هل ثمّة ما يدعو الآن إلى مهادنة هذا العقل الصنمي؟ ألا يعدّ هذا المثقف السلطوي نتاجا لذلك العقل؟ أليس دور الفنّان أن يكون دائما ذلك الضوء الذي ينير عتمة الكوكب الإنساني؟ لا بيروقراطيا يكرّس تلك الخردة الفنّية في قوالب الإيديولوجيات؟ وهل ثمّة أيضا ما يجعلنا نصمت كي تظل تلك القمامة البشرية متمسكة على الدوام بما هو واقعي؟ ألم ينته الربّ المسيحي مع نيتشه ومن بعده أعلنت الفوكوية عن أفول الإنسان؟ كيف برغم ذلك ما زال البعض منّا من الفنانين يحاكم الإبداع باسم فلسفة بالية قديمة تم تقويضها منذ زمن؟ لماذا ينتهي المبدع وظيفيا إلى حدّ يجعله يتباهى متطاوسا بقبحه وجشعه؟ ثمّة فنانون صاروا طغاة، أبدلوا ثوبهم الأفعواني مئات المرات، وهم إلى حدّ الآن يتنافسون أمام بورصات هذه الوزارة أو تلك بحثا عن حصتهم من نعش الثورة الأخيرة، بل وتحولوا إلى ما يشبه الكهنة، لا شيء يشبعهم على الإطلاق، فهم الإداريون والمبدعون والنقابيون والسياسيون والديمقراطيون والمنشفيك والبلشفيك والليبراليون والإسلاميون أيضا إن اقتضت منهم لعبة الشطرنج ذلك. هم أيضا فلاسفة جدد، يحملون صولجان الحداثة قناعا يخفي تلك الأصوليات في كاتدرائيات حفاري القبور، وهم أيضا أولئك الآباء الذين منهم انحدرت "عقدة أوديب". ولكنّ هل موتهم الآن، وقد صار ضروريا، سيؤدي إلى ندم الأبناء الذين كانوا أوّل الأمر قربانا لثوراتنا المغدورة؟ وإن كان أمر الندم من وجوب الحتمية الفرويدية، أفلا يجوز التساؤل عن المهمّة الأبوية الموكولة لأولئك الآباء، باعتبارهم القدوة والحماية لهؤلاء الأبناء: لقد عشقوا دمهم فتخضّبوا به لمحو رذيلتهم لا غير. قتل الأب، تبدو الآن مجرّد مقولة مطلقة السذاجة، ومتداعية بإطلاق، فالابن ولد من أحشاء تنزّ بالدم، حين علت محرقة طائر الفينيق وما انتكست أوّل 17 ديسمبر، والأب كان محقّقا ورجل أمن يغتصب الأمّ/الوطن باسم احتكاره للمشهد الثقافي برمّته. هنا تنضج الحقيقة، ثورية لا يعلى عليها، وتسقط سيكولوجيا فرويد، فتكون المحصلة الضرورية أشبه بنداء إرهابي لاغتصاب ذلك الأب، والتنكيل به، وتقويض مزاعمه وزبانيته وحراسه وآلهته، دون ندم الابن أو شعوره بالذنب، ذلك أنه الجينة الأخيرة والمتبقية من أفول الإله ونهاية الإنسان، الجينة التي من شأنها دحض هذا الاصطبل الفنّي الذي نراه، في سبيل أخونة ذلك المثقف السلطوي/العاهر، وإضاءة آخر حصن أنطولوجي أعماه الغبار المؤسساتي، وميكيافيلية الأب. ثمّة أبناء، ولدوا من غير ذلك المستقيم الشهواني باسم الثقافة الأوديبية، وولدوا من خارج الرحم/ الإرث الأرسطي، وولدوا أيضا من مساحة لم تشوّهها مقولات فلاسفة الانحطاط منذ الكأس السقراطية وميتافيزيقا كاره الشعراء أفلاطون. إنّهم صدى ديونيزوس/ دموزي، يقفون الآن أيضا ليطردوا بروميثيوس من مخيّلة ما تبقى كامنا داخل سلّة الوهم البشري، وإنّهم أيضا يخلقون نارهم من العناصر الثلاثة للكون، كي يكتملوا فتكتب القصيدة أبعد من بارمينيدس. توضيح ما كتب أعلاه، يولد من تجربة مسرحية في غاية البساطة، نصّ لحاتم التليلي وإخراج ماهر المحظي، يحملها وعي بضرورة الهدم والتجاوز، لم تكن حدثا إبداعيا ومغايرا ورجّة تقوّض القديم من جسر الجماليات قطّ، حتّى لا ندّعي ما ليس لنا فنصاب بوهم أو بالأحرى وهن نرجسي، ولكنها كشفت عن عورة الأب، وسيطرته، ومخافته من ذلك الابن: هو في الأصل لم يكن ابنه، ولكن شاءت المغالطة التي رسمها إعلاميا كي يقول بأننا أبناؤه، وكأنّها نزعة ارتكاسية لإله أعرج، أحدب، أصفر اللون شاحب الدم مثل دجّال، بات خائفا من تمرد الأرض على نجومه المترهلة، فما كان منه إلا تدخله السافر باسم موقعه الإداري كمدير لمركز الفنون الدرامية والركحية، لمنع احد عروضها أو تركيع فريقها لمنحه عرضا في دولته الثقافية حتى يكسب تعاطف الآلهة الأقوى منه ورضاها عليه، علّها توسّمه من جديد. نحن الأبناء، أو "الفروخة" كما شاء ذلك المقيم العام في الدولة الثقافية المحتلّة أن يسمينا، لم يعد لدينا إلا أن نكتب نصوصا إرهابية، يعجز عن فهمها، نظرا لقصوره المعرفي، منذ أن ترك سؤال الإبداع وانتقل إلى مهمّة حارس البلاطات، منذ أن كان في زمن الترويكا مغازلا ومدّاحا لذلك المدعو "العجمي الوريمي، حتى حدود اليوم وهو يدق باب السلطان خاضعا أمام سيّده "محسن مرزوق"، ومنذ أن كان نقابيا يبحث في وزارة الثقافة عن حصّته من لعبة الشطرنج النقابية، حتى زمننا الراهن وهو الذي حوّل مقرّ نقابته إلى "عمارة جان دارك" بلافيات حيث مسكنه، كي يدفع من ميزانيتها إيجار البيت. هل ثمّة الآن ما يدعو إلى غير الضحك؟ إلى غير هذا المستنقع المؤدلج؟ ثمّة صمت فنّي أكثر دموية من هذه الجريمة، يسكن حقيقة تسكن هي بدورها قصرا من نسيج ثقافي بصحبة عناكب وشياطين.