بقيادة بوجلبان.. المصري البورسعيدي يتعادل مع الزمالك    قضية منتحل صفة مسؤول حكومي.. الاحتفاظ بمسؤول بمندوبية الفلاحة بالقصرين    مخاطر الاستخدام الخاطئ لسماعات الرأس والأذن    صفاقس تُكرّم إبنها الاعلامي المُتميّز إلياس الجراية    سوريا... وجهاء الطائفة الدرزية في السويداء يصدرون بيانا يرفضون فيه التقسيم أو الانفصال أو الانسلاخ    مدنين: انطلاق نشاط شركتين أهليتين في قطاع النسيج    في انتظار تقرير مصير بيتوني... الساحلي مديرا رياضيا ومستشارا فنيّا في الافريقي    عاجل/ "براكاج" لحافلة نقل مدرسي بهذه الولاية…ما القصة..؟    الاحتفاظ بمنتحل صفة مدير ديوان رئيس الحكومة في محاضر جديدة من أجل التحيل    الطبوبي في اليوم العالمي للشغالين : المفاوضات الاجتماعية حقّ ولا بدّ من الحوار    ملف الأسبوع.. تَجَنُّبوا الأسماءِ المَكروهةِ معانِيها .. اتّقوا الله في ذرّياتكم    خطبة الجمعة .. العمل عبادة في الإسلام    انهزم امام نيجيريا 0 1 : بداية متعثّرة لمنتخب الأواسط في ال«كان»    نبض الصحافة العربية والدولية... الطائفة الدرزية .. حصان طروادة الإسرائيلي لاحتلال سوريا    الوضع الثقافي بالحوض المنجمي يستحق الدعم السخي    أولا وأخيرا: أم القضايا    المسرحيون يودعون انور الشعافي    إدارة ترامب تبحث ترحيل مهاجرين إلى ليبيا ورواندا    المهدية: سجن شاب سكب البنزين على والدته وهدّد بحرقها    الجلسة العامة للبنك الوطني الفلاحي: القروض الفلاحية تمثل 2ر7 بالمائة من القروض الممنوحة للحرفاء    الكورتيزول: ماذا تعرف عن هرمون التوتر؟    انتخاب رئيس المجلس الوطني لهيئة الصيادلة رئيسا للاتحاد الافريقي للصيادلة    لماذا يصاب الشباب وغير المدخنين بسرطان الرئة؟    وزير الإقتصاد وكاتب الدولة البافاري للإقتصاد يستعرضان فرص تعزيز التعاون الثنائي    مصدر قضائي يكشف تفاصيل الإطاحة بمرتكب جريمة قتل الشاب عمر بمدينة أكودة    عاجل/ تفاصيل جديدة ومعطيات صادمة في قضية منتحل صفة مدير برئاسة الحكومة..هكذا تحيل على ضحاياه..    الطب الشرعي يكشف جريمة مروعة في مصر    تونس العاصمة وقفة لعدد من أنصار مسار 25 جويلية رفضا لأي تدخل أجنبي في تونس    ارتفاع طفيف في رقم معاملات الخطوط التونسية خلال الثلاثي الأول من 2025    بالأرقام/ ودائع حرفاء بنك تونس والامارات تسجل ارتفاعا ب33 بالمائة سنة 2024..(تقرير)    إقبال جماهيري كبير على معرض تونس الدولي للكتاب تزامنا مع عيد الشغل    وزير الصحة: لا يوجد نقص في الأدوية... بل هناك اضطراب في التوزيع    عاجل/ مجزرة جديدة للكيان الصهيوني في غزة..وهذه حصيلة الشهداء..    الطبوبي: انطلاق المفاوضات الاجتماعية في القطاع الخاص يوم 7 ماي    نحو توقيع اتفاقية شراكة بين تونس والصين في مجال الترجمة    يوم دراسي حول 'الموسيقى الاندلسية ... ذاكرة ثقافية وابداع' بمنتزه بئر بلحسن بأريانة    البطولة العربية لالعاب القوى للاكابر والكبريات : التونسية اسلام الكثيري تحرز برونزية مسابقة رمي الرمح    بطولة افريقيا للمصارعة بالمغرب: النخبة التونسية تختتم مسابقات صنفي الاصاغر والصغريات بحصيلة 15 ميدالية منها 3 ذهبيات    توقيع عدد من الإصدارات الشعرية الجديدة ضمن فعاليات معرض تونس الدولي للكتاب    عاجل/ المُقاومة اليمنية تستهدف مواقع إسرائيلية وحاملة طائرات أمريكية..    تونس العاصمة مسيرة للمطالبة بإطلاق سراح أحمد صواب    صادم: أسعار الأضاحي تلتهب..رئيس الغرفة الوطنية للقصابين يفجرها ويكشف..    التوقعات الجوية لهذا اليوم..طقس حار..    قيس سعيد: ''عدد من باعثي الشركات الأهلية يتمّ تعطيلهم عمدا''    محمد علي كمون ل"الشروق" : الجمهور على مع العرض الحدث في أواخر شهر جوان    توجيه تهمة 'إساءة استخدام السلطة' لرئيس كوريا الجنوبية السابق    منذ سنة 1950: شهر مارس 2025 يصنف ثاني شهر الأشد حرارة    كأس أمم إفريقيا لكرة القدم داخل القاعة للسيدات: المنتخب المغربي يحرز لقب النسخة الاولى بفوزه على نظيره التنزاني 3-2    وفاة أكبر معمرة في العالم عن عمر يناهز 116 عاما    منظمة الأغذية والزراعة تدعو دول شمال غرب إفريقيا إلى تعزيز المراقبة على الجراد الصحراوي    معز زغدان: أضاحي العيد متوفرة والأسعار ستكون مقبولة    زراعة الحبوب صابة قياسية منتظرة والفلاحون ينتظرون مزيدا من التشجيعات    مباراة برشلونة ضد الإنتر فى دورى أبطال أوروبا : التوقيت و القناة الناقلة    في تونس: بلاطو العظم ب 4 دينارات...شنوّا الحكاية؟    اتحاد الفلاحة: أضاحي العيد متوفرة ولن يتم اللجوء إلى التوريد    رابطة ابطال اوروبا : باريس سان جيرمان يتغلب على أرسنال بهدف دون رد في ذهاب نصف النهائي    سؤال إلى أصدقائي في هذا الفضاء : هل تعتقدون أني أحرث في البحر؟مصطفى عطيّة    أذكار المساء وفضائلها    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



أنا والفيتُوري في العَواصِم الأرْبَع
نشر في حقائق أون لاين يوم 09 - 05 - 2015

حَدَثَ ذلكَ في مَطْلَعِ سَبْعِيناتِ القرْنِ المُنْصَرِم:
بِرَهْبَةٍ جاوَزَتْ قَدَما بعتبَة مدرج جامِعةِ دمشق لأوَّلِ مَرَّة كي أحْضَرَ أمْسية شِعْرِيّة للشاعِر السُّودانِيّ الكبير محمّد الفَيْتُورِي أحَد رُوَّادِ الشِّعْرِ العَرَبيّ المُعاصِر، الذي اصطُلِحَ مِن أجْلِ تمييزه عن الشكل العمودي للقصيدة العربية بِصَدْرِها وعَجْزِها ورَوِيِّها وبُحورها، بنعْتِهِ بالشِّعْرِ الحُرّ أو شِعْر التفعيلة.
دَخَلْتُ وَحِيداً بِخُطىً خَجُولَةٍ أوْصَلَتْنِي إلى مَكانٍ عالٍمِنا لمدرجِ لِأجْلِسَ في مَقْعَدٍمُرِيحٍ. بَعْدَ قُرابة رُبْعِ السّاعَةِ انطفأتْ أضواءُ المدرج ماعَدا ضَوْءٍ مائلٍ مِنَ السَّقْفِ غَمَرَ الشّاعِرَ بإهابِهِ الأبنوسيّ النّحيل، فقد كانَ واقِفاً بقامَتِهِ القصيرة خَلْفَ منْبَرٍ واطئٍ على المِنَصَّةِ البعيدةِ نسبيّاً عن مكانِ جُلوسيَ الباذِخِ. رَفَعَ ذِراعَيْهِ كأسْقُفٍ زنجيٍّ حاسِر الرأس في بُرْنُسِهٍ الأسوَد وانْطَلَقَ يُرَتِّل قصائدَهُ.
كُنْتُ أرى الوَجْهَ غامِقَ السُّمْرَةِ ذا العَينَينِ المُدَوَّرَتَيْن اللامِعَتَينِ وَحَركات شَفَتَيْهِ اللتين يَصْدر عنهما صَوْتٌ قَوِيٌّّ لكنّه أجَشٌّ دافئ. ما أذكُرُهُ الآن أنَّ تلكَ الساعة مَرَّتْ كأنّها دقائق أخَذَتْنِي خِلالَها كلماتُ الشاعِرِ المُرَتَّلَةُ إلى غاباتِ أفريقيا وَعذاباتِ الزّنوجِ بين أدغالِها المُتَوَحِّشة وأكواخِها الفقيرة وَطُرُقاتِها المُوحِشَة. كانت المرّة الثانية التي أحْضَرُ فيها أمسيةً شِعْرية (بَعْدَ أمسيةِ صديقيَ الشاعِر والمبدِع السوريّ الكبير ممدوح عدوان، كان ممدوح يقرأ بنَبْرَتِهِ الجبَليّة قصيدةً عن مُعاناةِ الفقراء بينماتنتَحِبُ في المقاعدِ الأمامِيّةِ طالِبَةٌ ثَرِيَّةٌ تأثُّراً!).
وكما دَخَلتُ وحيداً نَهَضْتُ مُغادِراً مَقْعَدِي المُريح وخَرَجْتُ مِن المدرجِ وحيداً بِخُطىً مُتَرَدِّدَةٍ كالمَسْحُورِ، وبينَ أضواءِ مدينةِ دِمَشْقَ هَبَطْتُ عابِراً أرصِفةَ منطقةِ الحجاز باتجاهِ مقهى "الهافانا" لِأجَدَنِي أدخُل مكتبةً على يَسارِيَ وأقتنِي مَجْمُوعَةً شِعْريَّةً لِمحمود درويش بعْدَ أن قرأتُ وأنا أتصَفَّحُها على عَجَلٍ هذا السطر :"مَطَرٌ ناعِمٌ في خَريفٍ بعيد.."
كانت المرّة الأولى التي أقتني فيها كتاباً مِن مكتبةٍ تجاريةوأدفَع ثمَنَه كذا ليرة سورية. عادةً كنت أقتني كتُبي مِن تلك الكتب التي تتكوَّم أو تُرَتَّبُ على عرباتٍ ويُنادي عليها باعَتُها كما يُنادي باعةُالفواكهِ والخُضار على بضاعَتِهم. وَفَوْرَ وُصُولِي غرفتِيَ الخاصّة أعْلى منزِل العائلة، وَضَعْتُ كِتابَ محمود درويش على "الكومدينو" الصغير قرْبَ سريريَ .خلعْتُ حِذائيَ واستَلْقَيْتُ على السّريرِ بِكامِلِ ثِيابِيَ، ونُمْتُ!.
-2-
بَعْدَ سَنَوَاتٍ قليلة حَدَثَ أنَّنِي: غَادَرْتُ دِمَشْقَ نِهائيَّاً إلى بيروتَ. كانت الحَرْب الأهلِيَّة لم تَبْدَأ بَعْد، وكان الشاعِر العِراقِي شريف الربيعي يَتَلَقّى مِنّي قصائديَ فَوْرَ كِتابَتِها ويَنْشِرُها في مجلّةِ "إلى الأمام" لِسان الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين - القيادة العامة التي كان ش.الربيعي سكرتيرَ تحريرها بينما كان الفلسطيني فضل شرورو رئيسَ تحريرِها والشاعر والرسام العِراقي مؤيَّد الراوي مُصَمِّمها أومُخْرِجَها الفَنِّي. كُنْتُ حِينَها قَد التَحَقْتُ بالجبهةِ الثَّوريّة لتحرير فلسطين مُقاتِلاً قاعِدِيَّاً. جاءنِي شريف الرّبيعي إلى مكتب الجبهة الثوريّة في منطقة "الفاكهاني" في نَوْبَةِ حِراستي. كنتُ أحمِلُ بندقيّةَ "كلاشنكوف" بأخمَصٍ حديديّ وأتَمَشّى أمام العِمارةالتي يقع مكتب "جبهتي" في الطابقِ الأوَّلِ منها، عندما اقترَب مني شريف الربيعي وسَلَّمَنِي مجموعَتَيْن شِعريّتين: "طائر الوحدات" للشاعر الفلسطيني أحمد دحبور الذي كان مقيماً حينها في سوريا، و"ابتَسِمِي حتى تمرّ الخيل" للشاعر السوداني محمّدالفيتوري الذي كان مُقيماً حينَها أيضا في لبنان، وقال شريف الربيعي لي بمزيجٍ غرائبي مِن اللهجتين العراقية واللبنانيّة :
- أريدَكْ عِينِي تئرا هَالكْتابَيْن وترجّعهم لإلي وعن كلّ كتاب تِكْتِبِلْنا مقال تاخُدْ راحْتَك فيه وآني أنشُرْهُم تنيناتهم بالمجلة مالِتْنا (إلى الأمام).. زين؟.
فأومأتُ مُوافِقاً. وغادَرَني حاثّاً الخُطى بِساقَيْهِ المُعْوَجَّتَيْن وفي الوَقْتِ نَفْسِهِ يلتفِتُ إليَّ برأسِهِ غامِزاً بِعَيْنَيهِ مِن خَلْفِ نَظّارتَيْن طبِّيَّتَيْن:
- خُذْ راحتكْ ها؟..
كُنْتُ حِينَها في السابعةِ عَشَرَة أو الثامِنَةِ عَشَرَة مِن عُمري، وكانت مُدَوَّنَةُ الشاعِر السوريّ أدونيس (علي أحمد سعيد) نموذَجِيَ الأعلى في الكتابةِ الشِّعريّة العربيّة آنذاك، وَبِهاكُنْتُ أقارِنُ كُلَّما أقرأهُ مِن شِعْرِ مُجايِلِيه أو شِعْر الجيلَيْن التاليين لِجيلِهِ (الستينات والسبعينات..)، وأرصدُ أصداءَ كِتابةِ أدونيس فيما أقرأهُ رَصْداً لا يَخْلو مِن تَجَنٍّ سَبَبُه انْبِهارٌ بِتَجْرِبَةِ أدونيس انعَكَس -لحسْنِ الحظّ- في كتاباتيَ "النّقديّة" بينما لم يكُن مَلْحُوظاً في كِتاباتيَ الشِّعريّة إن لم نقُل كانَ غائبا عنها. وَنُشِرَتْ مُلاحَظاتِي عَن مَجْمُوعَتَي دحبور والفيتوري على صفحاتِ مجلة "إلى الأمام" التي كانت مكاتِبُها تقَعُ في عِمارةٍ عاليةٍ بكورنيش المزرعة والعِمارة ذاتها كانت تضمّ مكاتبَ منظمة التحرير الفلسطينيّة، وقبالة العِمارة العالية هذه،على الجهة المُقابِلَة مِن شارع كورنيش المزرعة، كانت تقع مكاتبُ مجلة "الهدف" التي أسّسها الشهيد المبدِع غسّان كنفاني لتكونَ لسانَ الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين التي كان يتزعّمها الدكتور جورج حبَش،في عِمارة واطئة.
أذكُرُ أنَّ صديقيَ أحمد دحبور، الشاعر الفلسطينيّ الأهمّ بَعْدَ محمود درويش، قال لي مُعاتِباً بَعْدَ سنَتَين تقريباً:
- لماذا فَعَلْتَ ذلكَ بي ياهادي؟! أن تقول إن في "طائر الوحدات" أصداءً لكتابةِ ممدوح عدوان الشعريّة، فهذا أقبلُهُ. ممدوح شاعِر كبير وصديق عزيز وقد أكونُ مُتأثِّراً بتجربتِهِ، لكنْ أنْ تقُولَ إنَّ في المجموعةِ أيضاً أصْداءً لِكتابةِ محمود درويش الشعريّة في مرحلةِ تأثُّرِهِ بِشِعْرِ أدونيس، فإنّ هذا أزعَجَنِي. على الأقلّ يارَجُل كُنْتُ أنا سأقْبَل لو قُلتَ مَثَلاً إنني تأثَّرْتُ مُباشَرَةً بِشِعْرِ أدونيس وليسَ عبْرَ أصْداء كِتابةِ أدونيس في شِعْرِ درويش".
أمّا محمَّد الفيْتُوري الذي لَم أكُنْ قد التَقَيْتُهُ بَعْد، والذي أشَرْتُ إلى أنّه في مجموعَتِهِ "ابتَسِمِي حتى تمرّ الخيل" كان أسير مَهاراتِ كِتابَةِ أدونيس الشعريّة في تجليّات أدونيس الصوفيّة. فقد أضْرَمَتْ مُلاحَظاتيَ غَضَبَهُ عَلَيَّ، فكيفَ أتّهمُه أيْضا بأنّه يصطنع مناخاتٍ صوفيّة وهُو ابن شيخ الطريقة الصوفيّة الشاذليّة العروسيّة الأسمَريّة،الذي ولدَ في 24 نوفمبر/تشرين الثاني 1936 ونشأ في الإسكندريّة وحفظَ القرآنَ الكريمَ في مَراحِلِ تعليمِهِ الأولى؟. وكما نُمِيَ إليَّ حينها، أخَذَ الفيتوري يكيلُ لِيَ الشتائمَ أمامَ جُلَسائهِ صائحاً "لم يَعُدْ ينْقصني غير هذا الغُلام السّوريّ الذي يتّهمني بالتَّعَرُّفِ على الصّوفيّة ومَهاراتِ تجلياتِها الشعريّة مِن شِعْر أدونيس" ثمّ يُعَرِّجُ بشتائمَهُ على شريفَ الربيعي الذي نشَرَ ذلكَ المقال.
-3-
بَعْدَ أن غادَرْنا بيروتَ بسنَواتٍ وتحديداً سنة 1987، أقَمْتُ سَنَةً كامِلَةًفي حيّ "أكدال" مِن مدينة "الرِّباط" عاصِمَة المملكة المغربيّة، وعلمْتُ أنّ الشاعِرَ محمّد الفيتوري يُقيمُ في عِمارَةٍ قريبةٍ مِن العِمارةِ التي أسكنُ في واحِدَةٍ مِن شقَقِها .
قُلْتُ لِنَفْسِيَ: "لَو التَقَيْنا صدْفَةً، وعرَفَ مَن أكون. ما الذي قد يحْدث؟".
وَبَعْدَ أشْهُرٍ دُعِيْتُ برفقةِ زوجتي -آنذاك-إلى حَفْلِ عشاءٍ باذِخٍ بمناسبةِ العيد الوطني لِجمهوريّةِ العِراق، وكانت المُفاجأةُ أننا جلسنا إلى مائدةٍ سُرعانَ ما شاركنا الجلوسَ إليها الصحفي السوداني "أبوبكر الصدّيق" ومُواطِنُهُ الشاعر محمّد الفيتوري ،عَيْنهُ إيّاهُ، فَدَارَيْتُ ارتِباكيَ ورَحَّبْتُ بِهُما. وعلى مَدى ساعَتَيْنِ تقريباً، كُنّا نُصْغِي إلى الطّرائفِ التي يُتْحِفُنا بِها الشاعِرُ الفيتُوري الذي كانَ في مزاجٍ رائقٍ.
وكُنْتُ أحاوِلُ أن أغَطِّي بِقَهْقَهاتيَ قلَقاً سبَبُهُ خشْيَتِيَ مِن أن تَحين اللحظةُ التي يَتَفَطَّنُ فِيها الشاعِرُ المَرِحُ إلى أنني أنا هُوَ ذلك "الغُلام السّوريّ" الذي اسْتَفَزَّهُ حبْريَّاً وأَثار غَضَبَهُ قَبْلَ سَنواتٍ في بيروت. لكنّ حَفْلَ العَشاءِ انْتَهى على خَيٍْرٍ، فَوَدَّعَ واحِدُنا الآخَرَ وعُدْتُ مع زوجتي إلى شقّتِنا، مُتَنِفِّساً الصَّعَدَاء!.
-4-
وفي شَهْرِ أيّار مِن سَنَةِ خَمْسٍ وَتِسْعِينٍ وتسعمائةٍ وألْفٍ وَجَدْتُنِي مُقِيماً في فُنْدُقِ الرَّشيدِ بالعاصِمَةِ العِراقِيَّةِ بَغْداد. وَلِأَمْرٍ لَم أعُدْ أذكُره طالَتْ إقامَتِي خَمْسَةَ أسابيع. وكانَ يُقيمُ في الفترَةِ ذاتِها في الفندُقِ ذاتِهِ الشاعِر السوريّ الدكتور أحمد سليمان الأحْمَد وزَوْجَتُهُ البلغارِيّة والشاعر السّودانِيّ محمّد الفيتوري. وَمُنْذُ اليَوم الأوَّل صافَحْتُهُ حِينَ نادانِي الدكتور الأحْمَد كي أجلسَ إليهم الثلاثة في أحَدِ مقاهِي الفُنْدُق. وَسَرَّنِي أنَّ اسْمِيَ لم يَكُن غريباً على الفَيْتُورِي، لكنني فجأةً تَذَكَّرْتُ إغْضابِيَ لَهُ قَبْلَ أكْثَرَ مِن عَقْدَيْن!، على الرغم مِن أنّ الحديثَ في تلكَ الجلسة الأولى أفْضى إلى أنّنا نَحْن الشُّعراء الثلاثة أبناءُ رِجال دِين!.
وَبَعْدَ أسبُوعٍ كُنّا وَحْدَنا جالِسَيْنِ إلى طاوَلَةٍ في المقهى، وكَيْ "أبُقَّ البَحْصَةَ" التي ما فَتِئتْ تُقْلِقُني، سألْتُ الفَيْتُوري:
-أستاذ محمّد، هَلْ تَذْكُر ذلك الشاعر السوريّ الشابّ الذي أغْضَبَكَ ما كَتَبَهُ بِشأنِ مجموعتكَ "ابتَسِمِي حتّى يمرّ الخَيْل" في مجلة "إلى الأمام"؟.
صَفَنَ قليلاً مُنَقِّلاً عَيْنيهِ اللتين عَبَرَتْهُما في تلك اللحظة غُيُومُ الحَيْرَة، ثُمَّ قالَ مُبْتَسِماً:
- آآآ.نَعَم. كانت مكيدَةً مِن مَكائدِ ذلكَ الشيطان شريف الرّبيعي. هَل تَعْرف ذلكَ الشاعر الصّغير الذي تَجَرَّأَ عَلَيَّ حِينَها؟، ماذا حَلَّ بِهِ؟ وماذا كانَ اسمُه؟؟.
أحْسَسْتُ أنَّ الفَيتُورِي لم يَبْرأ بَعْدُ مِن ذلكَ "الجُّرْح" الذي نَكَأْتُهُ، لكنَّنِي تَمَاسَكْتُ واسْتَجْمَعْتُ ما يَقْتَضيهِ الحالُ مِن "شَجاعَةٍ"، وقُلْتُ بِأهْدَأ نَبْرَة ممكنة:
-إنَّهُ جليسُكَ الآن، وكانَ اسْمُهُ "عبد الهادي الوزة".
قالَ بِحَيْرَةٍ ، مُقَطِّبَ الجبينِ جاحِظَ العَيْنَيْن:
- لم أفْهَم!، ولكن نعم هكذا كانَ اسْمُه...
- أنا هو، كُنْتُ حِينَها مازلْتُ أكتُبُ بذلكَ الاسم، اسْمِيَ الأوَّل.
نَهَضَ عَن مَقْعَدِهِ، فَنَهَضْتُ بِدَورِيَ عَن مَقْعَدِيَ. خلْتُ أنَّهُ سَيُغادِرُ غاضِباً مَرَّةً أُخْرى. لكنَّهُ اقْتَرَبَ مِنِّي دَامِعَ العَيْنَيْنِ، وَعانَقَنِي هاتِفاً:
- ياااه يا صديقي!، ما أصْغَر هذا العالم، كم كانت أيّاماً جميلة!
وَدُونِ وَعْيٍ وَجَدْتُنِي أعانِقُهُ وقطَراتُ الدُّمعِ تُبَلِّلُ وَجْنَتَيَّ.
في صباحِ اليومِ التالي، وقبلَ أن يأتينا النُّدُلُ بوَجْبَةِ الإفْطار قالَ لِي مُبْتَسِماً بِمَرَح:
- مُدَّ ذِراعَيْكَ بِكَفَّيْنِ مَفْتُوحَينِ وكأنَّكَ تَبْتَهِلُ إلى الله كي يَغْفرَ لكَ إثْماً قَدِيماً
وَما أن فَعَلْتُ حتى وضَعَ على كلِّ راحةِ كَفٍّ مِن كَفَّيَّ كتاباً، الكتاب الأول نسْخَةٌ مِن مجموعتِهِ الشعريّة "شَرْقُ الشمسِ غَرْب القَمَر" والكتاب الثاني نسخة مِن مجموعتِهِ "يأتي العاشِقُونَ إليكِ".
وصرْنا يَوميّاً نَقْضِي الساعاتِ الطِّوال بينَ مَطاعِمِ فندُق الرشيد نتناوَلُ مَعاً فطورَ الصباح والغدَاء والعَشاء، ونَضْجَرُ في مَقاهِيهِ.
وفي أحَدِ الصَّباحاتِ، كُنّا نَحْنُ الأربَعَة جالِسِينَ صامِتِينَ، إلى أن قَطَعَتْ زَوْجُ الأحْمَد البلغاريّة صَمْتَنا بِسُؤالٍ وَجَّهَتْهُ إلى الفَيْتُوري:
- أستاذ فَيْتُوري، هَلْ قَرَأْتَ قصيدة "السِّياج"؟
- لا. لِمَن هذه القصيدة؟
- ولا تعرف لِمَن؟ "السياج" أهمّ قصيدة في الشِّعْر العربيّ كُلّه؟ قصيدة الدكتور
وأشارَتْ بعيْنَيْها ويَدَيْها وَ... إلى بَعْلِها الجالِس حِذْوَها يُنَقِّل عَنَيهِ بين زَوْجِه البلغاريّة والشاعر السودانيّ الكبير، فقال الفيتوري بشيء مِن الإرتِباك:
- لا، لم أقرأها لِلأسَف...
فَرَدَّتْ العَجُوز البلغاريّة بِنَبْرَةٍ نَزِقَةٍ غَيْر مُتَوَقَّعَة:
- لا لا غيْر مَعْقُول، كيف هذا، يَقُولُون إنّكَ شاعر. كيفَ تكون شاعِراً ولم تَقْرأ "السِّياج"؟!.
أجابَ الفيتوري بأدَبٍ بَدا لِي مُبالَغَاً فِيه:
- هُم يَقولونَ ياسيّدتي. على كُلٍّ حالٍ هذا تقصيرٌ مِنّي أرجو أن تغفريه لي وأعدُكِ أن أتَفاداه
فَتَبَرَّمَتْ العَجُوزُ وأرْدَفَتْ
- لا، هذا غير مَعْقول.
فَصَمَتَ الفيتوري. ووَجَدْتُ نَفْسِيَ أنْهَض مُنْهِياً هذه الجلسة التي تَوَتَّرَتْ، فَنَهَضَ الفيتوري مَعِي، ثُمَّ نَهَضَ الدكتور الأحمد ودَرْدَبِيسُهُ.
فأخَذْتُ الدكتورَ جانِباً وَهَمَسْتُ في أذُنِهِ:
- هَل أرْضاكَ ما فَعَلَتْهُ عَجُوزُك؟
فَرَفَعَ الدكتُور إليَّ عينين مُنكَسِرَتَيْن وقال بصوتٍ خافِتٍ بالكادِ سَمعْتُه:
- لا والله لم يُرْضِنِي، ولكن ماذا أفْعَل؟.
- كانَ عليكَ أنْ تَردَعَها وتَعْتَذر للفيتوري، لكنكَ لازَمْتَ الصَّمْتَ بإذْعانٍ مُخْجِل.
فَلَمْ يَنْبَسْ بِبِنْتِ شَفَة. تَرَكْتُهُ والتَحَقْتُ بالفيتوري. وَغادَرْنا مَعاً إلى صالَةِ الفندُقِ نَتَمَشّى وَنَتَحَدَّث في شأنٍ آخَر.
بَعْدَ هذه الحادِثة، كُنّا نَتَحاشى أنا والفَيْتوري الجُّلُوسَ إلى الدكتور الأحمد وزوجته، ونكتفي بإلْقاءِ التحيّاتِ وابتِساماتِ المُجامَلَة إليهما.
وَقَبْلَ أن أُغادِر الفندُقَ بأيّامٍ، كانَ الفيتوري ينتظرُني لنَتَناوَلَ معاً فُطُورَ الصَّباح، قالَ لِي:
- بَعْدَ قليلٍ سأغادِرُ إلى الأردنّ حَيْثُ أقْضِي أيّاماً، كانَ لِقاؤنا مِن المحطّات السعيدة والمُهمّة عندي في هذه الزيارة.
كانَ الحَظْرُ الجَّوِيّ الشامِل والجّائر على العِراق ، يَفرضُ على زائِرِيهِ الوُصُولَ إلى بَغْدادَ بَرَّاً مِن عَمّان ثمّ يعود إلى عمّان لينطلِق منها إلى حيث يشاء، ولذلكَ كانَ عَلَيَّ بِدَوْرِي أن أُغادِرَ فُنْدُقَ الرّشيد وبَغْداد إلى عَمّان كَي أسْتَقِلَّ طائرةَ الخُطُوط الأردنيّة(عالية) إلى تُونُس.
بَعْدَ أنْ جَلَسْتُ في المَقْعَدِ المُخَصَّصِ لي على مَتْنِ الطائرة الأردنيّة، لَمَحْتُ عَن بُعْدٍ عَيْنَيْنِ تَبْسُمان لِي. كانَ واقِفاً ينظُرُ إليَّ. نَهَضْتُ مِنَ المُفاجأةِ وَغادَرْتُ مَقْعَدِيَ مُسْرِعاً إليه، وهَتَفْتُ باشَّاً في وَجْهِهِ:
- صُدْفَة رائعة يا أستاذ...
وَبَعْدَ أن تَصافَحْنا، نَظَرَ إلى رَجُلٍ جالِسٍ إلى جِوارِهِ، سَمّاه لِي ونَسيتُ اسْمَهُ الآنَ لِلأسَف:
- هذا صديقي، مسؤول كبير في اللجانِ الثّوريّة، أعْطِهِ رَقْمَ هاتفِك. سيتَّصِل بِكَ، وسنلتقي نحن الثلاثة قريباً.
مَدَدْتُ يَدِي مُصافِحاً صَدِيقَه. ولا أدري لِماذا أعْطَيْتُ ذلكَ المسؤول الليبي رَقْماً خاطئاً. بَعْدَ ذلكَ عُدْتُ إلى مَقْعَدِي على مَتْنِ الطائرة التي واصَلَتْ رحْلَتَها إلى "الدار البيضاء" وعلى مَتْنِها الشاعر الفيتوري بَعْدَ أن هَبَطْتُ مِنها في مطار تونس قرطاج الدولي. لقد كان اللقاء الأخير.
***
مساء الجمعة 2015/4/24 توفي الشاعر الكبير محمد الفيتوري في أحَدِ مستشفياتِ الرّباط التي وُوري ثَراها كما أوْصى. وَتناقلَتْ النَّبأَ الحزينَ وسائلُ الإعلام العربيّة والأجنبيّة.
في اليوم المُوالِي هاتَفَنِي صَديقيَ الكاتِبُ الشابّ "أحمد نظيف" ،قائلاً:
- أريدُ أن أقرأَ شَهادَتَكَ على صديقِكَ الشاعِر محمّد الفيتوري.
قلتُ له:
- سيكون لكَ ذلكَ قريباً.
صَباحَ اليوم، قَبْلَ أن أتَوَجَّهَ إلى المقهى لِأُدَوِّنَ المُلاحَظات أعْلاه، غادَرْتُ سَريريَ مُباشَرَةً إلى غُرْفَةِ المَكتَبَةِ، وَتَناوَلْتُ مِن الرفِّ الأقرَب المجموعتَيْن الشِّعْرِيَّتَيْن اللتين أهْداهُما إلَيَّ في بغداد، قَرَأْتُ ما كَتَبَهُ على الصّفحَةِ الأولى مِن مجموعَةِ "يأتي العاشِقُون إليكِ" التي تضمَّنَت أجْمَل القصائد المُعاصِرَة التي كُتِبَتْ لِبَغْدادَ بِوَجْدٍ صُوفِيٍّ، قرأتُ ما خَطّه الفيتوري بِخَطٍّ فَوضَوِيٍّ:
"أخي الأستاذ الهادي دانيال، أحلم بأن نلتقي معاً.. في ظلِّ ظُروفٍ أجمل.. وإن تَكُن جَمَعَتْنا بغدادُ المُناضِلَة.. وتلك واحِدَةٌ مِن أحلامِنا. مع محبتي العميقة. محمد الفيتوري 26-5-1995 بغداد".
ثمّ قرأتُ ما كتَبَه على الصفحة الأولى مِن "شَرْق الشمس غَرْب القمَر" بِذاتِ الخطّ الفوضَوي:
"إليكَ أيُّها المُناضل المُضيء.. صديقي الأديب هادي دانيال، كم هِي قاسية غُربتك.. وكم هي صعبة المرحلة.. ولكنّ الشرفاء يظلون أبدا وأنتَ أحدهم.. أنت في المقدّمة.. ولك أعمق مشاعري. محمد الفيتوري 26-5-1995 بغداد".
وَشَرَعْتُ في قِراءةِ المجموعتَيْن تَقَرُّباً مِن رُوحِ الشاعِر المجيد، مُبْتَدِئاً بقصيدةِ الرياح التي كتبَها في الرباط سنة 1990وهي أولى قصائد مجموعة"يأتي العاشقون إليكِ":
"رُبّما لم تَزَلْ تلْكُم الأرْض
تسكنُ صُورَتَها الفَلَكِيَّةَ
لكنَّ شيئاً على سَطْحِها قَد تَكَسَّرْ
رُبَّما ظَلَّ بستانُ صَيْفِكَ
أبْيَضَ في الصّيْفِ
لكنَّ بَرْقَ العَواصِفِ
خَلْفَ سياجِكَ أحْمَرْ
رُبَّما كانَ طَقْسُكَ ، ناراً مَجُوسِيَّةً
في شِتاءِ النُّعاسِ الذي لايُفَسَّرْ
رُبَّما كُنْتَ أصْغَرَ
مِمّا رأتْ فِيكَ تلكَ النّبوءاتِ
أو كُنْتَ أكْبَرْ
غَيْرَ أنَّكَ تَجْهَلُ أنَّكَ شاهِدُ عَصْرٍ عَتيقْ
وأنَّ نَيازِكَ مِن بَشَرٍ تَتَحَدّى السَّماءَ
وأنَّ مَدارَ النُّجُومِ تَغَيَّرْ!!".
إلى أن فرغْتُ مِن قراءةِ آخر مَقطَعٍ مِن آخِر قصيدَةٍ في مجموعةِ "شَرْق الشمْس غَرْب القَمَر"، قصيدة "مَلك وكِتابَة" التي كتبَها في بيروت وتونس سنة 1982، ويختتمُها بقَوْلِه:
"لَسْتُ أعْرِفُنِي
لم تَقُلْ لِيَ مَن أنتَ؟
مَن أنا ياسيّدي؟
مَن هُوَ الآخَرُ المُتَحَجِّرُ في شَفَتي؟
مَلك أو كِتابه
شَفَقٌ أو عَقِيق!
إنَّ مَن خانَنا لم يَزَلْ بَيْنَنا يارَفِيقْ
والإدانَةُ ماثِلَةٌ في التَّقاطُعِ
فَلْنَقْتَرِعْ قَبْلَ بَدْءِ الطّريقْ!".
*تونس - المنزه التاسع 2015/5/3


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.