صفاقس: تلميذة تعتدي على أستاذ بشفرة حلاقة    قاضي يُحيل كل أعضاء مجلس التربية على التحقيق وجامعة الثانوي تحتج    نابل: انتشار سوس النخيل.. عضو المجلس المحلي للتنمية يحذر    قابس: انتعاشة ملحوظة للقطاع السياحي    الرابطة الأولى: برنامج النقل التلفزي لمواجهات نهاية الأسبوع    منع مخابز بهذه الجهة من التزوّد بالفارينة    استثمارات بقرابة 2 مليار دينار طيلة الربع الأول من العام الحالي    جندوبة: احداث لجنة جهوية لمتابعة سير موسم الحصاد وتجميع الحبوب    لتعديل الأخطاء الشائعة في اللغة العربية على لسان العامة    الرابطة الأولى: تشكيلة الإتحاد المنستيري في مواجهة النجم الساحلي    صفاقس احباط 10عمليات للهجرة غير النظامية.    صفاقس تلميذة تعتدي على أستاذها بشفرة حلاقة.    عدد من المهاجرين الأفارقة يفرون من حافلة كانت تقلّهم باتجاه الكاف وجندوبة    المنستير: البحر يلفظ جثة آدمية    «لارتيستو» الممثل صابر الوسلاتي ل«الشروق» «رقوج» رسالة في مواصفات الممثل الحقيقي !    في اختتام الملتقى الوطني للمبدعات العصاميات بالمنستير ...تتويجات وتكريمات بالجملة    لهذا السبب.. كندا تشدد قيود استيراد الماشية الأميركية    الثنائية البرلمانية.. بين تنازع السلطات وغياب قانون    احتجاجات طلابية جديدة باليابان و المكسيك وأستراليا.. دعما لفلسطين    القصرين: حجز بضاعة محلّ سرقة من داخل مؤسسة صناعية    عاجل/ القبض على شاب شوّه وجه عضو مجلس محلي بهذه الحهة    فيضانات تجتاح البرازيل وتخلّف 39 قتيلا وأكثر من 69 مفقود    القبض على امرأة محكومة بالسجن 295 عاما!!    هام/ التعليم الأساسي: موعد صرف مستحقات آخر دفعة من حاملي الإجازة    الأمم المتحدة تحذر.. دارفور معرضة لخطر المجاعة والموت    14 قتيلا جراء فيضانات... التفاصيل    التوقعات الجوية لليوم    "سينما تدور".. اول قاعة متجوّلة في تونس والانطلاق بهذه الولاية    تونس تعول على مواردها الذاتية.. تراجع الاقتراض الخارجي بنحو الثلث    وفاة أحد أهم شعراء السعودية    أوجيه ألياسيم يضرب موعدا مع روبليف بنهائي بطولة مدريد المفتوحة للتنس    دولة أوروبية تتهم روسيا بشن هجمات إلكترونية خطيرة    فتحي عبدالوهاب يصف ياسمين عبدالعزيز ب"طفلة".. وهي ترد: "أخويا والله"    قتلى ومفقودون في البرازيل جراء الأمطار الغزيرة    بطولة القسم الوطني "أ" للكرة الطائرة(السوبر بلاي اوف - الجولة3) : اعادة مباراة الترجي الرياضي والنجم الساحلي غدا السبت    الرابطة 1- تعيينات حكام مقابلات الجولة السادسة لمرحلة التتويج    اليوم العالمي لحرية الصحافة /اليونسكو: تعرض 70 بالمائة من الصحفيين البيئيين للاعتداءات خلال عملهم    وزارة الفلاحة ونظيرتها العراقية توقعان مذكرة تفاهم في قطاع المياه    سليم عبيدة ملحن وعازف جاز تونسي يتحدث بلغة الموسيقى عن مشاعره وعن تفاعله مع قضايا عصره    مركز النجمة الزهراء يطلق تظاهرة موسيقية جديدة بعنوان "رحلة المقام"    كأس تونس لكرة القدم- الدور ثمن النهائي- : قوافل قفصة - الملعب التونسي- تصريحات المدربين حمادي الدو و اسكندر القصري    رئيس اللجنة العلمية للتلقيح: لا خطر البتة على الملقحين التونسيين بلقاح "أسترازينيكا"    القصرين: اضاحي العيد المتوفرة كافية لتغطية حاجيات الجهة رغم تراجعها (رئيس دائرة الإنتاج الحيواني)    إفتتاح مشروع سينما تدور    المدير العام للديوانة يتفقّد سير عمل المصالح الديوانية ببنزرت    منير بن رجيبة يترأس الوفد المشارك في اجتماع وزراء خارجية دول شمال أوروبا -إفريقيا    فيلا وزير هتلر لمن يريد تملكها مجانا    إنه زمن الإثارة والبُوزْ ليتحولّ النكرة إلى نجم …عدنان الشواشي    حجز 67 ألف بيضة معدّة للإحتكار بهذه الجهة    بطولة افريقيا للسباحة : التونسية حبيبة بلغيث تحرز البرونزية سباق 100 سباحة على الصدر    مواطنة من قارة آسيا تُعلن إسلامها أمام سماحة مفتي الجمهورية    قرعة كأس تونس 2024.    التلقيح ضد الكوفيد يسبب النسيان ..دكتور دغفوس يوضح    دراسة صادمة.. تربية القطط لها آثار ضارة على الصحة العقلية    خطبة الجمعة ..وقفات إيمانية مع قصة لوط عليه السلام في مقاومة الفواحش    ملف الأسبوع .. النفاق في الإسلام ..أنواعه وعلاماته وعقابه في الآخرة !    العمل شرف وعبادة    موعد عيد الإضحى لسنة 2024    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



المنصف ونّاس: مجابهة الارهاب تبدأ بمراجعة الخطاب الديني..والديمقراطية تقتضي إعادة بناء الإنسان التونسي
نشر في حقائق أون لاين يوم 13 - 06 - 2014

عادة ما تفضي الثورات الشعبية إلى تغيير نوعي - ليس في كلّ الحالات جذريا- في طبيعة نظام الحكم ومرتكزاته. وفي دينامية المشهد السياسي للدولة التي تشهد تحوّلات من هذا القبيل قد لا تلامس بالمحصلّة البنى القاعدية الفكرية والثقافية والاجتماعية.فتثوير وتحرير هذه النظم من ربقة الانحطاط والتخلّف الموروث عن حقب الاستبداد والناجم عن تفكّك واهتراء الوشائج القيميّة لا يمكن أن يكون وليد تشكّل مسار يمتدّ على حّيز زمني وجيز بل هو يتطلّب بالضرورة أرضية صلبة قادرة على تحمّل وزر تبعات الانتقال إلى مرحلة بناء الصرح الديمقراطي القائم على المواطنة والعقلانية و الحقوق والحريات الكونية خلال أمدّ طويل أو متوسّط وذلك في إطار رؤية ومقاربة تشاركية متعدّدة الأبعاد.
ضمن هذا المضمار، يندرج حوارنا مع الدكتور المنصف وناّس المفكّر والباحث الجامعي المتخصّص في علم الاجتماع و الذي حاولنا معه فهم طبيعة التطوّرات الرّاهنة التي يعيش على وقعها المجتمع التونسي منذ 14 جانفي 2011 من منظور أكاديمي وعلمي دقيق ، بعيدا عن الرؤى السياسية الانية والظاهرة.
وفي ما يلي النصّ الكامل لهذا الحوار الذي أجريناه مطلع الأسبوع الجاري:
بماذا تفسرون تفشي الظاهرة الارهابية بعد الثورة رغم أنّ الشخصية التونسية تتّسم في الغالب بالمهادنة ووعدم الانجرار الى الحلول العنيفة؟
الشخصية التونسية كانت دائما ميّالة إلى المهادنة وتجنّب المواجهة وحتّى الذهاب بعيدا في تقبّل الأمور وعدم ردّ الفعل. و أنا لديّ فرضية مفادها أنّ هذه الصفات ساعدت على تحمّل الاستبداد على امتداد عقود خمسة أو أكثر. ولكن المعطى الجديد هو ظهور بعض الميل، غير الكلّي،إلى الانخراط في التجارب الارهابية وتبني الفكر المتشدّد. وفي ما يبدو لي وفي حدود دراستي للموضوع،هناك ثلاثة عناصر تفسّر هذا التوجه الجديد الميّال إلى تبنّي الفكر والفعل الارهابيين.
الأوّل مرتبط بالانتقال السياسي في تونس. ولا يجب أن ننسى أنّه ثمّة منظومة سابقة انهارت بكلّ تبعاتها النفسية والاجتماعية والاقتصادية والقيميّة والثقافية. في حين أنّه لم تتبلور منظومة جديدة بعدُ. وجميع المراحل الانتقالية في تاريخ الشعوب مؤلمة لأنّها لا تعطي ضمانات للأفراد بل تضعهم في مواجهة أنفسهم وذواتهم ومصيرهم. ولكن ليس متأكدا في كل الحالات ان يكون كلّ الأفراد قادرين على ضمان التوازن تجاه هذه التحديات. فثمّة من لا يقدر على تأمين توازنه النفسي والاجتماعي.
المعطى الثاني ،وهو يبدو لي الأهم ، ليس خافيا على أحد بأنّ الارهاب صار اليوم صناعة دولية معولمة بمعنى أنّه ثمّة دول في المستوى العالمي تخصّص جزءا من ميزانياتها وتعبئ أدواتها وهيئاتها وهياكلها لنشر هذا الفكر. وإلاّ كيف نفهم أنّ هناك مئات الآلاف من الأفراد في العالم العربي والإسلامي تدرّبوا على السلاح وأتقنوه و يشاركون في الصراعات السياسية الدائرة الآن في الصومال ومالي وسوريا والعراق وليبيا وحتّى في السودان.هل هذا التدريب عفوي؟ لا أعتقد ذلك.
كيف نفهم أيضا بأنّ هذا الجماعات تتوفر على كفاية مادية ومالية تسمح لها بالصمود وعدم الانهيار على امتداد سنوات مثلما نرى هذه المجاميع الارهابية في سوريا؟ كيف نفهم بأنّ هناك أكثر من 100 ألف شاب سرّبوا إلى سوريا للمشاركة في ما يسمّى بالثورة السورية؟ ألا توجد أطراف دولية عبّأت وغسلت الأدمغة وهيّأت نفسانيا ومعنويا ودرّبت وسلّحت ووجّهت وزوّدت بالمعلومات؟ إنّ الاجابة لا يمكن أن تكون إلاّ بنعم. ثمّة أطراف دولية حتّى لا أقول دول تشتغل على نشر هذا الفكر وترويجه، بل إنّ أحدث دراسة نشرت منذ فترة قصيرة تشير إلى أنّ إحدى الدول العربية أنفقت على ترويج فكرها الديني ما بين سنتي 1977 و2007 مبلغا يقدّر بحوالي 70 مليار دولار أي بما يطوّر واقع كلّ الجامعات العربية وينهض بالبنية التحتية في المنطقة العربية برمّتها ويشغلّ 12 مليون عاطل عن العمل بالبلاد العربية ويزوّج مئات الآلاف من الشبّان غير القادرين على تأسيس أسرة لضمان توازنهم النفسي والبيولوجي. يعني ان هذا المبلغ الضخم الذي كان قادرا على خلق ثورة حقيقية معرفية وفكرية وثقافية واقتصادية في المنطقة العربية أنفق للاسف على ترويج فكر هو اليوم يمثّل جزءا كبيرا من مشكلة البلاد العربية حيث بات عنوانا للتشدّد لا غير.
العنصر الثالث يكمن في وجود صعوبات كبيرة في المنطقة العربية وتحديدا في تونس تتجلى حينما يواجه الشاب المشاكل بالانتحار أو من خلال الزواج بالفكر المتشدّد والارهابي. وأنا اعتبر أنّ الاقدام على الانتحار البيولوجي والجسدي هو شكل من أشكال الانخراط في السلوك التديّني المتشدّد والارهابي. الحالاتان تعبّران عن نفس المأزق الشخصي. وهذا يعود في تقديري إلى أنّ احد الاخفاقات الكبرى في تونس ما بعد الاستقلال هو سياسة تأطير الشباب. فلم تتمكن الدولة من بناء سياسة شبابية في الميدان التأطيري وتعبئة إمكاناته وموارده حيث لم توفر له سبل العيش الكريم.
وكيف تقيّمون تعاطي الدولة ومؤسساتها طوال السنوات الثلاث الماضية مع هذه الظاهرة الخطيرة؟
يمكن أن نميّز بين مرحلتين أساسيتين في التعاطي مع الارهاب. المرحلة الاولى اتّسمت بعدم التقدير الجيّد لخطورة الظاهرة وحتّى نوعا ما من التغاضي عن نشاط هذا الشباب وعدم الانتباه إلى أنّ الارهاب ليس ظاهرة محلّية فحسب فهو ظاهرة معولمة ودولية. فالارهاب في شمال مالي ليس منفصلا البتة عن الارهاب في ليبيا وسوريا و حتّى في تونس. هي شبكة واحدة تنتمي إلى مرجعية فكرية ودينية وعقدية متشدّدة وتكفيرية باسم الجهاد. وهي متكاملة في مستوى التنظير والفعل. وهي تتشابه في سلوكياتها إزاء الآخر مثلما رأينا ذلك في مالي وإنّ كان بدرجة أقل في سوريا وفي الجزائر ووفي ليبيا. هي متشابهة في المرجعية الدينية والعقدية وأيضا في السلوكيات حيث تعتمد أسلوب الإقصاء والتصفية الجسدية لأيّ شخص يختلف فكريا معها أو يجادل في أفكارها ومرجعياتها أو يحاول أن ينبّهها إلى بعض الأخطاء.
كلّ من يختلف مع هذه الجماعات التكفيرية والارهابية يصفّى جسديا وفي هذا تدليل على أنّها لا تتحمّل التسامح ولا تبني مرجعيتها على المسامحة ولا تؤمن بحقّ الاختلاف بين الأفراد في حين أنّ الإسلام يؤمن من الناحية النظرية على الأقل بحقّ التباين والقرآن يقول بصريح العبارة: "ولو شاءربك لآمن من في الارض كلهم ". يعني في هذا النصّ هناك تدليل من الجانب النظري على الأقل بوجود قبول بحق الاختلاف. لكنّ القراءة الدينية المتشدّدة تقصي هذا الحقّ في التباين بين الأفراد وتنطلق من أنّها هي صاحبة الحق المطلق والقراءة الوحيدة. وهذه مشكلة في المجتمعات العربية والإسلامية قاطبة. فمنذ قرون طويلة قامت في تونس انتفاضة "صاحب الحمار" وهي ذات مرجعية اباضية بالأساس وانطلقت من منطق يقوم على كونها هي التي تمثّل الشورى الحقّ في الإسلام في حين أنّ ما عدا ذلك هو كفر وضلال. هي ظاهرة قديمة لم يواجهها العلماء المسلمون بجديّة ولم يبيّنوا درجة انغلاقها وتشدّدها و ندفع نحن اليوم الثمن. أنا أعتبر أنّ المسؤولية جماعية إزاء هذا التشدّد الديني والتكفيري لأنّ الحاكم واجهها بالقمع والعلماء تعاملوا معها بتجاهل ولم يحاوروها ويجادلوها ولم يبيّنوا درجة الخطإ فيها.
وأين تكمن مسؤولية النخب السياسية وتشكيلات المجتمع المدني؟
أعتقد أنّ هناك مشكلة لدى المكونات السياسية وحتّى قوى المجتمع المدني تشتغل على ماهو آني. والحالي يعني الصراع السياسي الدائر بين السلطة والمعارضة. في حين أنّ هناك أدوارا أخرى مهمة. فعلى سبيل المثال نذكر أنّ الأطراف السياسية لم تدع إلى مسألة على غاية من الأهمية اليوم وهي كيفية قراءة الخطاب الديني. في هذه المرحلة بالذات لم يحصل تأكيد على ضرورة ان نفكّر جميعا وبشكل وطني وبصوت مرتفع حول كيفية قراءة النصّ الديني قراءة معاصرة حداثية وعقلانية. لم يدع المجتمع المدني إلى حوار مع الفكر المتشدّد. لماذا يترك هكذا بمفرده و لا يجرؤ أحد على المطالبة بالحوار معه للوقوف على سلبيات هذا تفكير ونقائصه وعلى الأخطاء العديدة التي رافقته؟ نحن جميعا نتفرج على هذا التفكير المتشدّد وهو يقطع الرؤوس ويفتح القلوب ليأكلها نيئة و يقوم ببتر الأعضاء وردم الأحياء بحجج دينية واهية لا أسانيد لها في النصّ الإسلامي الأصلي ولا أحد يردّ الفعل.
أنا أقول اليوم إنّ من بين الوظائف الأساسية التي يجب أن نتعاون فيها دعوة الجميع ، نخبا ومكونات سياسية ومدنية ، إلى هذا الحوار العميق حول راهنية النصّ الديني وكيفية التعامل معه لمجابهة القراءة المتشدّدة ذات الطابع التكفيري والارهابي. فعدم الانخراط في هذا المشروع الثقافي والفكري ترك المجال واسعا وفارغا لهذه الجماعات لتنشط بشكل عنيف.
وماذا عن دور الإعلام الذي يضطلع عادة بمهام محورية لمعالجة مسائل من هذا القبيل في العالم المتقدّم؟
الإعلام يمكن أن يؤدي دورا في هذا الموضوع الهام،ولكن للاسف جزء من الإعلام التونسي منخرط تماما في التهييج وتوتير الأجواء والإثارة. قد يفضي ذلك إلى الترفيع في المبيعات وفي العائدات المالية للجرائد والمجلات. ولكنّه لا ينفع البلاد بل يشجّع على خلق فوبيا جماعية ومجتمعية من الظاهرة. في حين يتوجب أن نواجهها بعقلانية واقتدار ليس فقط أمنيا عن طريق المواجهة الأمنية بل أيضا عبر الحوار الثقافي والخطاب العقلاني والحداثي الذي يشجّع على إبراز الأخطاء وسوء الفهم.
ألا ترى أنّ الحلّ مرتبط أيضا بمراجعات عميقة لقضايا التنشئة الاجتماعية والمنظومة التربوية التي اهترأت خلال عهد بن علي؟
نعم. هناك أمران. الأوّل هو أنّه لا يوجد حلّ كامل لهذه الظاهرة وإنّما هي مقاربات متعددة الأبعاد والمستويات،تتضافر من أجل معالجة هذه الآفة. فيها ماهو ثقافي واجتماعي فضلا عما هو تربوي تعليمي أسري وإعلامي إلى ما غير ذلك.
المسألة الثانية وهي فيما يبدو لي الأهم. نحن اليوم في القرن 21 بحاجة إلى إعادة بناء الشخصية القاعدية التونسية بناء جديدا يتلاءم مع العصر. ولو استثمرنا في بناء هذه الشخصية في القرن الماضي لما وصلنا إلى هاته الحالة ولما عرفنا هذه الظاهرة التي تسمّى الارهاب. وهي دليل على إخفاق منظومة تربوية جزئيا أو كليّا والمنظومة الأسرية وحتّى الإعلامية .وغير ذلك من مظاهر الوهن والانتكاس.
اليوم نحن في أمسّ الحاجة إلى بناء إنسان تونسي جديد يقدّس العمل والمؤسسة والانتماء إلى تونس ويتبنى تفكيرا متسامحا وعقلانيا وحداثيا يبعده تماما عن الارهاب. وأنا أعتقد أنّه بالامكان الاشتغال على هذا المشروع الذي سيحلّ عديد المشاكل التي من بينها ظاهرة الانتحار التي تفاقمت في السنوات الثلاث الأخيرة تفاقما لافتا للانتباه وهي تدليل في تقديري على هشاشة البناء النفسي والثقافي والمعنوي والتربوي والأسري لدى المواطن التونسي.
في ظلّ هذه الهنّات التي عدّدت مظاهرها،هل تعتقد أنّه بالامكان بناء ديمقراطية حقيقية متجذّرة في تمثّلات المخيال الجمعي للمواطن التونسي؟
أظنّ أنّ هذا المطمح أمر ممكن وأعتقد أنّ المجتمع التونسي هو من أكثر المجتمعات العربية والإسلامية تهيؤا لنجاح المشروع الديمقراطي. لا أقول ذلك من باب التمركز على الذات بل أقوله من باب القراءة المتمعنة والواقعية لتطوّر ديناميكية هذا المجتمع خلال قرون من الزمن. ولكن أيضا لا بدّ أن نكون واقعيين وصادقين مع أنفسنا ومع شعبنا.إنّ المشروع الديمقراطي في تونس يحتاج إلى عقود من الزمن. ليس واردا أن ننجح خلال سنوات قليلة في انجازه فهذا يحتاج إلى إعادة بناء الثقافة السياسية المشتركة بين التونسيين علاوة عن إعادة تأهيل المدرسة التونسية لتكون مساهمة في المشروع الديمقراطي. الأسرة التونسية تنسحب عليها نفس المسألة.
في الحقيقة، هناك صعوبات ماتزال تحول دون تحقّق الديمقراطية المنشودة والدليل على ذلك أنّ نخبا سياسية عريقة تاريخية مايزال تفكيرها إقصائيا. وهذه مشكلة يجب أن نعيها. كما يتوجب أن نشير إلى أنّ التجارب الأخرى التي نعرفها عن قرب ومن بينها التجربة الفرنسية وحتّى الروسية احتاجت إلى عقود طويلة من الزمن حتّى تنجح في مشروعها الديمقراطي. فرنسا على سبيل المثال احتجاجت إلى 150 سنة لكي يتسنى لها القطع بصفة نهائية مع الفكر الاستبدادي.
سنّ دستور جديد للبلاد وظهور ملامح تسويات خفيّة ومعلنة، هل سيخفضّ حسب رأيكم من منسوب التطاحن الأيديولوجي والتجاذب السياسي تمهيدا للانكباب على تركيز أسس البناء الديمقراطي المنشود؟
على الرغم من كلّ الاختلافات التي نسمعها في فضائيات تونسية ونقرؤها في جرائد، أعتبر أنّ الدستور التونسي الرّاهن دستور مهم وفيه الكثير من المكاسب التي يجب أن نعترف بها والتي يجب أن نلتزم بروحها. وهو دستور لا يقلّ جرأة عن دستور 1959.
لكنّ الدساتير المتطوّرة ليست مجرّد حبر على ورق فهي تتطلّب إرادة وثقافة مترسخة وذهنية واعية؟
الدستور بالنسبة إليّ هو، إضافة إلى صفته الدستورية والقانونية ، ميثاق أخلاقي ونفسي واجتماعي وسلوكي يوجه إلى حدّ كبير تصرفات الفاعلين السياسيين أي النخبة تحديدا ويلزمها بمحاذير عديدة ولكنّه لا يكفي ما لم يرافقه اشتغال قويّ وفي العمق على إعادة بناء الإنسان التونسي. هنا أعطي مثالا فأنا أستقبل كلّ سنة جامعية جديدة جيلا جديدا من الشباب. ولكن ما لفت انتباهي عموما هذا الوهن الذي أراه في سلوك هذا الشباب وعدم الاقبال على المعرفة والتعلّم والاستزادة من القراءة والمطالعة. هذا أمر هو أيضا يحتاج إلى مراجعة. وهذه المراجعة هي حلقة بسيطة من حزمة من الحلقات نسميها إعادة بناء الشخصية التونسية القاعدية.
لأنّه حينما لا يكون الشاب مندفعا إلى المعرفة والتعلّم في سنّ العشرين فكيف يكون مندفعا للعمل والانتاج في سنّ الأربعين أو الخمسين سنة ؟ والمثل الانقليزي يقول إذا لم يكن الشاب ثوريا في العشرين فكيف له أن يكون على هذا النحو في الخمسين أو الستين من عمره؟(تبسّم ضاحكا ضحكة خفيفة) ..هي في حدّ ذاتها نفس القصّة.
وإلى أيّ حدّ أثّرت هذه الأنوميا المجتمعية التي كشفت مواطنها على الذكاء التونسي الذي يعدّ الرأسمال الرمزي للبلاد؟
للأمانة وحتّى نكون موضوعيين،التونسي لا تنقصه القدرة على الاندماج والانفتاح والذكاء. ولكن ما حصل هو أنّه قد تمّ الاشتغال بقوّة على تحقيره وتبخيسه من أجل عدم إعطائه الثقة في النفس بدليل أن الشاب التونسي على امتداد عقود خمسة من دولة الاستقلال حينما لا يكون منتميا سياسيا يقصى ويهمّش ولا يشارك في أيّ نشاط... حينما لا يستشعر الثقة في النفس... بل يعمل بدونية وبشكل اقصائي ولا تمنح له فرصة حقيقية للمشاركة في المجتمع وفي الشأن العام فإنّه ينتهي إلى فقدان الاحترام لهذا الذكاء. فالنظام المجتمعي ليس مبنيا طوال العقود الخمسة الماضية على الذكاء وتقدير الموهبة وتشجيع الاقتدار والكفاءة. بالعكس كان نظاما اجتماعيا وسياسيا وثقافيا مبنيا على الزبونية والولاء الضيق للشخص الحاكم وعلى الهبة مقابل الطاعة. هو كذلك لم يكن نظاما يشجّع على الذكاء القيمي بل هو يحثّ على الذكاء الاجتماعي المرتكز على الوصول إلى الغنيمة وهو ما يقتضي إبراز أكثر وأكبر مظاهر الولاء والقبول بالواقع القائم.
إذا كنّا لا نعيش أزمة ذكاء، كيف يمكن اذن أن نفكّ طلاسم انخراط جزء لا بأس به من النخب بما في ذلك دعاة الفكر التقدّمي في استهلاك و ترويج ثقافة الميتافيزيقا والضغائن والتحلّل المعياري والتفكّك القيمي بشكل يوحي باغتيال العقل المفكّر والناقد والمتمرّد؟
لا أعتقد بأنّه يوجد تفسير كامل وشامل لمثل هذه السلوكيات. أنا أميل إلى القول بأنّ كلّ هذا الذي أسلفت ذكره هو محصّلة من بين المحصّلات التي جنيناها من تراجع جودة التعليم في تونس. يعني لاشكّ أنّه قد تمّ الاشتغال خلال العقود الثلاثة الأخيرة على تشجيع تراجع المنظومة التعليمية وتوهين المدرسة التونسية التي هي العمود الفقري للنظام السياسي(يقصد الفترة البورقيبية) ومشروعيته آنذاك. لقد تمّ الاشتغال على تبخيس قيمة المعلّم وتتفيهه وعلى تدمير قدسية الفضاء التربوي والتثقيفي.
ومن المفارقات العجيبة في المجتمع التونسي أنّ المدرسة التي كانت مصدر مشروعية النظام السياسي والعمود الفقري للحراك الاجتماعي وارتقاء الأفراد دمّرت وأضعفت قيمة شهائدها العلمية إلى درجة أنّه في إحدى الكليات في العاصمة التونسية وصلت نسبة الغشّ إلى 60%، والذين تورطوا في هذه الجريمة لم يعاقبوا. والدليل على أنّ المتفوقين في الجامعة وفي الادارة التونسية يعزلون ويعاملون بهامشية بدل جعل الشخص المستقيم والمنتج والمجتهد منارة يقتدى بها ليعطي مثالا ايجابيا يعمّم، حيث يتمّ العمل على تدمير سمعته وتشويهه وإقصائه. وأنا التقيت في حياتي بعشرات الكفاءات في الإدارة التونسية وفي الجامعة يعيدون نفس الخطاب وهو أنهم حوربوا بتعلة الازعاج. أعتقد أنّ هذا يدخل في إطار ما أسميته تدمير قيمة المعرفة والقضاء على قدسية المدرسة في مجتمعنا.
الأحزاب السياسية الحالية،خاصة الكبرى التي هي مرشحة للمنافسة على سدّة الحكم،هل يمكن أن تمثلّ مصدر خلاص من هذا الانحطاط والانحسار القيمي المتغلغل صلب المجتمع التونسي؟
أنا أشتغل منذ 3 سنوات تقريبا على الأرضيات الفكرية والسياسية للأحزاب ولكن لم ألمس ذلك إلى حدّ الآن لأنّ المشكلة الكبرى في البرامج السياسية في تونس تكمن في كونها غير مهتمة كثيرا بالمسألة الثقافية والتربوية. وهذا معطى مهم يعكس نقصا فادحا على الأحزاب أن تتداركه. إنّ بناء تونس الجديدة لا يمكن أن يكون اقتصاديا وماليا وسياسيا فقط،بل هو بالأساس ثقافي وتربوي أي لا بد من إعادة بناء الإنسان التونسي.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.