كلّ الأوطان الجميلة تأكل أبناءها...وتستمع بذلك ضاربة عرض الحائط بتنهّدات الأمّهات الثكالى والأطفال اليتامى والمحبّين الحيارى. لا أكاد أتصوّر وطنا جميلا واحدا لا يطلب كلّ قليل قربانا ليزداد جمالا على الأرض وترتفع رايته أعلى في السماء... التاريخ نفسه، لا يتصوّر أنّ بإمكان أمّة النهوض دون أن تتعثّر الآن أو بعد حين، مخلّفة هنا شابا كان يحلم بعمل وبيت وشابّة كانت تطمح الى أن تصير أستاذة أو طبيبة أو عارضة أزياء وعجوزا مايزال قابضا على بقية أمل... لم نعيب أحيانا على تونس أنها تأكل أبناءها؟ أوليست تونس جميلة كسائر الأوطان أو أكثر؟! لم أكن يوما صديقة سفيان الشورابي أو نذير القطاري...ربمّا كنت ومازلت أعتقد أنّ هناك في الحياة متّسعا من الوقت لأفعل... لكنّ الموت، لا يعتقد ذلك على الأرجح... لو كنت أعلم أنّ غياب سفيان سيترك كلّ هذا الفراغ، لأسرعت أملأ بابتسامته كلّ أركان حياتي وجوانبها...ولو علمت من قبل، أنّ غياب نذير سيغرقني في كلّ هذا الظلام، لأسرعت أضيء ب"فلاش" كاميراته عتمة روحي الموحشة... لم أكن صديقتهما يوما... جاءا الى الدنيا، وملآها بالحضور، وشغلاها بالغياب... ورحلا...فصارا حديثها. لو أنّ الإرهابيين كانوا يعرفون سفيان ونذير جيدا، لفكّروا مليّا قبل أن يصبّوا رصاصاتهم الغادرة في جسديهما الطاهرين... هناك أجساد تزداد حياة كلّما أراد لها الآخرون الموت... جسدا سفيان ونذير أحدها... ولو أنّ قتلة الشورابي والقطاري كانوا يعرفونهما جيدا، لتردّدوا قليلا على الأقلّ قبل أن تسوّل لهم أنفسهم فصل الروح عن الجسد... ستظلّ روحا شهيدي الصحافة التونسية تحلّقان عاليا فوق ساحة الجريمة وتلاحقان القتلة أينما حطّوا الرّحال حتى تقتلعا منهم "الروّح"... لم يقتل سفيان ونذير ل"يموتا" هما فحسب... من قتلهما أراد للصحافة التونسية أن تصاب بالصدمة فتخرس...وللشعب التونسي أن يصيبه الشلل فلا يعود يقوى على المواجهة... مقتل صحفيي تونس حركة خسيسة أريد بها لوطن بأسره أن يموت... ولفرحته بإنجازه التاريخي أن تتبدّد ويحلّ مكانها العويل الجنائزي... استشهد سفيان ونذير...وعاش الوطن... ومن قبلهما استشهد جنودنا البواسل وأمنيونا الأحرار ... ومن قبلهم، روت دماء المدنيين التونسيين والمناضلين والزعماء الوطنيين أرض البلاد فنما على صدرها العشب واخضرّت أشجار زيتونها وتفتّح أقحوانها وجرت وديانها زهوا وتسامى نخيلها طربا... لولا تلك الدّماء لما كان الوطن جميلا بهذا القدر في أعيننا... سفيان ونذير أيضا، كانا صحفيين جميلين على هذه الأرض... وباستشهداهما في سبيلها صارت بهما أجمل.