة لسنة 2025    تونس: مواطنة أوروبية تختار الإسلام رسميًا!    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



"كاليغولا" لفاضل الجزيري: عن الدم والدمع والعدم
نشر في حقائق أون لاين يوم 09 - 12 - 2019

مطر يسقط بعنف على الأرض فيحاكي وقعه صوت الرعد، لا ترى ضوء البرق ولكنّك تستشعره في تفاصيل الركح الأسود الخالي والمقفر إلا من كراس ووسادة بيضاء، خيوط واهية من الضوء تشبه السراب ما إن تتلقفها حتّى تتبدّد من بين يديك ولا تتبيّن الخيط الأبيض من الخيط الأسود.
الخيط الأسود يتمدّد ويتشظّى ويلف المكان ويتلاشى على أعتابه كل خيط أبيض، وكلّما ازدادت العتمة ضربت المطر بقزة على وجه الأرض وكأنها تنذر بفناء الإنسان، ولا ملامح تستدل بها لتجاوز حالة التيه التي غرق فيها سمعك وبصرك إلى أن تتواتر شخوص على خشبة سوداء كحبّة توت.
شخوص لا تسمع وقع خطواتهم على الخشبة، بعضهم حاف فيما دس البقية أقدامهم في "شباشب" خفيفة، وكأنهم يخشون من سماع صوت مشيتهم، ثمانية شخوص، ثلاث نساء وخمسة رجال يتعاقبون على الركح فرادى ومثّنّى وثلاث ورباع وجماعة ليرسموا معالم عمل مسرحي بعنوان عودة الفاضل الجزيري إلى الانتاج المسرحي بعد غياب طويل.
ولادة هذا العمل المسرحي كان بإشراف الجزيري على ورشة مع مسرحيين شبان هم توماضر الزرلي، وزينب الهنشيري، ومريم بن يوسف، وأديب حامدي، وعبد الحميد نوارة، وسليم الذيب، وطلال أيوب، وزيّن حضورهم اللافت على الركح الممثل محمّد كوكة.
"كاليغولا" هو العنوان الذي اصطفاه المخرج وكاتب النص فاضل الجزيري للعمل الذي أهداه في عرضه الأول إلى روح المسرحي محسن بن عبد الله الذي يدين له بالكثير في مسيرته المسرحية، وهو عمل مقتبس عن "كاليغولا" البير كامو ولكنّ بسياقات مختلفة.
في افتتاح الدورة الواحدة والعشرين بأيام قرطاج المسرحية، توافد عشّاق المسرح على قاعة الفن الرابع ليسافر في رحلة بين مشاعر متناقضة وسط حياة يوشّحها العبث، رحلة بلا ملامح واضحة لا زمانا ولا مكانا، ملامح يشكّلها المتفرّج بذاته على إيقاع تلميحات النص.
وليس من السهل تطويع نص فلسفي نقدي، وإسقاطه على الواقع التونسي وربّما العربي أيضا بكل ما تشهده من متغيرات وبكل الفوارق بين السياقات التي كتب فيها البير كامو نصّه وتلك التي حاوطت نص الجزيري بالمكتوب بلهجة عامية متلبّسة بالفصحى.
بعيدا عن كون "كاليغولا" البير كامو نص مغر زيّنت تفاصيله أركاحا كثيرة في العالم، فعرض الفاضل الجزيري هو الاقتباس الثاني عن هذا العمل حيث كان مصدر الهام لعلي بن عياد في ستينات القرن الماضي، لكن بعض التلميحات لقضايا سياسية واجتماعية راهنة، برهان على أن العمل ابن سياقه وابن مخرجه.
قراءة مسرحية لواقع تعاني فيه كل النظم السياسية منها والاجتماعية والثقافية عللا لا حصر لها، علل إنسانية بالأساس، ربّما لذلك تبدو هوّيات الشخصيات على الركح غير واضحة فهي لا تشبه نفسها فقط وإنّما هي امتداد وانعكاس لشخوص أخرى في أمكنة وأزمنة كثيرة من الواقع.
واسم المسرحية، ليس سوى كنية لثالث الاباطرة الرومانيين "غايوس قيصر" الذي حكم في الفترة ما بين 37 و41 ميلادية، أطلقها عليه جنود، وتعني "حذاء الجنود الصغير"، وفيها إحالة إلى الشخصية الأصلية المهووسة بالطغيان والجبروت والمتعطّشة للدماء والحاضرة في عمل الجزيري.
السواد على الركح، لا تطمسه إلا الأضواء المبهرة التي تتسلّط على المكان في لحظات مفصلية وكأنها تصرخ ألّا بد من وضع حد للعبث والبحث عن المعنى بين ثنايا اللامعنى والفوضى التي اجتاحت الأرواح والنفوس، ولكن هذه الأضواء قد تجعلك تحيد ببصرك عن الحقيقة.
وأزياء "الحمّام" البيضاء التي ترتديها الشخصيات، هي الأخرى، تقلّص من حدّة ذلك السواد الذي يلتحم بصوت الرعد فيحتد لونه أكثر فأكثر، وكأن المخرج أراد من خلالها أن يقول إننا حينما ولدنا كنا جميعا نقيين تخلو أرواحنا وقلوبنا من الشوائب، عند ولادتنا نشبه الملائكة ولكنّنا نزين أثوابنا البيضاء بخطايانا التي لا تشبهنا في الأصل.
واختيار "الحمّام"، مكانا تتولّد فيه الأحداث وتنساب فيه الكلمات لتعرّي قبحا لم تخفه الأقمشة البيضاء مطوّلا، ولم يجعل الماء من قلب "كاليغولا" الجزي حيا، ليس بالاعتباطي فالحمام في المخيال الشعبي مرتبط بالطهارة فعادة ما تكون الحمامات العامة مجاورة للمساجد.
وأنت تتابع الشخصيات وتتمحّص في الكلمات التي يتلفّظونها، تحاول أن تفك بعض رموزها فنص الجزيري ملغّم بالتلميحات، تخال عند كل حوار أنه يقول كل شيء لكنّ مفردة واحدة كفيلة بأن تخبرك أنه لم يكن يقول ما يريد قوله وإنما ترك لك فرصة أن تأوّل وتفكّر.
ديكور بسيط في الظاهر ولكنّ عمقه يكمن في تناغمه مع القيمة الإنسانية والوجود للعمل المسرحي، فأنت تأتي إلى هذا العالم لتحيا وتشقى وتضحك وتبكي ونترتاح في محطات يختارها لك القدر أو تخال أحيانا أنك اخترتها، ترتاح حينما تجلس على كرسي أو حينما تسند رأسك إلى وسادة وتبقى هذه الراحة حقيقة نسبية لأنّ الكرسي والوسادة قد يكونان منبع تعب.
"كاليغولا" الفاضل الجزيري، يشبه كل طغاة العالم، قميئ دنيء مهووس، نخر جنون بشع قلبه الذي تجري فيه دماء مسمومة تقتل كل من حوله وهم أحياء، دماء قتلته وهو لا يعلم، لا رادع له ولا ولي له ولا سيد يعثى في "الحمام" فساد حتى أفرغ الطهر من معناه.
قيم انسانية كثيرة، قدّمها "كاليغولا" قربانا لأهوائه الجامحة، فما عاد للحب معنى ولا الحرية ولا الإرادة ولا الحياة ولا الأمل ولا الوجود، لا معنى إلا لعدم شكّلته غطرسته ودم ودمع يسكّنان وجع من داسهم في طريقه إلى "اللذة"، تلك المفردة التي جعلها خاوية من فرط الحديث عنها.
في العرض الذي دام طيلة ساعة ونصف، يأسرك الزمن المسرحي والمكان والشخصيات رغم أن الغموض يلفها وربّما هو الفضول الذي يحملك إلى مجاراة نسق السردي الذي يتسلل إليه الملل أحيانا ولكن الأضواء تقطع عليه الطريق حينما تبهرك وتأخذك إلى زاوية أخرى.
ومن القضية الفلسطينية إلى المساواة في الميراث إلى الحريات الفردية فالدعوة إلى الثورة على الظلم والنأي عن الظلمات، تعددت الإشارات والتلميحات في مسرحية الجزيري، حتّى كسا الدم الخشبة السوداء حينما أهوى المهووس على رقبة أخيه وتذوق دمه كأنما يتذوق عصير التوت الأسود.
"الإنسان ذئب لأخيه الإنسان" مقولة تستحضرها وأنت تتنقل بين مشاهد المسرحية فلا معنى للأخوة والصلة الدموية ولا معنى للإنسانية امام المصالح، لا معنى لأي شيء سوى تلك العبثية التي باتت تسم الظروف والعلاقات وتأرجح الانسان يمينا وشمالا.
وبعيدا عن أداء الممثلين والإخراج والسينوغرافيا والنص، عناصر خلق تفاعلها فيما بينها كيمياء تسربت إلى كل تفاصيل العرض وأغرت بمشاهدته، فإنّ مسرحية "كاليغولا" تضع يدها على جراح كثيرة في تونس وفي العالم العربي وفي الكون بأسره، تلك الجراح التي مزّقت جسد الإنسانية.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.