بالعودة إلى العملية الارهابية الاخيرة التي جدّت في أحد النزل بمنطقة القنطاوي السياحية في سوسة و التي راح ضحيتها 38 شخصا من الابرياء الذين جاؤوا إلى تونس بحثا عن السلام والهدوء و الأمان فرُحلّوا إلى بلدانهم مسجين في صناديق الموتى،نعتقد أنّه قد آن الأوان للمصارحة والمكاشفة بحقيقة ما وصلت إليه الأوضاع في تونس وصلب مؤسسات الدولة بعيدا عن ردود الفعل الانفعالية و منطق تصفية الحسابات وتسجيل النقاط السياسية خدمة لمصالح ضيّقة. عديدة هي النقاط التي وجب طرحها أمام الرأي العام دون مواربة وبلا أحكام مسبقة من أجل تشخيص الحال بموضوعية و الوصول لمكامن الدّاء و مواطن القصور سواء كان سياسيا أو مؤسساتيا أو فكريّا. فمن الملاحظ أنّ تفاعل معظم تشكيلات الطبقة السياسية سواء من الأطراف الحاكمة أو الجهات المعارضة فضلا عن قوى المجتمع المدني غلب عليه الطابع الانفعالي و الارتجالي الذي يبدو أنّ الغرض منه التهرّب من تحمّل المسؤوليات و الاقرار بالخلل الذي اعترى التعاطي مع ظاهرة مركبّة و خطيرة ألا وهي آفة الارهاب الذي،وللاسف، وجد موطئ قدم له في التربة التونسية نتيجة لعوامل جمّة و تراكمات متشعبة تحتاج التؤدة والعقلانية و الصرامة في الآن ذاته بغية معالجتها و اقتلاعها قبل أن تتمدّد أكثر فأكثر،لأنّه حينها قد يكون الخراب و الفوضى مصير الجميع دون استثناء،دولة ومجتمعا. القرارات التي أعلنت عنها حكومة الحبيب الصيد بعيد الحادثة الارهابية الجبانة،تثير بدورها تساؤلات حارقة حول أسباب تأخرها و مدى فاعليتها إذا ما تمّ تطبيقها خارج إطار استراتيجية كاملة لمواجهة ظاهرة كان الظنّ أنّ الدولة قد شرعت منذ وقت مضى في شنّ حرب شعواء عليها لا هوادة فيها. جدّت منذ شهر مارس الفارط العملية الارهابية الغادرة في متحف باردو والتي كان من المفترض بعدها أن تأخذ الدولة احتياطاتها و تغيّر من خططها في مواجهة الارهاب الذي تكون عادة الحرب معه استباقية و شاملة تنطلق من التفكير في وقوع اللامتوقع. لكن بقيت دار لقمان على حالها واستغّل الارهابيون احدى الثلمات الظاهرة للعيان في علاقة بتأمين منشآت و مناطق و فضاءات يفترض أن تكون مؤمنّة بالشكل الكافي تحسبا لأيّ مخطّط قد يستهدفها. قبلها وفي شهر رمضان الفارط، أطّل رئيس حكومة التكنوقراط مهدي جمعة معلنا عن قرارات و اجراءات استثنائية غداة الجريمة الارهابية التي استهدفت جنودا بواسل من المؤسسة العسكرية،غير أنّ الحصيلة ظلّت منقوصة إنّ لم نقل سلبية ،إذ واصل الارهاب تمدّده مغيّرا من تكتيكاته و عملياته التي أضحت نوعيّة أكثر. ما حدث في نزل امبريال مرحبا بسوسة لا يمكن في اعتقادنا أن يطمس حقائق لا يشقّ لها غبار تتعلّق بمسؤولية الدولة و السلطة من عهد الترويكا إلى زمن الرباعي الحاكم في تواصل حالة الارتباك و اللاوضوح إزاء معضلة الارهاب الذي يبدو أنّنا نعيش أوهام حرب ضدّه.هذا طبعا دون أن نستثني مسؤولية بقية مكونات المشهد الوطني من أحزاب و منظمات وطنية والتي من المهم القول بأنّه لا غنى عن دورها و مساعدتها في حال ما أردنا فعلا محاربة الارهاب من أجل القضاء عليه. اقتراح البعض تكوين تشكيلات موازية لأجهزة الدولة في شكل لجان شعبية في إطار الحرب على الارهاب هو أكبر مؤشر على مدى قصور الطبقة السياسية الحالية ولاسيما الحاكمة في إيجاد الحلول الكفيلة لمجابهة ظاهرة معقّدة تحتاج مقاربة شاملة و ناجعة لا حلولا سياسوية جرّبت ففشلت و هي قد تؤدي إلى نتائج عكسية أكثر ضررا.أليس مثل هذه المقترحات مظهرا من مظاهر الاستخفاف بهيبة الدولة و مدخلا قد يؤدي بلا وعي إلى مزيد ضربها و تقويض اركانها؟ لفيف آخر حمّل للمنظمة الشغيلة و الأطراف المنافحة عن الحقوق الاجتماعية و المعنوية للعامل و للمواطن بصفة عامّة مسؤولية الخلل الأمني الذي أتاح لشاب يافع تحوّل إلى ارهابي دموي،تنفيذ جريمة شنيعة في حقّ الإنسان و الإنسانية. لكن في المقابل تغافلوا عن البيئة الاجتماعية والظروف القاسية التي ولد وعاش فيها هذا الطالب أصيل جهة قعفور المهمّشة كغيرها من مناطق الجمهورية و الذي أنتجته جامعة و مدرسة باتتا تحشوان الأدمغة بأشياء لا علاقة لها بالقيم التي صنعت ربيع البشرية. ألم يكن سيف الدين الرزقي محبّا للحياة و الرقص والدراسة؟ هل احتضنت الدولة بدور شبابها و ثقافتها موهبته التي اختزلها البعض في الرقص و صقلتها و طوّرتها وجعلت منه بطلا وطنيا إن لم نقل عالميا ؟ هل وجدت منافذ في سوق الشغل فور تحصّله على شهادة الاجازة خلال السنة الماضية التي على الارجح أنّها كانت نقطة تحوّل في مسار حياته؟ غير بعيد عن نفس بوتقة العقل القاصر،أتحفنا البعض من ذوي الذاكرة المثقوبة التي تحنّ إلى عهود الاستبداد و القهر و سلب معاني المواطنة و الانسانية ليتغنوا ب"إنجازات أمنية" لرئيس كان لا يرى فيهم سوى عبيد يقادون كالقطيع،فما كان منهم إلاّ رجم مسار تحرّري و انتفاضة شعبية أعادت لهم الاعتبار كمواطنين بعد ان كانوا رعايا. فريق آحر من مكونات المشهد السياسي، يرى في تأصيل الناشئة في الهوية العربية الإسلامية حلاّ سحريا لاستئصال الارهاب و اجتثاثه من منابته و الحال أنّهم نسوا أو تناسوا أنّ هذه الظاهرة هي وليدة ذات المنظومة الفكرية و الدينية المتكلّسة و المنغلقة و التي ترى فيها نفسها مصدر خلاص للبشرية جمعاء إذ تعتبر أنّ أبناءها هم من خير أمّة أخرجت للناس،رامية بذلك كلّ قواعد النسبية و الكونية عرض الحائط . نعم، هذا هو حال تونس اليوم في ظلّ حرب وهمية ضدّ الارهاب و دولة رخوة يبدو أنّها قد أضحت عاجزة حتّى عن مراقبة جمعيات مشبوهة و استرداد مساجد وقعت في براثن جماعات تكفيرية متطرفة لطالما مثّلت مصدرا من مصادر تغذية الارهاب و تفريخ الارهابيين الحالمين بالحور العين و بالخوارق و الأفكار الطوباوية التي تعكس عمق التخلّف و الجهل الذي سقطت في أتونه حضارة و أمّة كانت بالأمس البعيد منارة للعلم و المعرفة و التعايش الانساني.