بينما تخط تونس خطوات ثابتة نحو وضع أسس الدولة الديمقراطية، تأبى بعض الجهات عن أنفسها إلا أن تنغّص على التونسيين مشوارهم الراسخ في القطع مع منظومة الاستبداد. فحينما خرج المئات من أنصار مختلف الحركات الحزبية والأهلية إلى الشوارع للاحتفاء بالذكرى الثالثة من الثورة، اقتنص قليلون الفرصة من أجل الاستهزاء بتضحيات عشرات الآلاف من الغاضبين على نمط حكم الرئيس المخلوع زين العابدين بن علي. من هؤلاء؟ وماذا يريدون؟ إنهم الجبناء الذين لم يُسمع لهم صوت عندما كانت يد الفساد تنخر مفاصل المجتمع. إنهم المتضررون من انقشاع تلك العباءة التي كانت تدثر سرقاتهم في عتمات ليل الاستبداد. إنهم الخاضون والخانعون للطغيان والمتلذذون بالقمع والمستمتعون ب"سودومي" sodomie القهر والظلم اللذين مورسا عليهم طيلة عشريات من الزمن. إنهم المتمتعون بفتات ما تبقى من استكراش عائلة حاكمة نسيت بسرعة فائقة ماضيها في الفقر والخصاصة اللذين نشرتهما بين بقية المجتمع. إنهم عبيد الدكتاتورية الذين لا يرون من شمس الحرية سوى شعاعها على الأرض. تنبش قليلا في ماضي وفي تاريخ حياة هؤلاء، فلا تصدم لمّا تجد أسماءهم ضمن قائمة المناشدين للغطرسة والاستغلال، ولن تُستفز عندما ترى أن أنشطتهم وأعمالهم نجحت بفضل استلابهم لعرق الآخرين. فجأة أصبحت الثورة التونسية مجرد مؤامرة، ودماء الشهداء هي عبارة عن خمور مسكّرة سالت زيفاً من قبل متآمرين وانقلابيين يعملون لفائدة الأجانب! هكذا تفسّر تلك الكوكبة من الجشعين الذين انفطرت قلوبهم أسىً ولوعةً لما استعاد الشعب ما نهبوه منه. لا يبرّر الاستبداد سوى ذلك المتمعش والمستفيد منه. ولا يتحسّر على اضمحلاله وانتفائه إلا كل من كان سبباً من أسباب بقائه. وهم حفنة رجال الأعمال التي كانت قرابتهم من دوائر الحكم عبارة عن نافذة للسرقة والاحتيال. هم إعلاميون وصحفيون ازدادت جيوبهم انتفاخاً بمقدار ما مدحوا النظام وأتقنوا في اطرائه. هم سياسيون ومثقفون لم يتخط دورهم سوى لعب مهمة "كلاب جون بول سارتر لحراسة" السلطة. هم أمنيون وعسكريون لا ينتشون في عملهم إلا عندما تدخل عصا "الماتراك" شرج شخص ما. ثلاث سنوات لم تكن كافية على ما يبدو ليعي هؤلاء أن رحيل الديكتاتور واهتزاز أركانه صفحة من الحياة السياسية التونسية طُويت دون رجعة. فلن ينفعهم حنينهم لنمط عيش رغدٍ توهموا أنهم كانوا يحيونه في أن تُعيد لهم فرعونهم. إن قدر التونسيين هو الحرية. مطلب رُفع منذ بدايات القرن العشرين وهاهو يتحقق بشكل نهائي في أوائل القرن الحادي والعشرين. وما بينهما ضحّى تونسيون بما ضحّوا به حتى لا يستفيق تونسي صباحاً لتُداس كرامته مساءً. لا يُمكن اعتبار ما يُقدم عليه الفارون من المحاسبة والمحظوظون المستفيدون من سلمية الثورة وغياب المشانق عنها سوى الصرعة الأخيرة من صرعات فناء عصر الطغيان. فمستقبل التونسيين أمامهم وليس خلفهم. وما على هؤلاء إلا اللحاق بركب الحرية والديمقراطية الذي انطلقت قاطرته منذ سنوات؛ فهي الفرصة الوحيدة لنجاتهم .