يصعب إعطاء وصف لنضال الرفيق حمة الهمامي طوال أربعين عاماً قضى منها سنوات طويلة في السجون والعمل السري هربا من مطاردة الأمن له. السيرة النضالية المميزة بكل المقاييس لمعارض شرس لمؤسسة الحكم في تونس فرضت احترامه على الجميع خصوم وأصدقاء، ورغم كل أساليب التعامل معه بالعنف والسجون أو محاولة إٍرضائه بصفة شخصية ظل وفياً لرفاقه وحزبه ونضال الطبقة الكادحة المنتمي لها فكراً وهوية. سنوات حكم بن علي عاش زعيم حزب العمال مطاردا، وبين التخفي والهروب من ملاحقة أجهزة الأمن قضى سنوات طويلة، وتحول في نظر رفاقه لقائد يضحي دون حساب ورجل مواقف ثابتة لا ينكسر. يوم سقوط نظام بن علي خرج حمه الهمامي من باب وزارة الداخلية التي كان معتقلاً فيها إلى الشارع الممتلئ بالجماهير الغاضبة من رئيس أضاع البوصلة وغرق في التفاصيل وملذات الحياة، لحظة جسدت عودته لحضن شعبه الذي سمع عنه ولم يعرفه، كانت ربما للكثيرين المرة الأولى التي يشاهدوه فيها. لحظة خروجه من المعتقل أعطته الفرصة ليكون زعيماً لقوى الثورة، لكن الرفيق الأمين العام لحزب العمال أختار الخروج من الباب الصغير، ولم يستطع عند القفز من السرية للعلن المحافظة على صفاء ذهنه، وثورة الشعب التونسي الغير متوقعة أضاعت بوصلته بين واقع لم يقرأ بدقة وأحلام عششت في كتب الرفاق. دون سبب معلن وفي لحظات لم تستطع تونس استعادة توازنها طالب بانتخاب مجلس تأسيسي جديد في محاولة لإيقاف الزمن واستعادة دور زعماء رحلوا جميعا ولم يبقى منهم سوى الذكريات، مما قاد لمجلس تأسيسي لا يشبه التاريخ ويشوه الحاضر، غاب عنه حمه الهمامي وضاعت ثلاث سنوات خسرت فيها تونس أكبر مما توقع أكثر المتشائمين بالقادم ودفعت فيها جبهة اليسار الثمن غاليا بسقوط أثنين من قادتها برصاص الإرهاب الذي فتحت له الأبواب بعد انتخابات قفز فيها الإسلام السياسي لصدر الحدث حكماً وقرار. اللحظات التاريخية التي منحت حمة فرصة ليكون قائدا بكل ما للكلمة من معنى أكبر من أن تعاد، لكن سوء قرائتها جعله دائما عاجزا عن التحول لزعيم يقود واكتفى بدور القيادي الجالس على الربوة يراقب الآخرين وينقدهم دون مشاركة في صنع الحدث وتحمل تبعاته ونتائجه. لحظة استشهاد شكري بلعيد وفي جنازته التي جمعت نصف مليون تونسي لم يستطع الرفيق حمة استلهام اللحظة ويسجل اسمه في التاريخ، واكتفى بتقبل التعازي والعودة حزينا على فقدان رفيقه ليبدأ حصاد التراجعات والانكسارات في الجبهة التي حازت يومها على قلوب كل الشعب التونسي، وفي استشهاد المناضل محمد البراهمي وقف يتقبل التعازي ولكن بعد أن انفضت الجماهير عنه لأنها لم تجد فيه أكثر من قيادي يساير مرحلة لا يعرف كيف يقودها. التراجع الذي حصدته الجبهة الشعبية في الانتخابات التشريعية لم يكن كافيا ليفهم الرفاق الذين يقدمون خطابهم على أنه ممثل الفقراء والعمال والكادحين والمعبر عن أحلامهم وأمانيهم، بأن اللغة التي يتحدثوا لاتصل مسامع المظلومين والمستضعفين وتبقى بعيدة عنهم، ونفس النتائج حصدها الرفيق حمة في الانتخابات الرئاسية والذي توهم أن الشعب سيهب ليبايعه وهو جالس على الربوة ليقود تونس ويحقق ثورة وطنية ديمقراطية دغدغته أحلامها طوال عقود. بعد الحصاد المر، راهن كثيرون على ذهاب زعيم الجبهة الشعبية ورفاقه للتحالف الطبيعي مع القوى السياسية التي تقاسموا معها الكثير من المواقف والتحديات سنوات حكم النهضة وحلفائها، على اعتبار الجبهة كانت الخصم الأشد لتلك الحكومات ودفعت غاليا من دماء قادتها ثمن التحريض ضدها، لكن الرفاق لم يتصوروا أن يجدوا أنفسهم مورطين في تحمل مسؤولية الحكم وهم الذين عاشوا دائما بين كتبهم وأحلامهم ينتقدون فشل الآخرين ويصغرون نجاحاتهم، مصرين على امتلاك الحقيقة التاريخية وحتمية الانتصار الذي لم يأتي. بدون استغراب من الموقف وفي تكرار تقليدي للسقوط في الخطأ قفز الرفاق لأعلى الربوة ينتظرون نتائج الصراع بين مرشح القوى الوطنية ومن يريدون تسميتهم باليمين ومرشح ممثل أحزاب الترويكا وحلفائها المبعثرين من الإسلاميين وما بعدهم من قوى تهدد بجر البلاد للعنف مرة أخرى دون اهتمام لما يمكن أن يؤدي ذلك من كوارث. القفزة الرشيقة تعيد للأذهان حكايات يتفنن اليسار بالسقوط في براثنها منذ تحالف الحزب الشيوعي الإيراني مع أية الله الخميني والذي أهداهم بعد سنتين من إسقاط نظام الشاه مئات المشانق. الجبهة الشعبية وزعيمها يقفان في لحظة بين الوجود والاندثار، بين القفز لمشروع فيه الكثير من الألم والحلم وبين الخروج من الزمن، بين التطهر والتعالي وبين القفز لمربع الجماهير ومعاناتهم. بين ضياع الظل ووجوده تختلف الصورة من السير تحت الشمس إلى القفز خارج الزمن وهنا يكمن التحدي بين أن تكون رمزا أو تضيع ظلك. تنويه: عنوان المقال مقتبس من رواية الأديب الكبير فتحي غانم "الرجل الذي فقد ظله".