اسبوعا قبل ان يقع سد الموصل في قبضة داعش، بعد انسحاب قوات البشمركة منه، زرناه رفقة مجموعة من الصحفيين الاجانب. كانت اجراءات الحماية مشددة و كان من اللازم ان نخبر كل جندي يعترضنا في مختلف الحواجز المنصوبة ان لنا موعدا مع رئيس القوة المسؤولة عن حماية السد. استقبلنا عناصر البشمركة و قادونا الى احدى حاويات الشحن التي حولوها الى مسكن لهم. دخلنا. كان المكان مفروشا بالوسائد ومريحا. سارعوا بتقديم الشاي لنا كعادة الاكراد عندما يستقبلون الضيوف ثم قدموا لنا الشوكولاطة وهي عادة ما تقدم اثناء العيد ولم يمر كثير من الوقت على مرور عيد الفطر. بدت معنوياتهم عالية رغم قرب قوات داعش منهم فالسد يبعد مسافة 40 كلم عن شمال الموصل التي سيطروا عليها. ولا يخفى عليهم رغبة التنظيم الارهابي في بسط نفوذه على هذه المنشأة ، أولا لاهميتها الاستراتيجية في خطته للاستيلاء على الموارد لتدعيم دولة الخلافة ، و ثانيا لانها ستصبح أداة ضغط ضد من يقاتلونه، اذ ان تفجير السد سيؤدي الى اغراق مدن ومحافظات كثيرة في العراق، بداية بالموصل ووصولا الى مشارف بغداد. لم يخطر ببال البشمركة الموجودين هناك ولو للحظة ان داعش قادر على أخذ السد. بل كانوا يتندرون امامنا بالهزيمة الشنعاء التي اصابت الجيش العراقي الذي انسحب بكامل قوته من مدينة الموصل و من السد قبل ان ياتي عناصر البشمركة بعدها بيومين لبسط نفوذهم عليه. و قد اعترضتهم، كما اعترضتنا، بقايا السيارات المحترقة و الاسلحة و الملابس العسكرية للجنود العراقيين قبل ان يفروا. عندما سألناهم عن سبب هرب الجيش العراقي اجابونا بان هناك مؤامرة كانت تحاك في بغداد دون اضافة المزيد. ثم اخذونا في زيارة للسد وعلامات الفخر تملأ وجوههم و قد اصبحت هذه المنشأة الاستراتيجية تحت نفوذهم. لم لا وقد كان هذا السد يسمى من قبل سد صدام الذي عذبهم و قتلهم بالكيمياوي. وقد اسسه هذا الاخير سنة 1986 على ضفاف نهر دجلة. وهو يعتبر اكبر سد في العراق و رابع اكبر سد في الشرق الاوسط. الا انه مهدد دائما بالانهيار لانه مبني على تربة غير قادرة على الثبات لذلك يجب باستمرار تدعيم خرسانته بالاسمنت. على ضفافه دعانا البشمركة للجلوس و قدم احدهم حاملا آلته الموسيقية - "البزق" - وبدأ يعزف بصوت حنون أغنية حب كردية. كان المشهد أشبه بحلم. في سد الموصل المتنازع عليه ، و على بعد بضعة كيلومترات من مركز انتصاب داعش و الموت يحيط بهؤلاء الجنود من كل مكان، ينبعث هذا الصوت الجميل ليذكر بحب الحياة الذي يبقى أقوى من كل شيء. انتشى الجميع بهذه الموسيقي رغم حرارة الشمس الحارقة و لكن النشوة بلغت أشدها عندما بدأ الجندي يغني أغنية وطنية عن بسالة البشمركة و شجاعتهم في القتال. عندها خرج الجنود الباقون عن سكونهم وبدؤوا بأداء رقصة "الدبكة" الكردية ليتحول المشهد الى احتفال بامتياز. و أمام دهشتنا كانوا يرددون على مسامعنا: "نحن الاكراد نحب الحياة لذلك سننتصر على داعش". ولم يكونوا يمانعون ان نصورهم و هم يغنون او يرقصون او حتى يسبحون في السد. فبالنسبة لهم ليس لديهم شيء يخفونه أمام الصحفيين. هم مؤمنون بقدراتهم القتالية و بعدالة حربهم ضد التنظيم الإرهابي، بل هم بذلك يرغبون في اكتساب دعم الرأي العام و خاصة الأجنبي. استحضرت هذه الحادثة يوم سقط سد الموصل بيد داعش، أي يوم 3 اوت، و قلت في نفسي : هل كانت ثقة البشمركة في انفسهم زائدة عن اللزوم ام ان هناك خطة ما ؟ ولم تلبث الاجابة ان جاءت من قبل بلد العم سام. فأحداث سقوط السد و الهجمة الارهابية على سنجار كانت كفيلة بإخراج الرئيس اوباما من تردده حيال ما يجري في العراق، ليقرر اخيرا التدخل لحل الازمة. وعلى منواله نسجت بقية الدول الاروبية ليصبح الاكراد في قلب الحدث العالمي، يتسارع الجميع لمدهم بالمعونات و السلاح حتى و ان كان القانون العراقي لا يسمح بإعطائهم السلاح مباشرة لأن اقليم كردستان ليس دولة مستقلة. بعض الملاحظين هنا في اربيل اعتبروا ان ما حصل هو خطة من الاكراد، حيث انسحبوا بشكل فجئي ومن دون قتال من السد و من بعض القرى المسيحية و الايزيدية ليسمحوا لداعش بالسيطرة عليها و التنكيل باهلها فيتحرك بذلك الرأي العام الدولي و تضطر القوى الغربية لمساعدة الاكراد. يبدو ان الخطة نجحت و استطاعت قوات البشمركة استعادة السد بالكامل و هي ماضية لاستعادة القرى و المدن التي استولى عليها داعش و ذلك بغطاء جوي أمريكي. و لكن بأي ثمن يا ترى؟ مئات الاطفال و الرجال الايزيديين قتلوا و سبيت نساؤهم وكذلك حصل مع المسيحيات. او لا يحسب لهؤلاء حساب في غمرة الحروب و المصالح الجيواستراتيجية؟