ساعات قليلة وسيودّع بعدها أهالي قطاع غزة عام 2013، والذي حمل لهم في بداياته الكثير من الآمال بنهاية معاناتهم، لكنه غدر بهم في نهاياته، وعاد بهم إلى أقسى مربعات الحصار من جديد. ففي النصف الأول من العام، لاحت في أفق سكان المدينة المحاصرة عدة مبشرات بحياة أفضل، إلا أنها اختفت في النصف الثاني من عامهم، وحل محلها الإحباط واليأس. وقد شهدت بداية عام 2013 خطوات حقيقية لكسر الحصار المفروض على قطاع غزة، حيث زار القطاع في 22 جانفي/ كانون الثاني، رئيس الوزراء الماليزي محمد نجيب. وأعلن نجيب خلال زيارته عن تمويل بناء مقر مجلس الوزراء في حكومة غزة المقالة والذي قصفته إسرائيل في حربها على غزة نهاية عام 2012، كما افتتح نجيب خلال زيارته مدرسة مولتها حكومته. وفي الأول من جانفي / كانون الثاني 2013، سمحت حركة "حماس"، والتي تسيطر على قطاع غزة، لحركة فتح بإقامة مهرجان انطلاقتها في القطاع، لأول مرة منذ أحداث الانقسام الفلسطيني بين الحركتين قبل سبع سنوات، مما جعل الغزيين يستبشرون خيرًا ببوادر مصالحة قادمة، تنهي الانقسام وربما الحصار. وفرضت إسرائيل حصارًا على قطاع غزة عقب فوز حركة حماس في الانتخابات التشريعية في جانفي /كانون الثاني 2006، وشددته بعد اختطاف أحد جنودها على يد فصائل فلسطينية في العام نفسه. وبعد أن سقطت آخر أوراق يناير، حل تفاؤل جديد مع بداية شهر فبراير/ فيفري لدى سكان القطاع المحاصر، فقد تم فتح مراكز تسجيل الناخبين في قطاع غزة والضفة الغربية في آن واحد، لأول مرة منذ الانقسام الفلسطيني. أما على الصعيد الاقتصادي، فقد شهدت حياة الفلسطينيين في قطاع غزة نوعًا من التحسن والانفراج، وكان لوجود الرئيس المصري المعزول محمد مرسي دور كبير في ذلك، حيث تدفقت في عهده البضائع عبر الأنفاق الحدودية من مصر لغزة. كما فتح مرسي معبر رفح البري الذي يعد المنفذ الوحيد لقرابة مليوني مواطن في غزة المحاصرة، على مدار الأسبوع، وتقلصت أعداد المرجعين والممنوعين من السفر أمنيًا بشكل كبير. وقد تم منح النساء بشكل عام والرجال ممن هم فوق الأربعين عامًا من سكان القطاع إمكانية السفر دون الحصول على تأشيرات دخول. وبفتح المعبر تمكّنت العديد من الوفود التضامنية الدخول إلى غزة، إضافة لدخول شخصيات سياسية وأدبية وإعلامية، لم تدخل القطاع من قبل، للمشاركة في مؤتمرات عقدت في غزة. ومنذ بداية عام 2013 وحتى نهاية يونيو/جوان من العام ذاته، استقبل قطاع غزة 180 وفداً من مختلف الدول الأوروبية والعربية. وشهد القطاع حركة عمران نشطة غير مسبوقة بعد توقف دام نحو سبع سنوات، بسبب الحصار الإسرائيلي وغياب مواد البناء وارتفاع أسعارها إن وجدت، معتمدة على مواد البناء التي تم تهريبها عبر الأنفاق الحدودية. ويضاف إلى ذلك بدء تنفيذ مشاريع منحة الإعمار التي قدمتها دولة قطرلغزة والتي تقدر لنحو 500 مليون دولار، والتي دخلت موادها الخام عبر معبر رفح البري بكميات كبيرة أدت إلى انتعاش حركة العمران. ووفرت حركة العمران النشطة عشرات الآلاف من فرص العمل لسكان القطاع، وأنعشت العديد من المصانع كالأسمنت والرخام والبلاط. وبعد أن قدمت الحكومة الإسرائيلية اعتذارًا رسميًا للحكومة التركية في منتصف مارس/آذار، تعهدت إسرائيل باستمرار إدخال البضائع والسلع الغذائية للقطاع عبر معبر كرم أبو سالم الخاضع للسيطرة الإسرائيلية، ما دام الهدوء سائدًا، وزادت عدد الشاحنات المدخلة. وكان آخر أمل اتقد في قلوب الغزيين قبل أن تنقلب الأمور سلبيًا، هو ترقب زيارة رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان لقطاع غزة، في منتصف يونيو/ جوان. وكان أردوغان قد صرّح بأنه قد يزور غزة، دون أن يحدد موعدًا لزيارته، مما جعل الغزيين ينتظرونه بفارغ الصبر، متوقعين بأن تثمر زيارته بنتائج إيجابية، سواء على صعيد إنهاء الانقسام الفلسطيني، أو كسر الحصار الإسرائيلي، وتحسين ظروف حياتهم الصعبة. لكن هذه التطورات الإيجابية في حياة سكان القطاع، لم يطل عمرها، فبعد عزل الرئيس محمد مرسي في الثالث من يوليو/جويلية ، انقلبت حياتهم رأسًا على عقب، جراء الحملة الأمنية التي شنتها الحكومة المصرية على الأنفاق التي كانت مصدر الحياة للقطاع المحاصر، بعد فرض الاحتلال الإسرائيلي الحصار عليه ، والتي أدت إلى هدم 95% منها. ومع هدم ثغرة الحياة التي أوجدها الغزييون في جدار الحصار، والتي مدّتهم بإكسير الحياة، اشتدت معاناتهم من جديد وأعادتهم سنوات للوراء، إلى حيث مأساة العام الأول من فرض الحصار الإسرائيلي الخانق على 1.8 مليون مواطن يقطنون القطاع. فغياب الوقود المصري المهرب عبر الأنفاق والذي كانت تعتمد عليه محطة توليد الكهرباء الوحيد في غزة، والقطاعات الصناعية كافة، خلّف العديد من الأزمات الإنسانية والاقتصادية في المدينة المحاصرة. فقد أدى إلى تسريح أكثر من 90% من العمّال، لتوقف المصانع بأنواعها وقطاع الإنشاءات والزراعة وقطاعات أخرى عن العمل، والتي تعتمد في عملها على الكهرباء. ولم تستطع تلك القطاعات المتوقفة أن تستبدل غياب الكهرباء بتشغيل المولدات الكهربائية فالوقود الإسرائيلي الشحيح القادم عبر معبر كرم أبو سالم، أغلى ثمنًا بنحو الضعف، الأمر الذي لا يقدر عليه الغزيون، حيث يبلغ سعر اللتر من الوقود قرابة الدولارين. وتوقف 3900 مصنعً بغزة عن العمل، ولا يتم تشغيل سوى 10% من تلك المصانع وبشكل جزئي وفق تأكيد اتحاد الصناعات الفلسطينية، إضافة لتوقف نحو 30 مشروعًا دوليًا. وأضاف هدم الأنفاق أكثر من 7 آلاف فرد يعملون فيها، إلى قوائم البطالة وكان يتقاضى العامل الواحد أجراً يتراوح ما بين 20 إلى 25 دولارا يوميا. ومع شلل الحياة الذي أصاب المدينة المحاصرة، أعلنت أرقام البطالة عن ارتفاعها المتزايد، فوفق وزارة العمل في الحكومة المقالة بغزة، وصلت معدلات البطالة خلال الربع الثالث من العام 2013 إلى ما يقارب 37%، بعد أن كانت 27%. وكانت اللجنة الشعبية لرفع الحصار عن غزة قد أكدت في وقت سابق أن معدلات البطالة في القطاع وصلت إلى 50%، بفعل حظر إسرائيل توريد مواد البناء، وما خلفته أزمة الكهرباء. وغرقت غزة في الظلام مع غياب الوقود المصري، فبعد أن كانت تصل الكهرباء لكل بيت قرابة 12 ساعة يوميًا، باتت تصله لنحو 8 ساعات يوميًا. وأدى نقص الكهرباء والوقود إلى مشاكل بيئية كبيرة، حيث ازدادت نسبة ملوحة وتلوث المياه الواصلة إلى منازل المواطنين، بسبب تدني عدد ساعات عمل محطات تحليلة المياه مما حرمهم من المياه الصالحة للاستخدام الآدمي، إضافة لازدياد عدد أيام غياب المياه عن صنابير الغزيين. ولم يسلم بحر غزة أيضًا من أزمة غياب الوقود، فقد تم ضخ مياه الصرف الصحي دون معالجة إلى البحر، مما أدى إلى تلوث مياهه بشكل كبير حسب خبراء. ويحتاج القطاع يوميا إلى 400 ألف لتر سولار ونحو 200 ألف لتر بنزين، إضافة إلى 250 طنا من الغاز. وكما غاب الوقود المصري، فقد غابت السلع الغذائية والبضائع، ومواد البناء، فعادت مشاريع القطاعات الإنشائية لحالة ركودها المسبوق وسكونها كما كانت قبل سبع سنوات، مخلفة آلافا من الأيدي العاملة بلا عمل. وأدى هدم الأنفاق إلى حدوث ضائقة مالية لدى حكومة حماس في غزة، التي كانت تفرض ضرائب على تجار الأنفاق تدر عليها دخلا شهريًا، مما جعلها تتأخر في صرف رواتب موظفيها والبالغ عددهم 42 ألف موظف، منذ أربعة أشهر، مما زاد من حالة الكساد في الأسواق. وبعد هدم الأنفاق بدأت إسرائيل في التخفيف الجزئي من حصارها، وسمحت لأول مرة منذ ستة أعوام بإدخال كميات محدودة من مواد البناء، إلى جانب إدخال الشاحنات المحملة بالبضائع عبر معبر كرم أبو سالم التجاري. لكنها عادت ومنعت إدخال مواد البناء بذريعة استخدامها من قبل حركة حماس في بناء تحصينات عسكرية، وحفر أنفاق أرضية. كما أن معبر كرم أبو سالم التجاري الوحيد بين غزة وإسرائيل، غير مؤهل لإمداد سكان القطاع باحتياجاتهم، حيث لا يغطي أكثر من 30% من حاجة القطاع، ورغم ذلك، لا تتردد إسرائيل في إغلاق المعبر لعدة أيام بين الفينة والأخرى، تحت ذرائع أمنية. ومن أزمات هدم الأنفاق المتلاحقة، إلى معاناة مرضى غزة المتفاقمة بفعل إغلاق معبر رفح البري بعد أحداث مصر في 30 جوان/حزيران الماضي، فإغلاقه المتكرر وفتحه الجزئي البسيط على فترات متباعدة، حرم العديد من المرضى من استكمال علاجهم وهددهم بفقدان حياتهم. وأدى إغلاق المعبر أيضًا لغياب الوفود التضامنية الطبية التي كانت تجلب الأدوية، وتجري عمليات نوعية لمرضى القطاع لم تكن تنفذها الطواقم الطبية في غزة، لغياب الإمكانات واللوازم الطبية عن مستشفيات القطاع. وفي تصريح سابق لوكالة الأناضول للأنباء قال مدير دائرة الصيدلة في وزارة الصحة بغزة، أشرف أبو مهادي، إن إغلاق معبر رفح حرم غزة من وصول ربع كميات الأدوية التي كانت تدخل القطاع عبر المعبر، مما سبب تراجعًا بنسبة 30% من رصيد الأدوية. ومع إغلاق منفذ الخروج الوحيد بشكل مستمر، لقرابة 1.8 مليون نسمة يقطنون في القطاع المحاصر، ترتفع التوقعات بأن يصاب القطاع بكارثة حياتية تهدد قطاعات وفئات كثيرة ومختلفة من الفلسطينيين الذين يعيشون في غزة. فقد تأخر وتعذر على آلاف الطلبة الفلسطينيين الوصول إلى جامعاتهم خارج القطاع، وخسر العديد من الغزيين المقيمين في الخارج والذين كانوا في زيارة لغزة، أعمالهم وإقامتهم. كما أحبط انشغال السلطات المصرية بالأحداث الداخلية، وسوء علاقتها بحركة حماس، آمال تحقيق المصالحة بين حركتي فتح وحماس، لكون مصر هي الوسيط الوحيد المقبول من الطرفين. ومع اقتراب حلول العام الجديد (2014) لا يبدي السكان تفاؤلا بإمكانية تحسّن ظروفهم المعيشية، لعدم وجود أي مؤشرات في هذا الشأن، فإسرائيل تصعد من لهجتها وتهديداتها تجاه القطاع، فيما تزيد وتيرة عداء السلطات المصرية لحركة حماس التي تديره.