نشر الفيلسوف والمفكر اليساري كمال الزغباني مقالا تحليليا على حسابه الخاص في الفايسبوك انتقد فيه أداء الجبهة الشعبية وقياداتها. وقد تضمّن النصّ الذي اثار جدلا كبيرا بين الجبهويين لدرجة أنّ بعضهم كال اتهامات خطيرة للزغباني ما يلي: "لمّا انبثق مشروع "الجبهة الشعبيّة" من فكر شكري بلعيد المتوقّد، ردّة فعل أولى، موجبة وشجاعة على الفشل الذريع الذي تجرّعته القوائم التقدّمية والحداثيّة في أوّل انتخابات بعد 14 جانفي 2011، تحمّس لها أبناء اليسار على اختلاف أجيالهم وتعدّد توجّهاتهم السياسيّة والفكريّة واختياراتهم الحياتيّة. لا فقط لأنّها كانت إقرارا ضمنيّا من زعيم الوطد وقتها بأنّ اختياره (مثل باقي قادة الأحزاب اليسارية) التقدّم إلى تلك الانتخابات بقوائم منفصلة كان مبنيّا على سوء تقدير غير مسبوق من جانبه، ولكن خصوصا لأنّ كلّ أبناءاليسار، بمختلف درجات انتمائهم أو عدم انتمائهم إلى هذا الخطّ الإيديولوجي والسياسي أو ذاك، رأوا فيها السبيل الوحيدة للخروج من حالة التشرذم التي ظلّت تعطّل طوال عقود كلّ الطاقات الهائلة التي كانوا يحملونها على الفعل في الواقع السياسي والاجتماعي والثقافي دفعا له باتّجاه التلاؤم مع مُثل العدالة والحرّية وتأسيسا لوجود إنسانيّ أقلّ فداحة في مواجهة النموذج الرأسماليّ المهيمن القائم على أبشع أشكال الاستغلال والسلعنةmarchandisationو"التبهيم"abêtissementوالكلّ الاستهلاكي الذي يقتل في الإنسان حيوانيّته، بل حتّى "كيانيّته"،étantitéلا فقط إنسانيّته. ناهيك أنّ"الجبهة" لم تكن في ذهن شكري بلعيد، وكلّ من تفاعل معه خارج الحسابات"الحانوتيّة" محدودة الأفق، إلاّ مرحلة باتّجاه البناء المتأنّي لحزب يساريّ موحّد فاعل ومؤثّر بمقتضى اقتداره على استيعاب شتّى مكوّنات وأجيال اليسارالتونسي واستثمار تغايراتها وتفعيل زخم مخزوناتها وتجاربها ونضالاتها السياسيةوالنقابية والفكريّة والفنّية الهائلة.
تحمّست بدوري للمشروع البلعيدي للأسباب المذكورة أعلاه ولكن أيضا لأسباب أخرى أعتقد أنّي أشترك فيها مع عدد كبير من المثقّفين والمفكّرين والمبدعين المتشبّعين بالمثل والقيم السياسيّة-الإيتيقيّة اليساريّة دون أن يكونوا منتمين إلى هذا الفصيل أوذاك، إلى هذا الحزب أو ذاك. وهي أسباب يمكنني إجمالها في التالي : 1- أنّ الجبهة هي الحاضنة الضروريّة للنضالات الشعبيّة التي يُبتغى منها الدفع بالمسار الثوري باتّجاه المثل والقيم التي انبثق من أجلها والتي هي مثل وقيم اليسار في تاريخ الإنسانيّة برمّته أي التوزيع الأعدل الممكن للثروات، وتحقيق شروط عيش تتوسّع فيه باستمرار مجالات وآفاق حرّية الإنسان وتحفظ فيه كرامته وينمو فيه ذكاؤه وتتمظهرإبداعيّته. وهو ما عبّر عنه الشباب الثائر بوعي تلقائيّ حادّ من خلال شعاره الأساسي: شغل، حرّية، كرامة وطنية. 2- أنّ الجبهة (ومن بعدهاالحزب اليساريّ الموحّد) هي المجال السياسيّ الأجدى لاستقطاب الآلاف من أبناءاليسار الذين لم يجدوا في الفصائل والأحزاب اليساريّة والتقدّميّة عموما حيّزا تنظيميّا يمكّنهم من ممارسة الفعل السياسي المباشر (من انتخاب وتحمّل مسؤوليّات تنظيميّة وسياسيّة يفيدون من خلالها شعبهم بكفاءاتهم) من دون أن يضطرّوا إلى التخلّي عن مسافاتهم النقديّة الموجبة تجاه شتّى التشكيلات الموجودة. 3- أنّ الجبهة هي الإطارالتنظيميّ الأنجع والمختبر الأنسب لاحتضان الحوارات الإيديولوجيّة والسياسيّة والفكرية التي من شأنها الدفع نحو تجديد مقوّمات الفكر والفعل والتنظيم اليساريّة بعدمختلف النكسات التي عرفتها عالميّا إثر ثبوت فشل النموذج الهرمي الممركز والشمولي الذي سارت عليه الأحزاب الشيوعيّة في العالم والذي أدّى إلى انهيارها. ذاك الانهيار الذي جعلت منه الرأسماليّة المهيمنة والرجعيّات الإيديولوجيّة والسياسيّةبشتّى تعبيراتها (لاسيّما الدينيّة منها) "حجّة" على أنّ الفكر اليساريّ فاشل ومتهافت وديكتاتوري "من حيث هو كذلك". 4- أنّ رؤية شكري بلعيد للجبهة ثمّ للحزب الموسّع الذي كان يريده لها أفقا ضروريّا كانت (وستظلّ) السبيل الوحيدة لحلّ ومجاوزة المعضلة التي ظلّت تكبّل اليسار التونسي على امتداد تاريخه :ثراء وحضور لا نظير لهما على المستوى الفكري والفنّي والأدبي والثقافي (كلّ المبدعين الذين يعتدّ بهم في مختلف هذه المجالات، متشبّعون بدرجة أو بأخرى بالقيم والمثل العليا اليساريّة) في مقابل ضآلة كبرى للفعل والتأثير السياسيّين والاجتماعيّين. بناء على كلّ هذه الأسباب ولدت أو تجدّدت جذوة النضال السياسيّ المهيكل في الآلاف من أبناء اليسار، من منتمين ومستقلين ونقابيّين وطلبة ومثقّفين ومبدعين، وتنادوا إلى اجتماعات الجبهة ومسيراتها واعتصاماتها وتحرّكاتها داخل الأحياء الشعبيّة والمناطق المحرومة والمهمّشة. وتمكّنت الجبهة بفعل ذلك (وبفعل الحضور الإعلاميّ والميداني الذكيّ لبلعيد) من أن تستقطب في وقت قياسيّ أعدادا كبيرة من شباب تلك الشرائح الاجتماعيّة التي ما كان أحد من قبل يتخيّل أنّها ستنصت إلى خطاب الجبهة وتتبنّى مضامينه بل وتضحّي بطموحاتها وحتّى بأجسادها من أجله (أحداث "الرشّ" بسليانة نموذجا أقصى في تعبيريّته). فتلك الشرائح ظلّت طويلا تراوح بين انتماءين : إلى حزب الدستور ثمّ التجمّع بما هوالحزب المسيطر على الإدارة وعصابات المال والذي يستغلّ هشاشتها لضمان ولائهاوخنوعها عبر إسكاتها ببعض الفتات الذي كان يؤجّل به انفجار غضبها، وإلى النهضة وتفريعاتها التي كانت تستغلّ ذات الهشاشة بخطاب دينيّ مواس أخرويّا وبهبات و"صدقات" دنيويّة مجزية ومذلّة في الآن ذاته. وجعلت الجبهة "تنتشرفي الأرض" كما عبّر عن ذلك شعارها البلعيدي. بل إنّها نافست بجدّية تركيبتي اليمين السياسي والاجتماعي، الليبرالي-التجمّعي من جهة والديني-النهضاوي من جهة ثانية، حتّى في بعض استطلاعات الرأي.
كيف يُستغرب إذن أن يغدو بلعيد عدوّ "السيستام" الأوّل والأشدّ خطرا وأن يتمّ بالتالي اغتياله على ذلك النحو البشع والجبان، ثمّ البحث، على نحو أشدّ بشاعة وجبنا، عن طمس كلّ الأدلّة والدلائل على مرتكبي فعل اغتياله من قبل الحاكم الإسلاموي وميليشياته السوداء والزرقاء بالتعاون مع الدوائر الأمنيّة والمخابراتيّة التابعة ل"المعارض" التجمّعي؟ عشيّةالاغتيال ووصولا إلى انتهاء مراسم الدفن عاشت تونس وضعيّة فريدة ربّما لم يشهد التاريخ الإنسانيّ لها مثيلا : حاكم إسلاموي لزمت رموزه جحورها مسلّمة بانتهاءحكمها وذهاب ريحها، وأجهزة أمنيّة وعسكريّة تركت زمام المبادرة في البلاد للشعب الغاضب (بقيادة جبهة بلعيد) مترقّبة ما سيكون من أمره...وشعب كامل كان ينتظر ممّن بقي في قيادة الجبهة إشارة المرور إلى اللحظة الحاسمة والمنتظرة من المسارالثوريّ...ولكن كان ما كان من ذلك "النّم" الذي لا فائدة في التذكير بسخفه...وأُنقذ الحاكم الإسلامويّ و"السيستام" البوليسي التجمّعي من الانهيار...وازداد بذلك قوّة وصلفا.
بعد الاغتيال وبعد ال"نمّ" بدأت تبرز بأكثر وضوحا بعض مواطن الخلل فيتركيبة الجبهة. مواضع كان حضور بلعيد الموجب في مقدرته، بل موهبته التوحيديّة يغطّيها دون أن ينجح لوحده في تجنّبها، فما بالك بمعالجة عللها في العمق. فقد تبيّن منذ الاجتماعات والتحرّكات الأولى خاصّة في الجهات (نبّهت شخصيّا إلى هذا خلال الاجتماع الأوّل الذي حضرته بجهة صفاقس فكان أن وقع "السهو" عن دعوتي في الاجتماعات اللاحقة) أن بعض، إن لم أقل جلّ الأحزاب المكوّنة للجبهة تناست بسرعة الأفق التوحيدي الذي أراده لها شكري بلعيد لتجعل منها "سوق عكاظ"سياسيّ وإيديولوجي تعرض فيه سلعتها البائتة وتنتدب لها فيها أكبر عدد ممكن من الوافدين، من شباب طالبي وتلمذي ومن مستقلّين جاؤوا بحثا عن مشروع توحيدي يفعّلون فيه طاقاتهم النضاليّة المبدعة فوجدوا أنفسهم إزاء "حوانيت" تردّد ببّغاواتها خطابات إيديولوجية متآكلة لم يقرأ أصحابها كتابا أو حتّى مقالة جادّة في الفكر والتنظيم السياسيّين لليسار منذ السبعينات في أحسن الحالات. ظهر ذلك بالخصوص من خلال الخصومات والصراعات الخفيّة والظاهرة على ما سمّي ب"تمثيليّة المستقلّين" سواء على المستوى الوطني أو الجهوي حيث جعل كلّ طرف يقدّم تشكيلة من "المستقلّين" المزيّفين لدعم موقعه وتأثيره في النواتات التنظيميّة الأولى للجبهة من أجل جعلها حديقة خلفيّة في خدمة هذا الحزب أو ذاك. لكنّ مظاهر هذه الإخلالات والانحرافات برزت وتعمّقت أكثر بعد اغتيال شكري بلعيد، ثمّ محمّد البراهمي. والأخطر من ذلك أنّها لم تقف عند مستوى صراع المواقع على المستوى الداخليّ للجبهة، بل طالت أيضا الخيارات الأصليّة التي قامت عليها واكتسبت بمقتضاها مشروعيّة سياسيّة وفكريّة لدى الذين انضمّوا إليها وحضورا شعبيّا متزايداوأكثر عمقا وتأثيرا يوما بعد يوم. فقد تنازلت قيادات الجبهة مرّتين عن المطلب الأساسي الفوريّ من جهة وعن القاعدة السياسيّة والتنظيميّة التي قامت عليها من جهة ثانية. تنازلت من جهة عن المطلب المعقول الوحيد المتمثّل في رحيل الترويكا عن الحكم ومحاسبتها على ما تورّطت فيه من جرائم، وقبلت بالتالي ترقيعها بحكومة "الكفاءات" التي اقترحها حمّادي الجبالي لربح الوقت وامتصاص الغضب إنقاذا لحزبه. وجعلت من جهة ثانية تغادر الشارع والجماهير الشعبيّة شيئا فشيئا ليقتصر فعلها السياسي على التنسيق فوقيّا (ضمن ما سمّي "جبهة الإنقاذ") مع أحزاب ليبراليّة وعلى رأسها نداء تونس وريث التجمّع ورأس حربة السيستام الأمني-الإداري-المافيوزي الذي عاود ترميم أجهزته والذي مكّنه تنسييق الجبهة معه،إلى جانب انضمام بعض انتهازيّي "اليسار" المزيّفين إلى صفوفه، من اكتساب"عذريّة" سياسيّة وأخلاقيّة ما كان ليحلم بها. وهكذا أمكننا أن نرى مناضلي الأمس وحتّى بعض من كانوا من المساجين السياسيّين لليسار في العهدين البورڤيبي والبنعلي يستعرضون مفاتنهم الخطابيّة جنبا إلى جنبا مع جلاّديهم السابقين. بل ورأينا أيضا مناضلين يساريّين ينظّمون "مسيرات" مشتركة مع البوليسيّة الذين أسبغت عليهم فجأة صفة "الأمن الجمهوري" وامّحى في رمشة عين تاريخهم الأسود في القمع والتعذيب والتنكيل بكلّ من كان يقول "لا"ولو بينه وبين نفسه. تتويجا لذلك كلّه، كانت لحظة الفقدان الكامل للبوصلة النضاليّة للجبهة بعد انخراطها في ماسمّي بالحوار الوطني الذي يعلم أيّ مبتدئ في السياسة أنّه : 1- مدفوع بتونس إليه من قبل دوائر قرار أجنبيّة غايتها ترويض المسار الثوري التونسي وجعله نموذجا مقدودا على المقاس بالنسبة للمنطقة برمّتها. نموذج "ثوري سُوفْت" رمزه لياسمين السياحي وغايته ومنتهى أفقه ديمقراطيّة شكليّة تداوليّة بل "توافقيّة"تعطي لنظام الحيف والاستغلال الاقتصادي والاجتماعي مشروعيّة أشدّ رسوخا كونها منبثقة عن حراك ثوريّ، 2- أنّ ذلك الحوار كان قائما على شروط أوّليّة مسكوت عنهاإعلاميّا وهي بالأساس عدم المسّ بعناصر المؤامرة البشعة التي ذهبت بالشهيدين بلعيد والبراهمي، بمكوّنيها الميليشيوي الإسلاموي والأمني المخابراتي، إلى جانب كونه يهدف إلى دعم التوافق الذي جعل يتدعّم يوما بعد يوما بين النهضة والتجمّع(النداء). هكذا،ضمن "إجماع وطني" مخز وسخيف من قبل كلّ الأحزاب السياسيّة والمنظّمات"الوطنيّة"، "بايعت" قيادات الجبهة حكومة التكنوقراط المعدّة للبلاد سلفا من قبل الدوائر الماليّة والسياسيّة للرأسماليّة العالميّة وبدلا من أن تنتشر أكثر على الأرض، كما أراد لها مبدعها، جعلت الجبهة تزحف على حبال مهترئة نحو تحالفات انتخابيّة بائسة معمِّدة بخطابها "الثوريّ" الفاقد كلّ مصداقيّة سوق النخاسة الذي ضرب خيامه في مقرّات السفارات الأمريكيّة والألمانية والفرنسية لبيع تونس والمنطقة برمّتها أرضا وسماء وثروة وناسا وتاريخا ودما وعرقا وأحلاما.وازداد مشهدها إيغالا في الميلودراميّة البائسة حين كوفئت تنازلاتها لليمين التجمّعي المافيوزي بطرد صريح ومخجل من قائماته الانتخابيّة المرتقبة ومن ورائها ما كان بعضهم يحلم به ولا شكّ من مواقع ومناصب. وهو "طرد" تمليه بداهة ترابط مصالح اليمينين الليبرالي والديني الذين رغم تراشقهما ظاهرا بشتّى"أسماء الطيور" كما يقول الفرنجة، فإنّ منتهاهما الضروريّ شكل أو آخر من التحالف، أو على الأقلّ من تقاسم الكعكة التونسيّة المضرّجة بدماء ودموع وعرق"الشعب الكريم" الذي ارتكب يوما "حماقة" إبداع ثورة غيرمسبوقة.
حين تتنازل عن الأساسي في مشروعك، سواء في كيفيّة تصوّر وإدارة العلاقات بين المكوّنات الداخليّة لتنظيمك، أم ضمن علاقاتك مع خصومك السياسيّين والفكريّين داخل البلادكما خارجها، فإنّ التنازلات الأخرى كلّها (بما فيها الأشدّ تراجي-كوميديّة) تصبح مفهومة، بل محتومة. لأنّ التنازل الأصلي يحمل في رحمه سلسلة التنازلات الأخرىكلّها. والأشنع من ذلك كلّه أنّ انحدارك في سلسلة التنازلات تلك يؤدّي بك إلى شيئين مضحكين مبكيين في الآن ذاته : السكيزوفرينيا: التي تجعلك تبثّ في اجتماعاتك "الشعبيّة" وفي المواقع الإعلاميّة خطابا "ثوريّا" لانظير له بينما تمارس في مبادراتك وتنسيقاتك السياسيّة والانتخابيّة سلوكات انتهازيّةورجعيّة مؤكّدة . البارانويا: حيث يصبح لديك إحساس قهريّ بأنّك موضوع مؤامرةكونيّة، وتنمو لديك في الآن ذاته حساسية مرضيّة مفرطة ضدّ أيّ نقد، وخصوصا من أولئك الذين شاركوك المبادئ التي قام عليها المشروع قبل أن تحيد عنها وتذهب به إلى نقيضها. ويزداد أمرك شناعة لا تعبّر عنها إلاّ الدعابة السوداء، إذ تلجأ إلى آليّة النكرانdéni بعد كلّ حلقة جديدة في سلسلة انحدارك باتّجاه السفح السحيق الذي سيتهشّم على صخوره المدبّبة ما بقي لك من مصداقيّة ونضاليّة واتّساق مع الذات. ظهرهذا المطبّ الأخير خصوصا لمّا عبّر الكثير من مناضلات ومناضلي اليسار الذين انضمّوا إلى مشروع الجبهة ، أو حتّى الذين رحّبوا بها وتعاطفوا معها دون المغامرة بإعلان انتمائهم الصريح إليها، عن سخطهم أو نقدهم أو حتّى استيضاحاتهم المستغربة إزاءسلوكات القيادة مرّات عديدة. ولكن بالخصوص أخيرا لمّا حضر ممثّل عنها (وهو ليس أقلّ من عضو في مجلس أمنائها الذي هو هيئة القرار العليا فيها-عنيت السيّد رياض بن فضل) مائدة إفطار أقامها السفير الأمريكي لنخبة (بل قل عصابة) سياسيّي البلاد في ذات الوقت الذي كانت فيه الصواريخ الأمريكيّة تمزّق بأيدي الصهاينة أجساد الفلسطينيّين العزّل وتهدم بيوتهم فوق رؤوسهم لتدفنهم تحتها بتعلّة "الدفاع عن النفس"وبدعم مطلق من الولايات المتّحدة وباقي القوى الاستعماريّة. فقد قال أحد هؤلاء"القادة" الأفذاذ (والمؤسف أنّه يجمع إلى نضاله السياسيّ في حزبه وفي الجبهة صفة الكاتب الروائي والصحفي – وأقصد السيّد عبد الجبّار المدّوري) ما معناه أنّ كلّ من ينقد الجبهة لذلك السبب هو "مأجور" لا يحبّ لا تونس ولا فلسطين وإنّما قصده فقط "إلهاء الجبهة عن مهمّاتها التاريخيّة الكبرى".قال ذلك بعد أن كان أكّد، هو وغيره من "الجبهاويّين" الذين لم يتحمّلوا نقد "ذوي القربي" لهم، أنّ "المسهول" المعني حضر إفطار العار ذاك "على شيء رأسه" ودون علم باقي القيادات. وهو لعمري تبرير مضحك مبك معا سواء صدق أم كان من الكاذبين. إن صدق فهو يدلّ على أنّ مجلس الأمناء المحترم طاحونة من دون طحّان ولا حتّى دقيق، وإن كذب فهو يدلّ على استخفاف بذيء ومقرف بعقول الناس وبالمنطق السليم ذاته. أين سيصل الانحدار بعد هذا؟ وأين سيقف...إن كان سيقف أصلا؟؟؟
أعرف أنّ هذا المقال سيجعلني "أخسر" الكثير من "الصداقات"(افتراضيا وواقعيّا على حدّ سواء) وأنّه سيجلب عليّ شلاّلات جديدة من السباب والشتائم والتخوينات تفوق بكثير في سخفها وبذاءتها تلك التي "استأهلتها"بعد نشري بعض النصوص الصغيرة الساخرة (سخريّة مكلومة مرّة تخفي وجيعة عميقة)، وها أنا أنشره رغم ذلك. لماذا؟ لأنّي مازلت وسأظلّ أؤمن عميقا أنّ المشروع البلعيدي مازال، وسيبقى حيّا رغم كلّ شيء...تماما مثل صاحبه الذي يدمي غيابه قلبي وقلوب ثوّار شعبه في كلّ آن وحين.